من الوميض إلى الرماد: سيناريو علمي لكارثة نووية شاملة
تاريخ النشر: 23rd, July 2025 GMT
في الثانية الأولى، لا تسمع شيئًا. وميض أبيض أنقى من الضوء نفسه يملأ السماء، كما لو أن شمسًا جديدة انفجرت في قلب السماء. خلال أجزاء من الثانية، تتبخر الأجساد الأقرب إلى مركز الانفجار، تذوب النوافذ، وتتحول الجدران إلى موجة من اللهب. هذا ليس مشهدًا من فيلم خيال علمي، بل صورة حقيقية لما يمكن أن تسببه قنبلة نووية واحدة فقط.
لكن ما سنستعرضه في هذا المقال لا يتوقف عند قنبلة واحدة. فوفقًا لنماذج علمية مدروسة، تفجير ما بين 100 إلى 150 ميجاطن من مادة TNT - أي ما يعادل تفجير مئات القنابل النووية فوق مدن كبرى - كفيل بإطلاق كميات هائلة من الدخان والسخام في الغلاف الجوي، تؤدي إلى ظاهرة تُعرف بـالشتاء النووي. هذه الظاهرة تتسبب بانخفاض درجات الحرارة عالميًا، واختفاء ضوء الشمس لأشهر أو حتى سنوات، مما يؤدي إلى انهيار الأنظمة البيئية والزراعية، واندلاع مجاعة عالمية تهدد بانقراضٍ واسع النطاق.
للمقارنة، كانت قنبلة هيروشيما تزن فقط 15 كيلوطنا، في حين أن أكبر قنبلة نووية فُجّرت على الإطلاق - القنبلة الروسية «قيصر» عام 1961 - بلغت 50 ميجاطنا. وحدها لم تكن كافية لإحداث تأثير عالمي. ولكن في حال اندلاع حرب شاملة بين القوى النووية الكبرى - مثل الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وفرنسا، والهند، وباكستان - فإن ترسانة هذه الدول، التي تحتوي مجتمعة على آلاف الرؤوس النووية، كافية لتجاوز هذا الحد وتحويل الكوكب إلى مسرح لنهاية الحضارة كما نعرفها. في هذا المقال، لن نناقش السياسة، ولن ندخل في الجدل الأخلاقي أو الجيوسياسي، بل سنمشي في رحلة زمنية واقعية وعلمية لما يحدث بعد أن تنفجر القنبلة: ماذا نرى؟ ماذا نشعر؟ ماذا يختفي؟ وماذا يتبقى؟ سنتتبع الآثار منذ اللحظة الأولى، مرورًا باليوم الأول، فالأسبوع، فالشهر، حتى مرور عام، وقرن. سأشرح كيف يتحول الجسد البشري إلى ساحة للدمار؟ وكيف ينهار النظام الصحي والاجتماعي؟ وكيف تصاب الأرض نفسها بجرح طويل الأمد؟
اللحظة صفر: الانفجار
تبدأ الحكاية من نقطة صغيرة جدًا بحجم برتقالة. داخل رأس نووي، يرقد معدن ثقيل، عادةً من اليورانيوم أو البلوتونيوم، منتظرًا الأمر النهائي. في اللحظة التي يصل فيها هذا الأمر، تنطلق سلسلة من الأحداث خلال جزء من مليون من الثانية، حيث تُضغط نواة الذرة بشدة لتبدأ عملية الانشطار النووي. في هذه العملية، تنقسم الذرة الكبيرة إلى ذرات أصغر، محررةً كمية هائلة من الطاقة المخزّنة في نواة الذرة نفسها. الطاقة الناتجة عن انفجار نووي واحد قد تصل إلى آلاف، بل ملايين الأطنان من مادة «تي إن تي»، وهي كمية كافية لمحو مدينة كاملة. تتجسّد هذه الطاقة في ومضة بيضاء حارقة تُسمى «النبضة الحرارية»، تصل حرارتها إلى ملايين الدرجات المئوية، وهي