شهد هذا الأسبوع تحولات بارزة في المشهد السياسي السوداني، يمكن ادراجها تحت عنوان: “تكتيكات المرحلة وتبدلات الخطاب السياسي”. نسعى في هذا المقال إلى تحليل هذه التطورات في سياقها الراهن والمستقبلي، وشرح دلالاتها، في ظل الحديث المتزايد عن تسوية سياسية تقودها الولايات المتحدة بدعم من فاعلين دوليين وإقليميين لوقف الحرب المستمرة في البلاد.

في تطور لافت، حمل خطاب الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، مؤشرات على تحول استراتيجي في توجهات الدولة السودانية ومؤسساتها الأمنية. ولأول مرة منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، خرج البرهان عن الخطاب التقليدي للقيادة العسكرية، ليُقر صراحة بأن “السودان لا يقف وحده، بل لديه حلفاء”، وذلك في مقابلة بالامس مع صحيفة إل إسبانيول الإسبانية، نقلت عنها قناة الجزيرة .

جاء هذا التصريح بالتزامن مع تعثر المفاوضات التي تُجريها اللجنة الرباعية “أمريكا، السعودية، مصر، الإمارات”. والتي تأجلت من 20 إلى 29 يوليو بسبب خلافات داخلها حول رؤية الحل.. مع اتجاه لإلحاق قطر وبريطانيا باللجنة. بهدف فرض تسوية سياسية محتملة.

وتستند هذه التسوية إلى تقارير ومقترحات صادرة عن مراكز بحوث أمريكية، تدعو إلى دمج مساري جدة والرباعية في صيغة هجينة تجمع بين روية الحكومة السودانية والضغط الدولي. وتشمل هذه الصيغة إعلانًا سياسيًا مشتركًا، وهيكلًا إداريًا موحدًا في جدة، واتفاقًا ملزمًا يصدر عبر مجلس الأمن.

هذا المسار يعكس مقاربة جديدة تعتمد على فرض الحلول الدبلوماسية الخشنة عبر أدوات النفوذ الدولي، بعيدًا عن الحوار الوطني السوداني، ما يثير مخاوف من تكرار تجارب سابقة أُنتجت خارج الإرادة السودانية ولم تفضِ إلى سلام حقيقي.

بالرغم من ذلك وفقًا لصحيفة الشرق، لم تُبلور واشنطن بعدُ استراتيجية واضحة للأزمة، مما دفع القاهرة والرياض إلى تكثيف جهودهما دعماً للخرطوم، حيث بدأ تصريح البرهان بشأن “الحلفاء” رسالة مزدوجة: أولًا، أن الجيش السوداني ليس معزولًا سياسيًا.

ثانيًا، له عمقًا إقليميًا يتجاوز حدود الجغرافيا. كما أكد أن العلاقات الخارجية للسودان ستُبنى وفق مواقف الدول من الحرب، وأن بعض القوى تحاول فرض تسويات لا تعبّر عن توازن القوى الحقيقي داخل البلاد.

هذا التحول في الخطاب لم يأت بمعزل عن الواقع الميداني، بل تزامن مع تكليف لجنة بقيادة الفريق إبراهيم جابر لإعادة الأمن والخدمات إلى ولاية الخرطوم. وقد بدأت اللجنة تنفيذ مهامها بوتيرة متسارعة، شملت إصلاح البنية التحتية وتعزيز الحضور الأمني بالعاصمة.

في ذات السياق، شهد يوم أمس موجة غير مسبوقة من عودة اللاجئين السودانيين من مصر، بأعداد فاقت المعدلات السابقة، في مؤشر على مسعى لإعادة الحياة المدنية والسياسية إلى الخرطوم، وترسيخها كمركز للقرار السياسي، خاصة مع تزايد الدعم لحكومة كامل إدريس.

وفي خطوة بالغة الدلالة، قام البرهان بزيارة مفاجئة إلى الخرطوم، حيث هبطت طائرته في مطار العاصمة لأول مرة منذ بداية الحرب. عقد اجتماعات مع هيئة الأركان، وتفقد قيادة المدرعات، ثم زار سوق السجانة والتقى عددًا من المواطنين. هذه الجولة وجهت رسالة واضحة: أن العاصمة تعود تدريجيًا إلى كنف الدولة، وأن القيادة عازمة على مباشرة مهامها من الداخل.

