الذكرى الثامنة والستين «لتمرد» الفرقة الجنوبية في جنوب السودان (18 أغسطس «1955» ما الذي يحدث في السودان غير النزاع؟
تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT
عبد الله علي إبراهيم
(عرضنا أمس لرأي الدكتور سلمان محمد سلمان في حركة القوميين الجنوبيين التي ساقت إلى الانفصال بعد نحو 6 عقود من الاستقلال. ورمى سلمان باللائمة في ذلك على الحكومات الشمالية لأنها نقضت عهدها معهم باعتبار مطلبهم بالفدرالية بشكل جدي بعد إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في ديسمبر 1955. وأهم ما أخذناه على هذا الرأي أن الفدرالية لم تكن مطلب الجنوبيين دائماً أبدا.
أعرض فيما يلي لآراء عن الأصل في مشكلة الجنوب، لو صح التعبير، للمؤرخ الذرب مارتن دالي الذي لا أعرف من جلس مثله إلى وثائق الفترة الاستعمارية في كتابيه المثيرين “امبراطورية على النيل” و “السودان الإمبريالي”. فرد الخصومة بين الشمال والجنوب للاستعمار في خاتمة مباحثة إلى ما هو قريب مما جاء في ميثاق الحركة الشعبية في 1983 الذي تغير بعد تحريره في 2008. ورد الأمر للاستعمار ليس مقصوداً منه نزع اللوم عن الحكومات الشمالية فيما انتهينا إليه من انفصال. ولكن لتوسيع النظر والتعقيد الذي عادة ما كان حال مثل هذه المواقف. وهو تعقيد قد لا يحيط به فكر لائم لا غير مثل ما جاء عند سليمان).
من بين أفضل من نظر لتمرد 1955 وتداعياته التي مر ذكرها المؤرخ الأمريكي لسودان الحكم الثنائي الإنجليزي المصري الدكتور مارتن دالي. فقال في خاتمة كتابه “”السودان الإمبريالي” أن تمرد 1955 لم يكن نزاعاً قبلياً وإن كان في صورته المباشرة مهدداً أمنياً. وكان فوق ذلك، في قوله، نزاعاً عالمياً. واراد بذلك أنه أثر من آثار الاستعمار الذي هو نظام عالمي. فهو ثمرة مرة لنصف قرن من الإهمال السياسي والاجتماعي والاقتصادي للجنوب. وتساءل كيف طرأ للإنجليز تهيئة الجنوب للحاق دستورياً بالشمال في 1947 في الساعة الثالثة والعشرين من لائح الحكم الذاتي في 1954 إلا إذا كانوا لم يفكروا أبداً يوماً أن الجنوب سيستقل حتى لو لم يتحد مع الشمال. وأخذ على الحزب الوطني الاتحادي، الذي تولى تشكيل حكومة الحكم الذاتي بعد فوزه في انتخابات 1954، بأن كانت له، كما كان للإنجليز من قبله، “سياسة جنوب” خاصة به من فرط أخطائه في التعاطي مع الجنوب وهو في الحكم. ولكنه عاد ليقول إن فشل حكومة الاتحادي بالجنوب هو ثمرة من ثمرات سياسة الإنجليز في الجنوب. فالجهل الشمالي بالجنوب كان بفعل فاعل هم الإنجليز أنفسهم الذين أداروه بمقتضى “سياسة الجنوب” التي اتفقت لهم منذ 1922 ك”منطقة مقفولة” عن الشمال حجرت على الشماليين دخوله لأي غرض من الأغراض حتى آخر الاربعينات في سياق الترتيبات التي كانت تجرى للحكم الذاتي.
وقال مارتن أن بوسع المرء أن يستفيض في تلاوة قائمة ضروب الفشل والعوار التي ارتكبها حكام مثل الحزب الاتحادي في الجنوب وفي السودان عامة ممن ورثوا الدولة الاستعمارية. ومع ذلك لم يبدأ هذا العوار بالاستقلال. وذهب كثيرون في الغرب لتفسيره عنصرياً بالقول أن الأوربيين وحدهم من يحسنون حكم الشتات الأفريقي البدائي فإن تقلده غيرهم فسد. وزاد دالي بأن قال أن الحري بالتفكير فيه هو أن الاستعمار ما نجح في ما يزعم النجاح فيه من حكم أفريقيا إلا عن طريق العنف مما حاولته الحكومات الوارثة ولم تحسنه. وسارع للقول إن الإنجليز بالطبع لم يحكموا السودان بالعنف طوال الوقت. فقد كانت لهم صفقات مع قوى محلية أمنت لهم الحكم بغيره، أي بالقبول. ومع قبول طائفة من السودانيين بحكم الإنجليز كأمر واقع ولكن كان كل منها تعرف أن للإنجليز جيشاً في ثكناته احتياطاً متى أطلقوا له العنان عَنُف بلا رحمة. وأضاف دالي إن هذه الشوكة من وراء حجاب القبول امتياز استعماري بحت لا وسع لمن ورثوا الحكم منهم له، ولا قدرة لهم عليه مهما حاولوه. وكأن دالي يفرق هنا بين نظام استعماري السودانيون فيه رعايا ترقوا منه بالاستقلال إلى وضعية المواطنين. وهي قفزة نوعية ترتبت عليها حقوق لهم قد تستهتر بها حكومة مستقلة وتطلق سعار العنف على المعارض ولكن تبقى تلك الحقوق، ويحاسب بها القائم بالأمر لا كما العهد بالإنجليز الذين السوداني عندهم رعية مجردة.