بذلك أكثر سخونة من سطح الشمس. في لحظة واحدة، تتحول جميع الأشياء القريبة من مركز الانفجار إلى رماد. الإنسان القريب من الانفجار لا يشعر بالألم ولا يدرك ما أصابه، فجسده يتبخر فورًا من شدة الحرارة. أما المباني القريبة، فتذوب الجدران والزجاج والمعادن في لحظة خاطفة. يتبع هذه النبضة الحرارية موجة صدمية هائلة تنتقل بسرعة تفوق سرعة الصوت، محطمةً كل شيء يقف في طريقها: منازل، أشجار، سيارات، والبشر. ولأن الانفجار يطلق أيضًا وميضًا ضوئيًا شديدًا، فإن من يشاهدونه من مسافات بعيدة قد يصابون بما يُعرف بـ«العمى الومضي» (Flash Blindness)، وهو فقدان مؤقت أو دائم للبصر ناتج عن شدة الضوء المفاجئ. وفي اللحظة نفسها، تنبعث أشعة جاما عالية الطاقة، التي تؤدي إلى تأين
الهواء وإطلاق ظاهرة أخرى مدمرة تسمى «النبضة الكهرومغناطيسية» (Electromagnetic Pulse – EMP)، التي تتحرك بسرعة وتؤدي إلى تعطيل أو تدمير الأجهزة الإلكترونية وشبكات الاتصالات في نطاق واسع جدًا، مسببة انهيارًا صامتًا ومتزامنًا للبنية التحتية الحديثة.
كل هذه الأحداث الكارثية تحدث في أقل من ثانية واحدة، لكنها ثانية كافية لتغيير الأرض إلى الأبد.
أول 24 ساعة بعد الانفجار
بعد أن ينطفئ الوميض وتخفت الموجة الصدمية الأولى، تبدأ الكارثة الحقيقية في الظهور. خلال الدقائق الأولى التي تلي الانفجار، ترتفع سحابة عملاقة من الرماد والغبار، تُعرف باسم «سحابة الفطر»، وهي مشهد مألوف من الأفلام والصور، لكنها في الواقع أكثر رعبًا مما نعتقد. هذه السحابة تحمل بداخلها ملايين الجسيمات المشعة التي تبدأ في التساقط ببطء على الأرض، فيما يُعرف بـ«التساقط النووي»(Fallout).
في الساعات الأولى، تسود حالة من الذهول والارتباك. يندفع الناجون الذين ابتعدوا عن مركز الانفجار إلى الشوارع بحثًا عن مأوى أو مساعدة، لكنهم يجدون واقعًا أشبه بالكابوس: الطرق مدمرة، وسائل الاتصال معطلة بسبب النبضة الكهرومغناطيسية التي ترافق الانفجار، والمستشفيات — إن كان لها وجود بعد — فهي مزدحمة أو مدمرة جزئياً.
في هذا الوقت، يبدأ التساقط النووي في تغطية المناطق المحيطة بغبارٍ مشع، يشبه إلى حد ما الثلج أو الرماد، غير أنه قاتل. قد لا يشعر من يتعرض لها بأي ألم في البداية، لكنه سيصاب بعدها بساعات قليلة بأعراض حادة تُعرف باسم «متلازمة الإشعاع الحادة»: غثيان، قيء، صداع شديد، وإعياء عام. مع مرور الوقت، قد يتساقط الشعر، وتبدأ حروق وتقرحات مؤلمة بالظهور على الجلد.
تزداد صعوبة الوضع أكثر مع حلول الليل. الظلام يخيّم على المدينة المدمرة، فيما يستمر التساقط النووي دون توقف. يحاول الناجون البقاء في الملاجئ أو الأقبية، إن وُجدت، على أمل تقليل تعرضهم للإشعاع. أما أولئك الذين لم يجدوا مأوى آمنًا، فسيعانون من مستويات قاتلة من الإشعاع، وربما لن يبقوا على قيد الحياة حتى صباح اليوم التالي.