ويُتوقع، وفق مراقبين، أن تتبع هذه التحركات خطوات عسكرية واسعة لاستعادة السيطرة على إقليم كردفان ودارفور، أو على الأقل فك الحصار عن مدينة الفاشر. ويبدو أن السودان بدأ يتبنى استراتيجية أكثر وضوحًا لفرض الأمر الواقع، عبر استعادة مؤسسات الدولة، وتعزيز التحالفات الإقليمية، والانفتاح على الدعم الخارجي.

إنها استراتيجية تنقل الخطاب من “نقاتل وحدنا” إلى “لدينا حلفاء”، وتوحي بأن السودان قد تجاوز مرحلة الطوارئ، وبدأ يتصرف كدولة تستعيد سيادتها وتتهيأ للتفاوض من موقع القوة والإسناد الشعبي.

في المقابل، ظلت الرباعية الدولية مرفوضة من السودانين لإنهاء تذكرهم بضلوعها في هندسة المشهد السوداني الذي قاد البلاد نحو الحرب لذلك هذا التخبط بين تعقيدات الواقع الميداني وتضارب مصالح أعضائها، يُهدد بإفشال الاجتماع المرتقب.

هذا الوضع الملتبس سمح بدخول قطر كطرف جاد، والتي تتحرك بهدوء لتقديم نفسها كوسيط مقبول. وقد جاء تصريح المبعوث الأميركي لشؤون إفريقيا، مسعد بولس، من الدوحة مطلع الاسبوع ليؤكد أن الصراع في السودان “لن يُحسم عسكريًا”، وأن “الحل الوحيد هو تسوية سياسية شاملة”. لكنه أشار في الوقت نفسه إلى ضعف أدوات الضغط وغياب رؤية موحدة داخل الرباعية، مما يثير تساؤلات حول مدى جدية هذا المسار.

في ظل هذا الغموض، تسعى الحكومة السودانية إلى تثبيت وضعها الداخلي، وتعزيز علاقاتها الإقليمية والدولية دعمًا لتحركات الجيش. ويعكس تصريح البرهان موقفًا لا يقبل المساومة، ويوجه رسالة مباشرة إلى المجتمع الإقليمي والدولي، مفادها أن أي مبادرة لا تراعي السيادة الوطنية مصيرها الفشل. وقد اعتبر مراقبون هذا التصريح بمثابة إعلان “فيتو” يملكه الجيش في وجه أي حلول تعمل علي إعادة البلاد إلى ماقبل الحرب.

وبذلك يبدو أن السودان ينتقل من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة المبادرة: خطاب جديد، حلفاء معلنون، عودة القيادة إلى العاصمة، تحركات ميدانية، وعودة تدريجية للاجئين. كل هذه المؤشرات ترسم ملامح استراتيجية ترمي إلى تثبيت الدولة في زمن الحرب، وفرضها كأمر واقع في الحسابات الإقليمية والدولية.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 23 يوليو 2025م
[email protected]

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

هل قتلت قوات الدعم السريع الصحفي السوداني معمر إبراهيم؟

انتشرت أخبار مكثفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تفيد بوفاة الصحفي السوداني المعتقل لدى قوات الدعم السريع معمر إبراهيم، داخل مكان احتجازه في نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور.

وفي إفادة للجزيرة نت، أكد محمد إبراهيم، الشقيق الأكبر للصحفي المعتقل منذ أكتوبر/تشرين الأول أن مصدر الإشاعة التي نفى صحتها ما زال مجهولا، وأن معمر بخير ولم يتعرض لأي أذى، مشيرا إلى أنه استطاع الاطمئنان عليه عقب ورود إشاعة وفاته مساء أمس الأربعاء.

وأضاف شقيق الصحفي الذي عمل مراسلا لدى قناة الجزيرة مباشر أن آخر تواصل مباشر معه كان عقب ظهوره إلى جانب المتحدث باسم الدعم السريع الفاتح قرشي مطلع الشهر الماضي، غير أن ثمة تواصلا غير مباشر يسعون عبره إلى الاطمئنان على معمر وتأمين احتياجاته.