لم تزد الحركة الشعبية في ميثاقها لعام 1983 معنً على تحليل مارتن دالي أعلاه الذي رد مسألة الجنوب، وكل السودان، إلى جذرها في دولة الاستعمار، ولم تنقصه، لولا أنها تخلت عنه في 2008 في ملابسات صراع داخلي ضربها في 1991، ثم اضطرارها لمغادرة أثيوبيا بعد إزاحة نظام منقستو هايلي مريم في 1992، وتهافت النظام الاشتراكي العالمي منذ 1989 وتضاؤل الماركسية كنظرية للتغيير الاجتماعي.
بل وسعت الحركة في ميثاقها القديم الإطار الاستعماري لتحميل الاستعمار الجديد وزر مضاعفة التخلف العام في السودان. وبالطبع لا يعفي تحليل مسألة أزمة الحكم في السودان بالنظر إلى الاستعمار حكومات السودان من ضلال عظيم في معالجة أزمات بناء الوطن المتآخي. ولكنه مما يعين حتى في معرفة ضلالات هذه الحكومات بصورة أدق وأشفى. فكل ما اتسعت الرؤية انفرجت العبارة.
الوسومعبد الله علي إبراهيمالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: عبد الله علي إبراهيم فی السودان
إقرأ أيضاً:
لم إختفى الفريق شمس الدين كباشي وياسر العطا من المشهد ؟
#*هذا ما حدث ظهر الجمعة في بابنوسةالقمير*
#*سقطت المليشيا في أخلاق الحرب والبرهان مطالب بهذا القرار*
#*لم إختفى الفريق شمس الدين كباشي وياسر العطا من المشهد*؟
١
ظهر الجمعة، العشرين من يونيو 2025، سيخلد في سجلات التاريخ العسكري السوداني كأحد أعظم أيام البطولة والانتصار، حين تجلت الإرادة الإلهية وعزيمة الرجال في معركة بابنوسة القمير. وقد تحققت في رجال الفرقة 22 قوله تعالى: “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله”. صبر الفرسان وصمدوا أمام موجات السيل البشري المدعوم بسلاح وعتاد إماراتي، وحشود من المقاتلين تم استجلابهم من الفاشر ونيالا والمجلد والضعين والدبيبات، وتم إغراء المليشيا بالمال ووعدهم بالغنائم. المليشيا شنت الهجوم مع فجر الجمعة بما يقارب خمسمائة عربة مسلحة، وعلى ظهر كل عربة عشرة مسلحين مدججين بمختلف أنواع الرشاشات والمدافع.
لكن الفرقة 22 كانت قد استنبطت مدرسة خاصة في صيد الجنجويد، ووضعت خطة دقيقة، وفتحت أمام المليشيا أبواب المنطقة التي تحولت إلى أطلال، إذ قضت المليشيا على المدينة كحياة نابضة، وبقيت رمزية الفرقة صامدة، رغم البروباغندا المصورة التي نشرتها المليشيا عن “سقوط” الفرقة. هذه المرة دعت المليشيا اللصوص والباحثين عن المال الحرام للدخول لجمع الغنائم، فتدفق سيل بشري من المشاة وراكبي الدواب والعربات المدنية والكارو، في مشهد فوضوي نحو الفرقة. لكن جنودها كانوا في الخنادق، مستعدين. واندلعت معركة بين الكثرة والشجاعة، بين الحق والطمع، بين أبناء المسيرية وبقية السودانيين في مواجهة الجنجويد ومقاتلين من دارفور وكردفان وتشاد.