مع نهاية الـ24 ساعة الأولى، تصبح المدينة أشبه بمقبرة ضخمة، ويتضح للجميع أن هذه الكارثة لم تكن مجرد انفجار مدمر، بل بداية مأساة قد تستمر لعقود طويلة.
الأسبوع الأول بعد الانفجار
مع انقضاء الأسبوع الأول ودخول الأسبوع التالي، تتحوّل الكارثة إلى واقعٍ جديد يعيشه الناجون. خلال هذا الأسبوع، تبدأ الآثار غير المباشرة للانفجار النووي في الظهور بشكلٍ واضح ومخيف. تسود حالة من الفوضى بسبب تعطل شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات، بعد أن أدى ما يُعرف بالنبضة الكهرومغناطيسية (Electromagnetic Pulse - EMP) إلى احتراق وتعطيل الأجهزة الإلكترونية والبنية التحتية للاتصالات.
في الأيام الأولى، يصبح التحدي الأكبر هو التعامل مع التساقط النووي (Fallout). هذه الجسيمات المشعة تأتي من المواد الانشطارية المتبقية التي لم تُستهلك بالكامل خلال الانفجار، وهي تنتشر في الغلاف الجوي وتترسب ببطء على سطح الأرض. عندما يتنفس الإنسان هذا الغبار أو يبتلعه مع الطعام أو الماء، تدخل الجسيمات المشعة إلى داخل الجسم، وتُعرّض خلاياه لأضرار بالغة بسبب الإشعاع المؤيّن (Ionizing Radiation). يبدأ الإشعاع بتدمير جزيئات الحمض النووي (DNA) داخل الخلايا، وهو ما يسبب طفرات جينية، أو موت الخلايا، مما يؤدي إلى أعراض مثل تساقط الشعر، النزيف الداخلي، انخفاض حاد في المناعة، ومشاكل في الجهاز الهضمي، هذه الحالة تسمى «متلازمة الإشعاع الحادة» (Acute Radiation Syndrome - ARS).
في اليوم الثالث تقريبًا، تبدأ حالات الإصابة بأمراض الجهاز الهضمي والرئتين في التزايد بشكل كبير نتيجة استنشاق الجزيئات المشعة. يزداد الوضع سوءًا مع غياب الرعاية الطبية المناسبة؛ فالمستشفيات إما مدمرة أو أنها خارج الخدمة بسبب نقص الموارد والكهرباء.
مع حلول نهاية الأسبوع الأول، تواجه المنطقة كارثة بيئية حقيقية: الحيوانات والنباتات التي نجت من الانفجار الأولي تموت تدريجيًا بسبب التسمم الإشعاعي، مما يُفقد الناجين أي فرصة للحصول على مصادر غذائية سليمة. المياه السطحية والجوفية أيضًا تتلوث بمواد مشعة مثل «السيزيوم-137» (Cesium-137) و«اليود-131» (Iodine-131)، مما يجعلها غير صالحة للشرب دون معالجات خاصة.
الشهر الأول بعد الانفجار
بعد مرور أربعة أسابيع على الكارثة النووية، يتضح بشكل نهائي أن تداعياتها لا تقتصر على الدمار اللحظي، بل تمتد إلى ما هو أبعد بكثير. في هذا الوقت، تبدأ ظاهرة تُعرف بـ«الشتاء النووي» (Nuclear Winter) بالظهور. السحابة الكثيفة من الرماد والدخان والجسيمات الدقيقة التي أطلقتها الحرائق والانفجارات النووية تصل إلى الغلاف الجوي العلوي، وتبدأ تدريجيًا بحجب ضوء الشمس عن الأرض.
