في كتاب جُمعت فيه تلخيصات عن تاريخ فلسطين وردت في مراجع عربية وإنكليزية وفرنسية وتركية، وصدر عام 1943 قال المؤرخ الفلسطيني عارف العارف إن غزة «صمدت لنوائب الزمان بجميع أنواعها، وطوارئ الحدثان بجميع ألوانها، حتى أنه لم يبق فاتح من الفاتحين أو غاز من الغزاة المتقدمين والمتأخرين الذين كانت لهم صلة بالشرق، إلا ونازلته، «.
ولكن لماذا غزة؟
بعض المدن – كغزة – تفرض عليها الجغرافيا المواجهة، ثم إذا تكاثرت مواجهاتها فرض عليها التاريخ الاستمرار، فتجتمع الجغرافيا والتاريخ في تشكيل صورة تلك المدن، وجعلها في قلب العواصف والأحداث، حيث تصبح المواجهة قدراً لا مفر منه، لأسباب تتجذر في طبيعتها الجغرافية، ومكانتها التاريخية.
وفي غزة ترتبط دلالات التسمية بتاريخ الأحداث، إذ يذهب كثير من المعجميين، من لغات مختلفة إلى أن معاني هذا الاسم تدور حول دلالات العزة والمنعة والقوة، وهناك معانٍ أخرى لاسم «غزة» تدور حول الكثرة والوفرة والكنوز، وهذه المعاني والدلالات مجتمعة تسلط الضوء على المكانة الجيوسياسية والاقتصادية لهذه المدينة.
وفي الوقت الذي تشير فيه معاني القوة والمنعة والعزة المتضمنة في تسمية غزة إلى كثرة الحروب والصراعات التي دارت على هذه الأرض، والتي جعلت المدينة رمزاً للصمود والقوة، فإن معاني الوفرة والكثرة والغنى المتضمنة كذلك في التسمية تشير إلى المكانة الاقتصادية للمدينة، الأمر الذي جعلها محط أنظار الطامعين، على مدار التاريخ، من آشوريين وبابليين وإغريق وهكسوس وفرس ورومان، وصليبيين وإسرائيليين، حيث كانت ملتقى طرق هيأتها لتكون مركزاً تجارياً مهماً، أو «ريفييرا قديمة»، الأمر الذي جعل المدينة مطمعاً للقوى الكبرى في العالم القديم وإلى اليوم، وهو ما يفسر كونها ساحة صراعات متكررة.
وإذا تأملنا طبيعة الحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل اليوم على غزة وجدنا أن العوامل الاقتصادية والجيوسياسية التي كانت دائما السبب الرئيسي وراء محاولات السيطرة على القطاع، هذه العوامل لا تزال تحرك الصراع، تحت يافطات مختلفة، أمنية وسياسية ودينية.
وفي شهر فبراير الماضي كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطته الاقتصادية لغزة، أو «ريفييرا الشرق الأوسط»، وذلك بتحويل القطاع إلى مركز تجاري عالمي، تكون لأمريكا فيه «ملكية طويلة الأمد»، بعد نقل الفلسطينيين إلى مكان أو أماكن أخرى، لـ«دواع إنسانية»، تشبه تلك «الدواعي الإنسانية» التي دفعت أوروبا سابقاً إلى «إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين».
كانت غزة ضمن مداولات بين أطراف عدة، خلال السنوات الأخيرة، وهي مداولات اقتصادية متعلقة بمشروع «طريق الهند»، وهو طريق أريد له منافسة «طريق الحرير» الصيني، المشروع الضخم الذي تريد الصين من خلاله توسعة امبراطوريتها الاقتصادية براً وبحراً، عبر أواسط آسيا وتركيا براً، وعبر طرق الملاحة البحرية المتجهة من الصين إلى الشرق الأوسط، ومن ثم إلى أوروبا.
كان هناك عدة أهداف استراتيجية من وراء مشروع طريق الهند، فعدا عن الأهمية الاقتصادية، فإن هذا المشروع كان يهدف إلى ضرب المشروع الصيني الكبير، وكانت غزة في قلب الصراع بين المشروعين: الصيني والأمريكي الذي ظهر بتسمية هندية، حيث كان مقرراً لـ«الطريق الهندي» أن يبدأ من الهند، مروراً بالخليج العربي، عبر طرق ملاحة بحرية، وصولاً إلى ريفييرا/غزة، عبر شبكة من الطرق البرية، ومن ثم إلى أوروبا.