ثلاث ساعات من القتال الصلب كانت كافية لتحويل بابنوسة إلى مقبرة، حيث سقط أكثر من ألف قتيل من المليشيا، وغنمت القوات المسلحة 22 عربة إماراتية، ودمرت المدفعية 20 أخرى أمام خطوط دفاع نمور غرب كردفان. وكانت المعركة بمثابة تأكيد على أن الإيمان بالقضية ينتصر على كثرة العدد، وأن مزاعم دعم المسيرية للمليشيا محض كذبة إعلامية. أبناء المسيرية يمثلون أكثر من 70% من الفرقة 22، بقيادة اللواء معاوية، أحد أعمدة الصمود العسكري. وباسم الشعب السوداني، نطالب الفريق أول عبد الفتاح البرهان بالمصادقة الفورية على ترقية جميع منسوبي الفرقة 22، ومنسوبي الفرقة السادسة في الفاشر، ليترقى اللواء معاوية إلى رتبة فريق، والعميد حسن درمود إلى لواء، والصول عثمان صباحي إلى ملازم، والوكيل عريق هارون موسى إلى عريف، عرفاناً لما قدموه في معركة ستظل خالدة في ذاكرة السودان.
٢
تتزايد التساؤلات في الشارع السوداني حول غياب اثنين من أبرز رموز المؤسسة العسكرية، الفريق ياسر العطا، والفريق شمس الدين كباشي. كلا الرجلين كانا جزءاً من المشهد منذ سقوط نظام الإنقاذ، ولعبا أدواراً رئيسية في المعركة الوطنية ضد التمرد. الفريق ياسر العطا، الذي اشتهر بصراحته ومواقفه الواضحة، اختفى من الإعلام منذ شهرين، ويقال إنه في رحلة علاجية لابنه بعد الانتصار في معركة الخرطوم، التي خاضها ببسالة. لكن غيابه المفاجئ عن أم درمان التي يحبها وتحبه، وغيابه عن المشهد السياسي والعسكري، يطرح علامات استفهام كبرى، خاصة حول مصير التحالف السياسي الذي كان يُخطط له لجمع القوى الوطنية التي خاضت معركة الكرامة.
أما الفريق شمس الدين كباشي، الذي كان ممسكاً بملف الخدمة المدنية وإدارة شؤون الدولة، فقد توارى عن الأنظار منذ تعيين الدكتور كامل إدريس رئيساً للحكومة الانتقالية. استقبله بحفاوة، في موقف يعكس ارتياحه لاختياره، لكن ابتعاده بعد ذلك يثير تساؤلات عن موقفه من العملية السياسية الجارية. هل ابتعد بمحض إرادته لإفساح المجال؟ أم أنه يتحضر لدور جديد في العمليات العسكرية المرتقبة بكردفان ودارفور؟ شمس الدين كباشي عرف بالمكر العسكري، والتخطيط، وله قاعدة شعبية بين الجنود والضباط، وكان إشرافه على عمليات الفاو وسنار فألاً حسناً. فهل يستعد فعلاً للإقلاع نحو عروس الرمال لقيادة معركة الحسم؟ اختفاء الرجلين في وقت حساس كهذا، حيث تقترب البلاد من مرحلة الحسم العسكري قبل موسم الخريف، لا بد أن يفسر بشكل أو بآخر، إذ لا يجوز أن يغيب القادة في لحظة مفصلية من عمر الوطن.
٣
في ظل المعادلات الجديدة، لم يعد مهماً من سيُعينه الدكتور كامل إدريس في مناصب الداخلية أو الدفاع أو التربية، بل الأهم هو أن يلتزم بشكل قاطع باتفاقية جوبا، ويكمل تنفيذها حتى نهاية الفترة الانتقالية، كما نصت بنود الاتفاق. لا بد لرئيس الوزراء أن يقدم برنامجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً واضحاً، لأن أي حكومة بدون برنامج محكوم عليها بالفشل، كما فشلت حكومة حمدوك. ينبغي أن يختلي الدكتور كامل إدريس بنفسه لمدة أسبوع في منطقة أركويت، بعيداً عن ضجيج بورتسودان، ويكتب خطة حكومته بعد أن تحدث واستمع إلى الناس، ثم يعرضها أولاً على مجلس السيادة، الذي بدوره يجب أن يعيد ترتيب اجتماعاته الدورية ليشعر المواطنون بوجوده.
بعد ذلك، يمكن لكامل إدريس أن يقدم البرنامج لمجلس الوزراء، الذي يتحمل معه المسؤولية التضامنية. وفي ظل غياب البرلمان، يمكن اعتبار الاجتماع المشترك بين مجلس السيادة والوزراء بمثابة برلمان مؤقت، كما تنص الوثيقة الدستورية التي بقي منها نصفها فقط. بهذا الشكل، وبهذا الطريق، يمكن أن يقال بحق: لدينا رئيس وزراء لديه رؤية، ومسؤولية، وإرادة قادرة على إخراج السودان من النفق الذي يمر به.
????* يوسف عبدالمنان*