إبراهيم شقلاوي يكتب: خميس الفكرة والنغم وتقرير المصير!
تاريخ النشر: 28th, June 2025 GMT
حين يعلو صوت البندقية على كل الأصوات، وتُمحى الملامح الثقافية أمام زحف الحرب فإن التاريخ يصنعه الجند إلى جانب المبدعون الأذكياء، بين ذاك وتلك يطل سؤالنا: أين المبدعون السودانيون؟ أولئك الذين لطالما شكّلوا وجدان الأمة السودانية، ومهّدوا بالكلمة واللحن والمسرح دروب الوطنية وبناء الوعي.
فمنذ اندلاع الحرب المخزية في 15 أبريل 2023، تشهد البلاد واحدة من أقسى مراحلها، أزمة وجودية تهدد الهوية وتعيد صياغة المجتمع السوداني وفق معادلات جديدة .
غياب المبدع السوداني عن مشهد الحرب والمحنة مثل فراغ في لحظة تستدعي الحضور أكثر من أي وقت مضى. فقد علّمنا تاريخ السودان أن الكلمة كانت دومًا جزءً من النضال الوطني ، وأن الأغنية كتبت ما عجزت عنه الصحف، والمسرح قال ما لا تجرؤ عليه المنابر. في زمن الثورة، لم يكن الشارع ليشتعل دون صوت محمد الأمين، ولا كانت الذاكرة لتحتفظ بالحلم دون قصائد محمد المكي إبراهيم .
وفي لحظات التراجع، كتب حسين أونسة “عزيزٌ أنت يا وطني برغم قساوة المحن”، لتصبح كلماته وقود لأجل استعادة الثقة. لم يكن الشعر ترفاً ولا الأغنية تسلية، بل كانت سلاحًا في معركة الكرامة التي أعزت السودانين اصحاب الفكرة والتدبير ، كما كانت طريقًا لرأب الصدع حين توارت القيم التي توحد شتات الناس.
غير أن هذا الغياب لا يُفهم إلا بمقارنة تجارب شعوب أخرى مرت بالمأساة ذاتها، ونجحت، إلى جانب البندقية في حفظ الأوطان ، بمداد المبدعين. تجربة رواندا تظل شاخصة نستلهم منها الدروس والعبر ،و التي شهدت في عام 1994 واحدة من أبشع الإبادات الجماعية في العصر الحديث، تُظهر كيف يمكن للكلمة أن تصبح جسراً للعبور للمستقبل.
في مجتمع تمزقه الانتماءات الإثنية، تحوّل الفن إلى أداة للمكاشفة والاعتراف، استخدم المسرح ليحكي ما لا يُقال، وليروي قصص الناجين والجلادين في لحظة واحدة، فكانت الخشبة أكثر صدقاً من منصات العدالة الدولية، وأكثر فاعلية في بناء الذاكرة المشتركة. هذه التجربة، التي جعلت من الإبداع مكوناً في عملية المصالحة، تصلح كنموذج قريب من الحالة السودانية، إذ لا يختلف المشهد كثيرًا من حيث طبيعة الانقسامات أو عمق الجراح.
في رواندا لم تُصنع الهوية الوطنية في غرف السياسة وحدها، بل في الفضاء الثقافي الذي أعاد بناء الإنسان. وكذلك الحال في لبنان، البلد الذي عرف حربًا أهلية امتدت لخمسة عشر عامًا. هناك كان المسرح السياسي والموسيقى والسينما منصات لطرح الأسئلة المؤجلة: من نحن؟ ولماذا احترق هذا البلد؟ لقد لعب فنانون وطنيون امثال فيروز و زياد الرحباني دورًا فريدًا في زعزعة السرديات الطائفية، بلغة تسخر من العبث وتعري تناقضات الواقع. وبينما فشل السياسيون في علاج الانقسام، ظل الفن ملتقي اللبنانيون دون أن يسألوا عن طائفة أو دين.. فقد اجتمعوا علي حب الوطن.