وأكد المتحدث باسم تحالف السودان التأسيسي -الذي يقوده الدعم السريع- علاء الدين نقد في تصريح للجزيرة مباشر أن الصحفي معمر بـ"أمن وأمان"، وفق تعبيره.

ما مصير الصحفي معمر إبراهيم؟
الناطق باسم تحالف السودان التأسيسي يجيب #الجزيرة_مباشر #السودان #الفاشر pic.twitter.com/JpygwAP36v

— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) November 16, 2025

مطالبات بظهور الصحفي

وتعليقا على تصريح نقد، دعا الصحفي السوداني مزمل أبو القاسم إلى السماح لزميله معمر بالظهور على شاشة قناة الجزيرة مباشر للتأكد من سلامته، وكتب عبر حسابه على فيسبوك بأن معمر تعرض لإخفاء قسري واحتجاز غير مشروع وإهانة وضرب وتعذيب ظهرت بجلاء في مقاطع فيديو عقب سقوط مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور.

لكنّ الإشاعة حفّزت حالة القلق على سلامة معمر وعدد غير معلوم من الصحفيين المعتقلين والمختفين قسريا في السودان، ورغم نفي الأمر، يبدي نقيب الصحفيين السودانيين عبد المنعم أبو إدريس قلقه بشأن سلامة الصحفي معمر، مطالبا بإطلاق سراحه على الفور.

إعلان

ويقول أبو إدريس للجزيرة نت "معمر كان يؤدي مهنته كصحفي وهي ليست جريمة حتى يُحتجز بسببها، وما يمرّ به يُعد خرقا للقوانين الدولية والإنسانية"، مناشدا المنظمات المهتمة بحرية الصحافة للتضامن مع معمر وسائر الصحفيين السودانيين في ما يقاسونه من تحديات وتهديدات جراء الحرب.

سي بي جيه: صحة معمر متدهورة ونريد دليلا على حياته

وفي تصريح لها مساء الأربعاء، أعربت لجنة حماية الصحفيين "سي بي جيه" (CPJ) عن قلقها إزاء تقارير تفيد بأن الحالة الصحية للصحفي معمر قد تدهورت بشكل خطير أثناء احتجازه، داعية إلى الإفراج الفوري عنه لتمكينه من تلقي الرعاية اللازمة.

#السودان: "نشعر بقلق بالغ إزاء التقارير التي تفيد بأن الحالة الصحية للصحفي السوداني معمر إبراهيم، المحتجز لدى قوات الدعم السريع، قد تدهورت بشكل خطير أثناء احتجازه. إذ أصبح طريح الفراش ويعاني من آلام شديدة، في وقت ترفض فيه قوات الدعم السريع نقله إلى المستشفى أو الإفراج عنه. وتدعو… pic.twitter.com/Sx0zRTfVMq

— CPJ MENA (@CPJMENA) December 10, 2025

وقالت المديرة الإقليمية للّجنة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا سارة القضاة إن معمر أصبح طريح الفراش ويعاني من آلام شديدة، في وقت ترفض فيه قوات الدعم السريع نقله إلى المستشفى أو الإفراج عنه.

لكنْ في اليوم التالي، الخميس، صدر تصريح آخر للّجنة الدولية، يفيد بأنها راسلت قوات الدعم السريع مطالِبة بتقديم أي دليل على أن الصحفي معمر إبراهيم على قيد الحياة، وذلك بعد ورود تقارير تفيد بأنه قُتل أثناء احتجازه، في حين لم تجزم اللجنة بنفي الأخبار المتداولة.