نتيجة هذا الحجب، تنخفض درجات الحرارة في مناطق واسعة من العالم بشكل ملحوظ، ربما لعدة درجات مئوية. قد يبدو هذا الانخفاض بسيطًا، لكنه في الواقع كافٍ لتعطيل النظام البيئي والزراعي بشكل كامل. مع غياب أشعة الشمس، تفشل المحاصيل الزراعية في النمو، وتذبل النباتات، الأمر الذي يؤدي إلى نقص حاد في المواد الغذائية. هذه الأزمة الغذائية تؤدي إلى مجاعة تبدأ آثارها في الظهور سريعًا.
تُفاقِم هذه الظروف سوء الوضع الصحي للناجين، الذين باتت مناعتهم ضعيفة للغاية نتيجة تعرضهم المتواصل لمستويات مرتفعة من الإشعاع. حيث تُضعِف الإشعاعات المؤينة (Ionizing Radiation) جهاز المناعة من خلال تدمير خلايا نخاع العظام المسؤولة عن إنتاج خلايا الدم البيضاء والحمراء. وهذا يجعلهم أكثر عُرضةً للإصابة بالأمراض والعدوى التي تنتشر بسهولة بسبب سوء النظافة وتلوث المياه.
خلال هذا الشهر أيضًا، تظهر الآثار النفسية والاجتماعية الكارثية بصورة أوضح. مع انقطاع وسائل الاتصال وانهيار الحكومات، تصبح التجمعات البشرية الصغيرة معزولة تمامًا. الناجون يعانون من صدمة عاطفية حادة، اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). ويتسبب هذا الوضع في انهيار الروابط الاجتماعية والأخلاقية تدريجيًا، مما يؤدي لظهور عنف شديد ونزاعات على الموارد المتبقية.
بيئيًا، يستمر التلوث الإشعاعي في الانتشار. المواد المشعة مثل السيزيوم (Cs-137) والسترونتيوم (Sr-90) تدخل في التربة والمياه، وتتراكم داخل أجساد الحيوانات والبشر. السيزيوم-137 مثلًا، له نصف عمر إشعاعي حوالي 30 عامًا، ما يعني بقاءه سامًا لفترات طويلة.
مع نهاية هذا الشهر الكارثي الأول، تتداخل المشكلات الصحية والبيئية والنفسية والاجتماعية، وتتجه البشرية نحو مستقبل معتم.
السنة الأولى بعد الانفجار
بعد مرور عام كامل على الكارثة النووية، لا تزال الأرض تعيش آثار الجرح، لكنّ ما بقي من الناجين يواجه واقعًا أخطر. خلال هذا العام، تتطور ظاهرة «الشتاء النووي» إلى كارثة بيئية عالمية شاملة، إذ يستمر الرماد والجسيمات الدقيقة في الطبقات العليا من الغلاف الجوي بحجب نسبة كبيرة من ضوء الشمس. هذا الظلام الجزئي يُخفّض درجات الحرارة على سطح الأرض بمعدل يتراوح بين 5 و10 درجات مئوية على مستوى العالم، وهو كافٍ لإحداث شتاء دائم لفترة قد تمتد لسنوات.
بسبب قلة أشعة الشمس، ينهار التمثيل الضوئي (Photosynthesis) في معظم النباتات. يؤدي ذلك إلى موتٍ جماعيٍّ للمحاصيل الزراعية والغابات، ما يتسبب بانهيار شامل للسلاسل الغذائية الطبيعية. تموت الحيوانات النباتية أولًا بسبب الجوع، ثم تتبعها الحيوانات التي تعتمد عليها في غذائها، وصولًا إلى الإنسان الذي يجد نفسه في مواجهة نقص حاد في الغذاء. في ظل هذه الظروف، يصبح الناجون مجبرين على الاعتماد على الطعام المخزّن سابقًا، أو البحث اليائس عن مصادر غذائية قليلة ومتلوثة، ما يفاقم من الأزمة الصحية والغذائية على نطاق واسع.