لبنان ورواندا، كلٌ بطريقته، أثبتا أن المبدع لا يأتي بعد انتهاء المعركة، بل قبلها وأثناءها وبعدها. وأن الإبداع ضرورة وجودية في لحظات التصدع. وهذا هو الدرس الأهم الذي ينبغي أن يستوعبه المبدعون السودانيون اليوم. فالشعب لا ينتظر منهم تهويمات شاعرية أو عزفًا خارج السياق، بل خطابًا فنياً يُعيد توحيد الذاكرة الممزقة، ويكتب ما تهابه النشرات الإخبارية.
إن السودان بما يحمله من تنوع ثقافي، ليس في حاجة إلى نخب سياسية متصارعة بقدر ما يحتاج إلى مخيلة جديدة، وإلى سردية تعيد تشكيل ما تمزق من نسيجه الاجتماعي، بلغة الوطن الذي يسع الجميع. يحتاج إلى أغنية تواسي مدني وهي تصمد، وقصيدة تنقذ الخرطوم من الغرق في التناقضات، ومسرحية تلمّ شتات كردفان ودارفور التي اوشكت ان تمضي لغير رجعة.
هذا وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة وفي ضوء ما يمر به السودان من تحولات، فإن إعادة تأسيس الدولة السودانية لا يمكن اختزالها في المسارات السياسية أو الأمنية وحدها، بل تتطلب استنهاض القوى المنتبهة المبدعون جزء منها ، كتاب ومسرحيين وشعراء وفنانين. فهؤلاء ليسو ناقلي مشاعر أو مؤرخي أحداث، بل فاعلون في تشكيل الوعي الجمعي، و الذاكرة الثقافية، ومهندسو للخيال الوطني.
إن المسرح الذي يعرّي بنية العنف، والشعر الذي يستبطن الألم ويحوّله إلى أمل، والفن الذي يوحّد الشارع عندما تعجز السياسة، هي أدوات لا تقل أهمية عن أدوات التفاوض والمصالحة والعدالة الانتقالية. ومن هذا المنطلق، فإن ضمان بقاء السودان كفكرة جامعة ومشروع وطني ناهض قابل للاستمرار، مرهون بمدى قدرة نخبه الإبداعية على إعادة إنتاج السرد الوطني، وصياغة خطاب منتج يعبر عن التنوع، ويجسر الهوة الاجتماعية.. ذلك خميس الفكرة والنغم وتقرير المصير.
دمتم بخير وعافية.
إبراهيم شقلاوي
الخميس 26 يونيو 2025 م [email protected]
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
رغم وجود خلافات حول خطة احتلال غزة.. زامير يصادق على الفكرة المركزية للهجوم
تصاعد التوتر بين رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير من جهة، ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس من جهة أخرى، على خلفية خطة احتلال مدينة غزة، قبل أن يعلن الجيش مصادقة زامير على الفكرة المركزية للهجوم خلال اجتماع موسع شارك فيه قادة عسكريون وأمنيون. اعلان
أعلن الجيش الإسرائيلي أن رئيس الأركان، الجنرال إيال زامير، صادق الأربعاء على الفكرة المركزية لخطة عمل الجيش في قطاع غزة، وذلك خلال جلسة موسعة حضرها منتدى هيئة الأركان العامة، وممثلون عن جهاز "الشاباك"، إلى جانب قادة عسكريين آخرين.
وخلال الاجتماع، استعرض زامير مسار العمليات التي نفذتها القوات حتى الآن، بما في ذلك الهجوم الذي بدأ أمس في منطقة الزيتون، قبل أن يتم اعتماد التصوّر العام للمراحل المقبلة في القطاع، بما يتماشى مع توجيهات المستوى السياسي.
وشدد قائد الجيش على ضرورة تعزيز جاهزية القوات، والاستعداد لاحتمال استدعاء قوات الاحتياط، مع إجراء تدريبات إنعاشية ومنح القوات فترة استراحة قصيرة تمهيدًا لتنفيذ المهام القادمة.