تؤكد لجنة حماية الصحفيين أنها راسلت قوات الدعم السريع مطالِبةً بتقديم أي دليل على أن الصحفي السوداني معمر إبراهيم على قيد الحياة، وذلك بعد ورود تقارير تفيد بأنه قُتل أثناء احتجازه لدى قوات الدعم حيث يقول زملاؤه إنها مزاعم غير مؤكدة حتى الآن." سارة القضاة. pic.twitter.com/HZujvEmIel

— CPJ MENA (@CPJMENA) December 11, 2025

وكانت شبكة الصحفيين السودانيين في الـ18 من الشهر الماضي أعربت عن قلقها البالغ على مصير الصحفي، عقب تصريحات لوزير الصحة في حكومة التأسيس علاء نقد خلال لقاء له عبر قناة الجزيرة، ذكر فيها جملة من التهم الموجهة للصحفي، وقال إنه كان سببا في تأجيج الحرب.

وقالت الشبكة في بيان آنذاك إن "سيل الاتهامات التي أطلقها نقد في حق معمر تجعلنا في قلق شديد من المصير الذي ينتظره".

الصحفي بوصفه مدني بموجب القانون الدولي الإنساني يجب حمايته من أطراف النزاع ويحظر احتجازه أو معاملته بقسوة أو الاعتداء عليه.

ندعو @ICRC للعمل على ضمان سلامة الزميل الصحفي معمر إبراهيم @MUAMMAR_SUD الذي ظهر محتجزا ويعامل بقسوة من قبل عناصر الدعم السريع وفقا للمقطع أدناه. pic.twitter.com/fw1WsD4j1S

— Mojahed Taha (@mojahedashw2k) October 26, 2025

وظهر معمر إبراهيم اليوم الثاني لسيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر 26 أكتوبر/تشرين الأول، في مقطع فيديو صُوّر ليلًا مع مجموعة من المسلحين، وقال فيه إنه حاول الخروج من المدينة، وقد قُبض عليه قبل أن يتمكن من ذلك.

إعلان

وفي الرابع من شهر نوفمبر/تشرين الثاني، بثت قوات الدعم السريع مقطعا مصورا ظهر فيه إبراهيم إلى جانب الفاتح قرشي، الذي قال إن الصحفي يواجه تهمة الإساءة لقوات الدعم السريع بسبب استخدامه كلمتي "مليشيا وجنجويد" توصيفا للدعم السريع، معتبرا الوصفين إخلالا بالحيادية المطلوبة لدى الصحفيين.

وقبل نحو أسبوعين، اغتالت قوات الدعم السريع الصحفي تاج السر محمد سليمان، مدير مكتب وكالة السودان للأنباء (سونا) في منزله مع شقيقه بحي الدرجة في مدينة الفاشر.

وأشار وزير الإعلام السوداني خالد الإعيسر في بيان نعيه الصحفي سليمان، إلى أن قوات الدعم السريع اعتقلت عددا من الصحفيين السودانيين العاملين لدى وسائل إعلام مختلفة، ونقلتهم من الفاشر إلى مدينة نيالا في جنوب دارفور غربي السودان.

وناشد الإعيسر المنظمات الدولية المعنية بحماية الصحفيين الاضطلاع بدورها في متابعة الصحفيين المعتقلين والعمل على ضمان سلامتهم.

وغطى إبراهيم أخبار الحرب في دارفور على مدى العامين الماضيين، ويُعدّ من بين الصحفيين القلائل الذين بقوا لتوثيق التطورات في الفاشر رغم الغارات الجوية المستمرة وانقطاع الاتصالات والأزمة الإنسانية الحادة.

مقالات مشابهة

  • بعد مسيرات داعمة للجيش.. البرهان «يشكر» السودانيين ويطلق تعهدات
  • حاكم دارفور يحدد خطوات لإنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة
  • الحباشنة يكتب..مجلس النواب أمام اختبار ضبط الخطاب وحماية استقرار الدولة
  • محنة التعريفات الجزئية الملتبسة..
  • البرهان يناور بذكاء ويتوعد الدعم السريع
  • صدام علني بين الحلفاء.. الإخوان يكشفون دورهم في حرب السودان
  • مسيرة لقوات الدعم السريع تستهدف حي طيبة شرقي مدينة الأبيض السودانية
  • ضرورة الحل الشامل للأزمة في السودان
  • السودان على مفترق طرق: حرب استنزاف أم مفاوضات جادة؟
  • هل قتلت قوات الدعم السريع الصحفي السوداني معمر إبراهيم؟