على المستوى الصحي، يشهد الناجون ارتفاعًا واضحًا في حالات السرطان والأمراض الوراثية الناتجة عن الطفرات الجينية (Genetic Mutations) التي تسببها الأشعة المؤينة (Ionizing Radiation). هذه الطفرات تحدث عندما يُتلف الإشعاع جزيئات الحمض النووي (DNA)، ما يؤدي لظهور تشوهات خلقية في المواليد الجدد، وزيادة معدلات الإجهاض والعقم لدى الرجال والنساء.
أما الماء والتربة، فيبقيان تحت التلوث الإشعاعي لفترات طويلة، إذ تتغلغل المواد المشعة في الأرض وتصل إلى المياه الجوفية، مُسببة تلوثًا مستمرًا. عناصر مثل السيزيوم-137 (Cesium-137) والسترونتيوم-90 (Strontium-90)، والتي يستمر نشاطها الإشعاعي عشرات السنين، تدخل إلى الغذاء وتتراكم في الجسم البشري، مسببة أمراضًا مزمنة على المدى الطويل.
اجتماعيًا ونفسيًا، ينهار النظام القديم وتختفي مظاهر الحضارة تدريجيًا. يتفكك الناس إلى مجموعات صغيرة تعيش في عزلة، وتتحول المجتمعات إلى قبائل بدائية. تسود حالة من العنف والخوف، حيث يتقاتل الجميع على الموارد المحدودة بشراسة.
العقد الأول بعد الانفجار
مع دخول السنة العاشرة على وقوع الكارثة النووية، يكون العالم قد تغيّر تمامًا. ما تبقى من المجتمعات يعيش واقعًا شبيهًا بالعصور الوسطى، في ظل غياب شبه تام للخدمات الأساسية والطبية. الآن، وبعد مرور عشر سنوات كاملة، لم تعد القضية مجرد نجاة من الانفجار نفسه، بل أصبحت معركة مستمرة مع تَبِعاته الطويلة المدى.
خلال هذا العقد، تزداد حدّة الآثار البيولوجية الناتجة عن التعرّض للإشعاع المؤيّن (Ionizing Radiation)، حيث إن العديد من العناصر المشعة ذات العمر النصفي الطويل مثل السيزيوم-137 (Cesium-137) والسترونتيوم-90 (Strontium-90) لا تزال موجودة في التربة، والمياه، والهواء. هذه العناصر تدخل السلسلة الغذائية، وتتراكم في أجساد الكائنات الحية، مسببة استمرار ظهور السرطانات والطفرات الجينية بين الناجين، خصوصًا بين الأطفال الذين وُلدوا بعد الكارثة.
مع مرور السنوات، يظهر جيل جديد من الأطفال الذين يعانون من ارتفاع ملحوظ في التشوهات الخلقية، وضعف جهاز المناعة، ومشاكل عصبية وعقلية ناتجة عن تدمير المادة الوراثية (DNA) بسبب الإشعاع. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة ليست لها تسمية علمية رسمية واحدة، إلا أنها توصف عادة بأنها نتيجة مباشرة لانتشار العناصر المشعة طويلة العمر، التي تُتلف المادة الوراثية مسببةً تغيرات جينية قد تنتقل لأجيال قادمة.
في الجانب البيئي، تستمر الآثار المناخية للشتاء النووي (Nuclear Winter) في التضاؤل تدريجيًا مع انحسار الجسيمات الدقيقة من الغلاف الجوي، لكن التعافي الكامل للأنظمة البيئية والزراعية يستغرق وقتًا أطول. في هذه المرحلة، قد تبدأ بعض النباتات المقاومة للتلوث الإشعاعي بالنمو من جديد، مما يمنح أملاً ضئيلًا في استعادة البيئة لجزء من حيويتها السابقة، لكن الأراضي والمياه في مناطق واسعة تبقى غير قابلة للزراعة أو الاستهلاك البشري الآمن.