Related إسرائيل تبحث التوجّه إلى الدوحة ووفد حماس يصل القاهرة.. نتنياهو: الصفقة الجزئية أصبحت خلفناوسط نقاشات حول الاعتراف بفلسطين.. رئيس وزراء نيوزيلندا يصف نتنياهو بأنه "فقد صوابه"خلافات حول احتلال غزة.. نتانياهو: إسرائيل تريد السيطرة على القطاع لا حكمه توتر في العلاقة بين زامير ونتنياهووفي الأيام الأخيرة، تصاعدت حدة التوتر بين رئيس الأركان إيال زامير من جهة، ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس من جهة أخرى، على خلفية خطة السيطرة على مدينة غزة. فقد برزت الخلافات مع إصرار نتنياهو وكاتس على الإسراع في تنفيذ الخطة وفرض أمر واقع ميداني، في حين أبدى زامير تحفظات تتعلق بالتوقيت والجاهزية العسكرية في ظل تعدد الجبهات، إضافة إلى المخاطر على الجنود والمحتجزين الإسرائيليين في القطاع.
وعبّر زامير عن رفضه القاطع لخطة الاحتلال الكامل لغزة، واصفًا إياها بأنها "فخ استراتيجي" من شأنه أن يستنزف الجيش الإسرائيلي لسنوات طويلة ويعرض حياة الرهائن المحتجزين في القطاع لخطر بالغ.
وأكد في مداخلته خلال جلسة تقييم متعددة الجبهات عقدها منتدى هيئة الأركان العامة ، الخميس الماضي، أنه سيواصل التعبير عن موقفه المهني المستقل، قائلاً: "نحن لا نتعامل مع نظريات، بل مع أرواح بشر ودفاع عن الدولة".
وأضاف أن الخلافات داخل القيادة تعكس "ثقافة الاختلاف التي لطالما ميزت الشعب اليهودي"، وأنه لن يخشى التعبير عن رأيه، رغم الانتقادات الحادة التي تلقاها من وزراء وأعضاء في الكنيست وحتى من زوجة رئيس الوزراء سارة نتنياهو.
وبحسب تقارير عبرية، يرى زامير أن العملية تحتاج إلى تهيئة ميدانية أوسع وضمانات لمرحلة ما بعد السيطرة، خصوصًا في ما يتعلق بإدارة المدينة ومنع حدوث فراغ أمني قد تستفيد منه الفصائل الفلسطينية. في المقابل، يتهم مقربون من نتنياهو القيادة العسكرية بمحاولة إبطاء العملية لأسباب سياسية أو مهنية، معتبرين أن الحسم السريع في غزة يخدم الردع الإسرائيلي ويعزز موقف الحكومة داخليًا.
خلاف حول التعيينات العسكريةفي سياق متصل، احتدم الخلاف بين وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، ورئيس الأركان على خلفية تعيينات جديدة في صفوف الضباط الكبار، إذ شدد كاتس على أنه صاحب الصلاحية للمصادقة على التعيينات من رتبة عقيد فما فوق، بعد توصية من رئيس الأركان، منتقدًا ما وصفه بمحاولات تغيير الإجراءات بناءً على نصائح "مستشارين معادين للحكومة".
وقال كاتس إنه يواصل توجيه الجيش في مختلف الجبهات وفق سياسة هجومية واضحة، ومتابعة شؤون المؤسسة العسكرية والأمنية عن قرب، مشددًا على أنه بعد هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر "لم يعد مقبولًا وجود جيش لا يخضع للرقابة والإشراف" وفق تعبيره. وأكد أن محاولات فرض أمر واقع في ملف التعيينات "لن تنجح"، معتبرًا أن الأضرار التي لحقت بضباط الجيش نتيجة هذه السياسة "سلبية ومؤسفة".
وبحسب هيئة البث الإسرائيلية، رفض كاتس المصادقة على قائمة التعيينات التي أعدها زامير، ومنع الأخير من دخول مكتبه رغم اجتماع كان مقررًا لبحثها، فيما نشر الجيش القائمة الخاصة برتبة عميد دون توقيع وزير الدفاع. وذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن قادة عسكريين اتهموا القيادة السياسية، وعلى رأسها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بالوقوف وراء عرقلة التعيينات للضغط على الجيش للمضي قدمًا في خطة السيطرة على مدينة غزة.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة