هندسة اقتصاديات الإعلام: المشروع السعودي
تاريخ النشر: 17th, June 2025 GMT
في عالم تتسابق فيه الدول على تطوير اقتصاديات الإعلام، لم يعد إرسال بريد إلكتروني بلغة إنجليزية موحدة إلى شركة عالمية كافيًا لإقناعها بالاستثمار أو الشراكة. فالمسألة لا تتعلق بالرسالة، بل بفهم لغة السوق والسياق والثقافة. وعندما نتحدث عن دول ناطقة بالفرنسية، أو الإسبانية، أو اليابانية، فإننا لا نخاطبها بكلمات، بل بمنظومات من القيم والسلوكيات والتوقعات وتطوير محتوى محلي يجذب تلك الاقتصادات.
من هنا تنبع الرؤى الاستراتيجية التي ترى أن جذب اقتصاديات الإعلام إلى المملكة العربية السعودية لا يكون فقط عبر العروض النظرية أو الملتقيات والمعارض الدولية، بل من خلال بناء جسور فاعلة من خلال التواصل متعدد اللغات، تقودها كفاءات سعودية تفهم الواقع العالمي ميدانيًا، وتتمكن من التنقل بين العواصم لا كزائرين، بل كمبادرين يعرضون نماذج ومشاريع قابلة للتنفيذ، حاملين معهم منظومة متكاملة من التشريعات الذكية، والبنية التحتية المرنة، والدعم اللوجستي المستدام، والنجاحات المحلية، والرؤى الحكومية الواضحة التي توائم بين الهوية والربحية، وبين التمكين الثقافي والاستثمار العالمي.
إن الإعلام اليوم بوصفه قوة ناعمة تُشكّل الوعي الجمعي وتعيد إنتاج صورة الوطن في ذهن المواطن وفي أعين العالم الخارجي، يتطلب عدم اختزاله في أبعاد مالية فقط، أو اعتباره مجرد وسيلة لزيادة الوظائف أو الترفيه، فهذا يجعل المشروع الإعلامي هشًا على المدى المتوسط والبعيد، معرضًا للتآكل أو الابتلاع من قبل موجات العولمة الثقافية. لهذا، أؤمن أن الربحية الحقيقية لا تُبنى على تطوير المحتوى المحلي الإعلامي الحالي، بل إعادة تقديمه بلغة العصر وفهم السياق. وهذا ما يجعل المملكة العربية السعودية حالة فريدة: فهي تمتلك رصيدًا ثقافيًا وروحيًا وتاريخيًا عميقًا، وجذورًا حضارية ضاربة في التاريخ تجعل من الاستثمار في اقتصاديات الإعلام فرصة لزيادة الناتج المحلي.
ومع نضج الرؤية السعودية وثمارها المتحققة في مختلف القطاعات، يبرز الإعلام اليوم كركيزة مؤهلة لبناء اقتصاد وطني واعد، الذي يتطلب عملاً تكامليًا تشترك فيه التشريعات، والبنية التحتية، والنماذج التجارية، وتمكين الكفاءات لصناعة هذا الاقتصاد. ولقد قطعنا شوطًا معتبرًا، إلا أن الوقت قد حان لهندسة المشروع الإعلامي السعودي بجرأة تتجاوز التردد، مستندين إلى قيادة داعمة وكفاءات قادرة. خصوصا وإن التحولات الرقمية عالميا فتحت المجال لاعتماد نماذج هجينة: مثل الاشتراكات المدفوعة، والرعاية المؤسسية، وإنتاج المحتوى القابل للتصدير عبر منصات السينما ومن خلال صناعة الوثائقيات والبرامج. كما نحتاج إلى تطوير صناديق استثمار إعلامية تدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة تحديدا، وتُحفّز ريادة الأعمال الإعلامية. كما أن المناطق الإعلامية بدورها يجب أن تتجاوز دور الحاضنة إلى كونها منظومة إنتاج متكاملة، تقدم المعدات، وتستقطب المواهب، وتدعم خدمات ما بعد الإنتاج، بما يفتح الباب أمام تصدير المحتوى إلى الأسواق العالمية، ويمنح السعودية موقعًا تنافسيًا في خارطة الإعلام الدولي.
ومن خلال تجربتي المهنية والعلمية الممتدة لأكثر من ٢٠ عاما محليا وعالميا لا سيما أثناء دراساتي في إسبانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا وسويسرا والبرتغال، ورصدي المتعمق لنماذج مثل كندا وكوريا الجنوبية، تيقنت بأن تحقيق التوازن في بناء اقتصاد إعلامي ممكن وواقعي. فالنموذج الكندي يوفّق بين الاستقلال المالي وحماية الهوية المحلية بذكاء مؤسسي، بينما نجح النموذج الكوري في تصدير الثقافة الشعبية عالميًا دون المساس بلغتها أو روحها الاجتماعية. وهنا تكمن فرصتنا في السعودية: أن نبني اقتصادًا إعلاميًا متينا يلهم العالم لقصتنا الناجحة، ويحوّل الثقافة إلى منتج تنافسي، مع المحافظة على أصالة القيم والبعد التاريخي والحضاري والديني للمملكة.