لم يكن – إذن – حديث ترامب عن تحويل غزة إلى ريفييرا الشرق الأوسط عبثاً، وهو الذي اعتبرها «فرصة عقارية رائعة»، ولم يكن الحديث مجرد «طلعة» من طلعات الرئيس الأمريكي الذي يحب الخروج عن النص، ولكن الفكرة كانت تتسق مع مشروع الطريق الهندي، ضمن «مشروع الشرق الأوسط الكبير» الذي ظل على مدى عقود طويلة حلماً يراود الكثيرين، وعلى رأسهم إسرائيل التي كثرت تصريحات رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو عن مرحلة جديدة لشرق أوسط جديد، هو بالطبع شرق أوسط بمواصفات أمريكية إسرائيلية، تأتي غزة في الصدارة منه، في محاولة لاختصار الصراع في الشرق الأوسط في كونه مجرد «نزاع عقاري»، حسب جاريد كوشنر صهر ترامب ومستشاره السابق.
لكن «ريفييرا غزة» ـ وهو مشروع «استعماري/استيطاني» بملامح استثمارية ـ يواجه عراقيل كثيرة، هي العراقيل التي انعكست في المرارة التي حملها تصريح شهير لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين، عندما قال: «أتمنى أن أصحو من النوم ذات يوم، لأرى غزة وقد ابتلعها البحر».
أكثر هذه العراقيل «شعب غزة»، وهو شعب متمسك حد الذهول بأرضه، ويرجع سبب ذلك إلى كون شرائح كبيرة من هذا الشعب هي في الأصل شرائح لاجئة، ذاقت هي وآباؤها وأجدادها مرارة التطهير العرقي والتهجير القسري عام 1948، من الداخل فلسطيني المحتل إلى قطاع غزة، ولذا نجد لديهم حساسية عالية من التهجير، وتجذراً في تربة الأرض التي قاومت الكثير من الغزاة من الإسكندر المقدوني إلى بنيامين نتنياهو.
أخيراً: إذا كانت الكولونيالية الجديدة تريد بالقوة تحويل غزة إلى «فرصة استثمارية رائعة»، فإن هذه القوة العمياء، ودون أن تشعر، قد عملت على تقويض «ريفييرا الاستثمار» لصالح «قلعة المقاومة»، حيث تحول الركام إلى إرادة قوية لمقاومة الاحتلال، والتمسك بالأرض، ورفض محاولات التهجير، رغم «أهوال يوم الدين» التي يواجهها سكان غزة.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة ترامب التهجير الاحتلال غزة الاحتلال التهجير ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشرق الأوسط
إقرأ أيضاً:
عبد اللطيف: مشروع تعديل قانون التعليم لا يمس مجانية التعليم التي تعد حقا أصيلا ودستوريا
أكد وزير التربية والتعليم، محمد عبداللطيف، أن التعديلات المقترحة في مشروع تعديل قانون التعليم تأتي في إطار التزام الدولة المصرية بتطوير منظومة التعليم وفقا لمعايير الجودة العالمية، كما نصت عليه المادة ١٩ من الدستور المصري، مؤكدا أن مشروع تعديل القانون لا يمس مجانية التعليم التي تعد حقا أصيلا ودستوريا للمواطن المصري.
واستعرض محمد عبد اللطيف وزير التربية والتعليم والتعليم الفني مختلف جوانب مشروع تعديل قانون التعليم ومشروع شهادة البكالوريا المصرية المقدم كبديل للثانوية العامة أمام لجنة التعليم والبحث العلمي بمجلس النواب، برئاسة الدكتور سامي هاشم رئيس اللجنة.
جاء ذلك بحضور، المستشار محمود فوزي وزير الشئون النيابية والقانونية والتواصل السياسي، والدكتورة ماجدة بكرى وكيل لجنة التعليم والبحث العلمي، والدكتور مصطفى رفعت الأمين العام للمجلس الأعلى للجامعات.
وحضر من الوزارة، الدكتور أحمد ضاهر نائب وزير التربية والتعليم، والدكتور أيمن بهاء الدين نائب وزير التربية والتعليم، والدكتور أحمد المحمدى مساعد الوزير للتخطيط الاستراتيجى والمتابعة والمشرف على الإدارة المركزية لشئون مكتب الوزير، والمستشار أشرف السيد المستشار القانونى للوزير، والأستاذ وليد ماهر مدير الإدارة العامة للاتصال السياسى والشئون البرلمانية.