اجتماعيًا، يعيش من تبقى من البشر ضمن مجتمعات صغيرة ومعزولة، وتعاني هذه المجتمعات من تدهور كبير في الصحة النفسية والعقلية بسبب استمرار الصدمة الممتدة عبر السنوات. تصبح الذكريات الجماعية عمومًا مرتبطة بالألم والفقدان، ويفقد الناس تدريجيًا إحساسهم بالماضي أو بالأمل في مستقبل أفضل.
في نهاية العقد الأول، تبدو الحياة البشرية مختلفة ومأساوية. القنبلة النووية لم تُدمر المدن فقط، بل غيّرت أيضًا جوهر الإنسان نفسه، وتستمر آثارها على المستوى الجيني والبيئي والاجتماعي لأجيال مقبلة.
القرن الأول بعد الانفجار
بعد مرور مائة عام على وقوع الكارثة النووية، لم يعد العالم كما عرفناه من قبل. تلاشت الحضارة السابقة تمامًا، ولم يبقَ منها سوى آثار قليلة مُتفرقة. يُعد هذا القرن فترة حرجة في مسار الأرض والبشرية معًا، حيث تبدأ البيئة بالتعافي التدريجي، لكنها لا تزال بعيدة كل البعد عن سابق عهدها.
تتراجع تدريجيًا معدلات التلوث الإشعاعي، لأن معظم العناصر المشعة الخطيرة، مثل اليود-131 (Iodine-131) (الذي يبلغ نصف عمره الإشعاعي حوالي 8 أيام)، والسترونتيوم-90 (Strontium-90 نصف عمره حوالي 29 عامًا)، والسيزيوم-137 (Cesium-137 نصف عمره حوالي 30 عامًا)، قد انخفضت مستوياتها إلى حدودٍ أقل خطورة. ومع ذلك، فإن بعض العناصر طويلة العمر مثل البلوتونيوم-239 (Plutonium-239) الذي يبلغ نصف عمره حوالي 24 ألف سنة، لا تزال موجودة في البيئة بكميات مؤثرة، مما يجعل بعض المناطق غير آمنة تمامًا.
خلال هذا القرن، تبدأ الطبيعة بالعودة بحذر، وتظهر نباتات جديدة، بعضها قادر على تحمّل ظروف التربة والمياه الملوثة نسبيًا. أما الحيوانات فتبدأ تدريجيًا بالتأقلم، حيث تنجو الأنواع أو الأفراد الذين يمتلكون مسبقًا اختلافات جينية تجعلهم أكثر قدرةً على تحمّل الإشعاع مقارنةً بغيرهم، مما يؤدي مع مرور الوقت إلى تغيّر تدريجي في التركيب الوراثي لهذه المجموعات. وبالنسبة للبشر، ورغم أن التحسن في مقاومة الإشعاع من خلال الانتقاء الطبيعي قد يحدث على مدى قرون طويلة وليس خلال قرن واحد فقط، إلا أن الأجيال البشرية الأولى بعد الكارثة ستعاني بشدة من مشكلات صحية مستمرة بسبب التعرض للإشعاعات، ولن يكون هناك ظهور سريع لطفرات مفيدة جديدة، بل ستعمل عملية الانتقاء الطبيعي ببطء شديد على الأفراد الذين لديهم اختلافات وراثية محدودة سابقة، تمنحهم بعض المقاومة النسبية.
مع نهاية القرن الأول، تظهر أيضًا تغييرات ثقافية واجتماعية كبرى. يتحول الحدث النووي تدريجيًا من حقيقة علمية وتاريخية إلى نوع من «الأسطورة» أو الرواية الشفهية التي تُحكى من جيل إلى آخر، حيث لم يعد أحد من الأحياء شاهدًا مباشرًا على ما جرى. قد تُفسَّر بقايا الحضارات السابقة وتقنياتها بشكل خاطئ، أو يُنظر إليها كأساطير غامضة من زمن مفقود.
