في رحاب الجامع الأكبر ومن وحي مكتبته
تاريخ النشر: 10th, August 2025 GMT
مضت مدة لم أزر فيها جامع السلطان قابوس الأكبر، رغم أنه لا يبعد كثيرًا عن الحي الذي أسكن فيه. ولعمري إن الجامع الأكبر، منذ إنشائه وكما أريد له، واحة يتفيأ المؤمنون ظِلاها، ومثابة لذوي العقول والأفئدة الباحثة عن السكينة والنور. هناك في الجزء الخلفي من صحن الجامع، يوجد مكتب فيه رجال ونساء تطوعوا ليجادلوا بالتي هي أحسن من يأتون إليهم من غير المسلمين، وليجيبوا على أسئلة عن الإسلام وأركانه، وعن الإيمان ومعناه.
قبل عدة أشهر كنت وصديق لي نتحدث عن كتاب من الكتب المهمة في الفكر الإسلامي في القرن العشرين. تذكرت حينها أنه كانت توجد لدي نسخة من ذلك الكتاب، لكنني أهديتها لشخص توقعت أنه من المهتمين بذلك النوع من الكتب، مع أنني ممن يضنون بإهداء الكتب أو إعارتها، وأتفق في ذلك مع قول الشاعر:
ألاَ يا مستعيرَ الكتبِ دعني
فإن إعارتي للكتبِ عارُ
ولأهمية ذلك الكتاب، وهو كتاب يقع في عدة مجلدات، قررت حينها البحث عنه في محلات بيع الكتب في مسقط لاقتناء نسخة من آخر طبعاته، لكني لم أجده، وقيل لي: إنه يمكن طلبه من الخارج، وهو ما يجعل تكلفة شرائه مرتفعة. وهنا تذكرت بيت شعر كثيرًا ما كان العمانيون يكتبونه على الأغلفة الداخلية للكتب التي يقتنونها:
هذا الكتاب ولو يُباع بوزنه
ذهبًا لكان البائع المغبونا
مع ذلك تراجعت عن شراء الكتاب، لإمكانية توفره في المكتبات العامة، إضافة إلى أن مكتبتي الخاصة لم يعد فيها حيز كافٍ لإضافة كتب ذات حجم كبير.
وبمناسبة الحديث عن محلات بيع الكتب، أو ما يسميها البعض «مكتبات» ويسميها آخرون «ورّاقات»، فإنه من المؤسف أن عددها في السوق يتراجع، وذلك لأسباب كثيرة سنأتي على ذكر بعضها في هذا المقال. الجدير بالذكر هنا، وفي سياق الحديث عن هذا الموضوع، أن أحد أهم محلات بيع الكتب في مسقط قد أغلق أبوابه مؤخرًا، ما أصبح معه من الصعب أن نجد محلًا يبيع كتبًا جادة أو يعرض إصدارات جديدة منها. من أهم مرافق الجامع الأكبر مكتبته العامة، وهي تقع عند مدخله الرئيس. كنت قد زرت هذه المكتبة من قبل، وهي مكتبة ليست بالكبيرة من حيث مساحتها أو من حيث عدد الكتب التي على أرففها، لكن المعروف أن هذه المكتبة أصبحت مقصدًا للباحثين والطلبة على مدار العام. حين دخلت المكتبة هذه المرة وجدت بها عددًا من الناس، بعضهم منكب على كتب يقرؤها بصمت وتركيز، وهناك من يبحث في فهرس الحاسوب عن كتب لمعرفة موضعها على أرفف المكتبة، وآخر يبدو أنه يقرأ في كتاب إلكتروني اقتنته المكتبة أو هو على رابط لكتاب يمكن لرواد المكتبة فتحه مجانًا. من الذين كانوا في المكتبة شخص كان يدوّن ملاحظات أو معلومات من كتاب يقرأ فيه. بادرني هذا الشخص بالسلام، وقال: إنه يعرفني منذ مدة طويلة. وبسؤاله عن الموضوع الذي يبحث عنه قال لي: إنه كثيرًا ما يأتي إلى مكتبة الجامع الأكبر ليستعين بما فيها من كتب لإعداد برنامج إذاعي تبثه إحدى الإذاعات المحلية.
طفتُ بالمكتبة وفتشت رفوفها، ووجدت أنها، على صغر حجمها، مكتبة متنوعة تضم كتب الفقه والشريعة والفكر الإسلامي، وتضم كذلك كتب العلوم الطبيعية والاقتصاد والقانون والآداب، إلى جانب المجلات وكتب الأطفال وغيرها. ومن حسن الحظ أني وجدت على أحد رفوف المكتبة الكتاب الذي كنت قد نويت شراءه، ثم تراجعت بسبب ارتفاع تكلفة استيراده من الخارج، والنسخة التي بالمكتبة منه صادرة في عام 1996. لاحظت من حالة النسخة الموجودة من الكتاب أن غلافها الخارجي قد تهالك من كثرة الاستعمال، واختفت بعض النقوش والحروف التي عليه، بما في ذلك عنوان الكتاب. إن تهالك أو اهتراء الكتب هو دليل على كثرة استخدامها، وهو بوجه عام مؤشر على كثرة عدد مرتادي المكتبات، ومن بينها مكتبة الجامع الأكبر، وذلك بغض النظر عن وجود وسائل أخرى للقراءة والبحث غير الكتب الورقية.