ما طُرح سابقًا لا يكفي لتطوير اقتصاديات الإعلام؛ فلا بد من تمكين الكفاءات المحلية والحوكمة، فالكوادر السعودية تمتلك الموهبة والذكاء، لكنها بحاجة إلى بيئات تعليم إنتاجي، لا إلى تدريب تقليدي. ومن خلال إشرافي ومشاركتي في مشاريع إعلامية داخل المملكة وخارجها، لمست كيف يتحول الشاب من هاوٍ إلى محترف عندما يدعم مشروعه، ويتم تمكينه من التعامل مع الأدوات الرقمية، ودعمه لتوزيع أعماله. ولذا فالتمكين لا يعني التدريب فقط، بل توفير منصات واقعية لاختبار القدرات، ومشاريع تُظهر الطاقات وتُراكم الخبرات. أما الحوكمة، فهي ليست رقابة فحسب، بل يجب أن تكون أداة استراتيجية تُحفّز الاستثمار والابتكار من خلال ترخيص سريع لا يفرّط في الجودة، وحماية ذكية للمحتوى المحلي دون إعاقة المنافسة، وتقديم حوافز جذابة للمنصات العالمية لإنتاج محتوى سواء بلغة المستثمر أو بلغة سعودية. وفي الحقيقة فإن بعض هذه السياسات تم تطبيقها وبدأت تظهر نتائجها، لكنها تحتاج تسريعًا لتواكب إيقاع رؤية 2030.
بقي القول، إنه في هذا السياق المتغير، أؤمن أن بناء اقتصاد إعلامي سعودي فاعل لن ينجح بحلول آنية وقتية، أو جزئية، أو بأفكار متناثرة بين القطاعات الإعلامية، أو تجارب محكومة عليها بعدم النجاح، بل بقيادة متوثبة تعي أن الإعلام هو رافعة اقتصادية وهوية وطنية في آنٍ واحد. ومن خلال مسيرتي الممتدة في بيئات دولية متعددة، أدركت أن توطين الإعلام لا يعني التضييق أو الاعتماد على أفكار حالمة وتنظير وبالعقلية الواحدة، بل بتوسيع الأفق ورؤية تستثمر في الإنسان والمحتوى والتقنية. إن الإعلام السعودي اليوم أمام فرصة تاريخية لتشكيل نموذج إعلامي يصدر القيم، ويستثمر في المحتوى، ويُنتج اقتصادًا ثقافيًا مستدامًا. ومع قيادة داعمة، وكوادر قادرة، وسياسات مرنة، يمكننا هندسة مستقبل إعلامي ينتج للعالم بلغة سعودية، ويُنافس بثقة، ويقود بإبداع.
ــ
صحفي وأكاديمي.
الإعلاماقتصاديات الإعلامقد يعجبك أيضاًNo stories found.المصدر: صحيفة عاجل
كلمات دلالية: الإعلام اقتصاديات الإعلام اقتصادیات الإعلام ومن خلال من خلال
إقرأ أيضاً:
منتدى طرابلس يدق ناقوس الخطر للحفاظ على الهوية العربية في العالم الرقمي
بمشاركة رسمية رفيعة من جامعة الدول العربية، تحولت فعاليات "منتدى الحوار الإعلامي العربي الدولي" في طرابلس، الى منصة لإطلاق تحذيرات عاجلة لمخاطر تهدد الهوية العربية في الفضاء الرقمي المفتوح.
جاء المنتدى ضمن فعاليات "أيام طرابلس الإعلامية 2025"، التي اختتمت بحدث رمزي كبير هو افتتاح المتحف الوطني الليبي في قصر السرايا الحمراء بعد تطويره بتقنيات تفاعلية، مؤكدةً على معادلة الجمع بين الأصالة والمعاصرة التي نادى بها المشاركون.
وشهدت الجلسات، التي أدارها إعلاميون ليبيين بالتلفزيون الوطنية وهم محمد حديد، ومحمود الشركس ومحمد التراسي مشاركة نخبة من صُناع القرار والخبراء العرب، من بينهم عدد من الوزراء والسفراء، ممثلين عن دول عربية مختلفة، بالإضافة إلى أسماء إعلامية وفنية بارزة، مما منح الحوار زخماً رسمياً وشعبياً.
وناقش المنتدى من خلال ثلاث جلسات عمل محاور حيوية، تمحورت حول "الهوية العربية وصناعة المحتوى الإعلامي"، و"التدريب المهني وتطوير المحتوى الرقمي"، و"توظيف الذكاء الاصطناعي في الإعلام". وتميزت هذه الدورة بمشاركة أولى لمنظمتي "الإيسيسكو" و"الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري" بصفة مراقب.
لم يقتصر المنتدى على التشخيص الأكاديمي، بل حاول رسم خريطة طريق عملية للخروج من المأزق، مركزاً على ضرورة تطوير استراتيجية عربية موحدة تحدث عنها السفير أحمد رشيد خطابي الأمين العام المساعد رئيس قطاع الإعلام والاتصال بالجامعة العربية تستطيع من خلالها الأمة العربية صياغة وجودها الرقمي بلسانها وقيمها، بدلاً من الاستمرار في دور المستهلك السلبي لمحتوى الآخر، الذي قد يؤدي إلى فقدان تدريجي لملامح هويتها.
جمع المنتدى، الذي ناقش محاور الهوية العربية وصناعة المحتوى الإعلامي والتدريب المهني وتطوير المحتوى الرقمي وتوظيف الذكاء الاصطناعي في الإعلام، عددا كبيرا من الشخصيات البارزة. من بينهم وزرا الاعلام زهير بو عمامة من الجزائر، وحمزة المصطفى من سوريا، وأسامة هيكل وزير الإعلام المصري الأسبق، وزياد مكاري وزير الإعلام اللبناني الأسبق، بالإضافة إلى سفراء ومستشارين وإعلاميين وفنانين مصريين بارزين مثل منى الشاذلي وباسم يوسف وأحمد فايق.
لم يقتصر المنتدي على تشخيص الخطر، بل حاول رسم خريطة طريق للخروج من المأزق، مقترحا معادلة دقيقة تجمع بين الحفاظ على الهوية واللغة، وبين الابتكار والتفاعل مع أدوات العصر من ذكاء اصطناعي ومنصات رقمية.