من الناحية المناخية، يكون الشتاء النووي قد انتهى كليًا تقريبًا. يعود المناخ إلى نمط أكثر استقرارًا، ويُتيح هذا الاستقرار فرصة للبشر والحيوانات والنباتات لإعادة بناء الأنظمة البيئية الجديدة، وإن كانت مختلفة بشكل جذري عما سبق.
في الختام، وبعد مائة سنة من الانفجار، تكون الأرض قد دخلت مرحلة جديدة كليًا من تاريخها، مرحلة بدأتها تلك اللحظة التي قرر فيها الإنسان إطلاق قوة الذرة من عقالها. لم تترك هذه الكارثة خلفها مجرد مدنٍ مدمرة أو حضارات ممحية، بل تركت عالمًا جديدًا تمامًا، عالمًا نسي ماضيه تدريجيًا، وفقد حتى الذاكرة التي قد تساعده على تجنب تكرار المأساة. في هذا العالم الذي أصبح فيه الانفجار النووي مجرد أسطورة، لا يتبقى من دروس الماضي سوى آثارٍ غامضة، تذكّر بصمت بما يمكن أن يحدث عندما تتحول المعرفة العلمية من أداة للبناء إلى وسيلة للدمار.
زهره ناصر كاتبة ومترجمة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکارثة النوویة الغلاف الجوی من الانفجار الأول بعد تدریجی ا مما یؤدی نصف عمره خلال هذا ما یؤدی لا تزال تمام ا مرور ا التی ت
إقرأ أيضاً:
الرسائل الواضحة والمهمة التي بعث بها الأستاذ أحمد هارون
الرسائل الواضحة والمهمة التي بعث بها الأستاذ أحمد هارون من خلال المقابلة التي أجراها معه الصحفي السوداني المتميز، الحائز على جوائز عالمية، الصديق العزيز خالد عبد العزيز، يمكن تلخيصها في خمس نقاط رئيسية:
1. تأكيد وطنية الحزب، وأنه لا يرتبط بأي تنظيم إسلامي عالمي، خلافًا لما تروّج له دعاية الميليشيا ومناصروها من وراء ستار شفاف ومكشوف.
2. القرار الاستراتيجي للحزب بألا عودة إلى السلطة إلا عبر صناديق الاقتراع، وليس عبر فوهة البندقية.
3. مشاركة شباب الإسلاميين في الحرب إلى جانب القوات المسلحة جاءت من منطلق وطني لحماية الدولة من الاختطاف، شأنهم في ذلك شأن غالبية المشاركين، ولم تكن مدفوعة بمكاسب آنية أو مصالح ضيقة.
4. رؤية الحزب بشأن العلاقة بين السياسيين والمؤسسة العسكرية، تأكيده على ضرورة وجود دور متفق عليه للجيش، “حتى لا يخرج من الباب ويعود من النافذة”.
5. طمأنة المكون العسكري، وعلى رأسه الفريق أول البرهان، بأن فرصه في الاستمرار في السلطة تظل قائمة عبر المرحلة الانتقالية وما بعدها، من خلال آلية ”الاستفتاء”، وأن “معركة الانتخابات ستبقى محصورة بين الأحزاب”.
هذه الرسائل الخمس التي طرحها أحمد هارون ليست مجرد مواقف حزبية عابرة، بل تمثل محاولة جادة لإعادة تموضع سياسي يقرأ التحولات العميقة في المشهد السوداني، ويقدّم مقاربة جديدة للتعاطي مع السلطة والقوات المسلحة والرأي العام.
ففي وقت تتعدد فيه الاستقطابات وتتشظى الساحة الوطنية، تسعى هذه الرسائل إلى تثبيت سردية مختلفة جوهرها:
حزب وطني بلا امتدادات خارجية، لا يسعى للحكم عبر العنف، ويراهن على الانتخابات، ويدرك ضرورة تحديد أدوار الجيش، مع تقديم ضمانات للقوى المدنية بأن ميدان الصراع القادم سيكون ديمقراطيًا.
ضياء الدين بلال