كان موضوع المكتبات من الموضوعات التي شغلت بها، تفكيرًا وتمنيًا وليس عملًا أو إنجازًا، منذ سنوات طويلة. وكنت كلما سافرت إلى بلد جئت ببعض الكتب لمكتبتي الخاصة ولأبنائي لتشجيعهم على القراءة. مع ظهور الكتاب الإلكتروني تراجع اقتناء الكتب الورقية بشكل عام، وربما تراجع كذلك الاهتمام بالمكتبات العامة والخاصة. وبغض النظر عن التطور الذي حدث في طرق وأدوات نشر الكتب واقتنائها، فما زلت على المستوى الشخصي أحب الكتاب الورقي وأرتاح إلى القراءة فيه، لكن أحد الأبناء قال لي بعد عتاب: إنه ليس بحاجة إلى القراءة في كتب ورقية لأنه يقرأ من الكتب الإلكترونية، وهي متاحة بوسائل عدة ومجانًا. هذا رأي يشترك فيه الكثير من محبي القراءة، لا سيما العارفين بطرق استخدام الشبكة العالمية.
وبالإضافة إلى انتشار الكتب الإلكترونية، فإن السبب الثاني لتراجع اقتناء الكتب الورقية هو توفر ما بات يعرف بالكتب الصوتية أو السماعـية، التي توجد مسجلة بلغة سليمة وبصوت واضح على الشبكة العالمية من خلال منصات مخصصة للكتب المسموعة. ومن الأمثلة على تلك المنصات منصة «عين» التابعة لوزارة الإعلام، التي تعرض بعض الكتب مقروءة جهرًا، وهي متاحة مجانًا للجميع. كذلك توجد منصة «نثار»، وهي منصة وقفية تعرض ملخصات بالطريقة نفسها لبعض الكتب، ويمكن الاستفادة منها مقابل دفع مبلغ اشتراك في المنصة. معلوم أن الاستماع للكتب الصوتية ممتع للكثير من الناس، خاصة أثناء قيادة السيارة في الزحام أو خلال ساعات السياقة لمسافات طويلة.
ومن أسباب تراجع اقتناء الكتب وضعف الاهتمام بالمكتبات كذلك، ارتفاع أسعار الكتب الورقية، وهو راجع في الأساس إلى ارتفاع أسعار مستلزمات إنتاج الكتب من ورق وأحبار وتغليف، وكذلك ارتفاع تكلفة نقل الكتب بين البلدان. هذا السبب الأخير سبب وجيه ومفهوم، خاصة في ظل اضمحلال فئة أصحاب الدخول المتوسطة وارتفاع أسعار متطلبات أخرى للحياة، وهو ما يجعل مسألة اقتناء الكتب مسألة ثانوية للكثير من الناس.
أخيرًا، لا أريد أن أكون متبرمًا أو متشائمًا لأقول، كما يرى البعض أن من أسباب تراجع الاهتمام بالكتب والمكتبات العامة هو تراجع أعداد القراء بسبب عدم الرغبة في القراءة. على العكس من ذلك أرى أن سياق التاريخ ومتطلبات العصر واحتياجات الحياة تتطلب من الجميع زيادة القراءة والتوسع في البحث بكل الوسائل المتاحة. ولتلبية تلك الحاجة بسهولة ومن غير أعباء مالية إضافية على الأفراد، أصبحت المجتمعات بحاجة أكبر إلى وجود المكتبات، لاسيما المكتبات العامة.
إن المكتبات الحديثة المعاصرة ليست أرففًا تضم فقط كتبًا ومجلدات ضخمة ومجلات، بل هي أيضًا مراكز بحث تصدر عنها كتب ومنشورات في مجالات مختلفة. والمكتبات الحديثة كذلك تضم مسارح ومدرجات تعقد فيها المحاضرات والندوات والمؤتمرات، وبها أيضًا متاحف تعرض فيها آثار وأعمال فنية معاصرة. ولا يفوتنا هنا أن نضرب مثلًا بمكتبة الإسكندرية بمصر، التي تعد اليوم صرحًا معماريًا مميزًا ومركز إشعاع حضاري عالمي. تحوي مكتبة الإسكندرية بين جنباتها كتبًا في مختلف العلوم والفنون، وتعرض جوانب من آثار الحضارة المصرية في بعض مراحلها، وتصدر عنها دراسات جادة وممتعة في كثير من المجالات.
ولا ننسى أن نذكر هنا كذلك أنه رغم الظروف القاسية في عمان في بعض العصور السابقة، فإن بيوت الآباء والأجداد لم تكن تخلو من الكتب. كما أن رفوف أغلب المساجد والمجالس (السبل) في معظم مدن وقرى عمان كانت تزدان ببعض الكتب. وفي كثير من الأحيان يقوم شخص بالقراءة من تلك الكتب على الحاضرين، وذلك لتبصير الناس بأمور الدنيا والدين أو للاستمتاع بقصص التاريخ وأخذ العبر منها. والمعلوم كذلك أن كثيرًا من مدن وقرى عُمان بها أوقاف مخصصة لخدمة المكتبات والعناية بالكتب.
ولأن المعرفة حق للجميع، والسعي للحصول على جانب منها واجب على الجميع، فإن على الدولة والمجتمع وأفراده العمل على تسهيل ذلك من خلال إيجاد مكتبات حديثة في كل مدينة وقرية، بل في كل شارع وبيت. إن الأمل الأكبر في هذا معقود على وزارة الثقافة والرياضة والشباب، خاصة أنها خطت خطوة كبيرة نحو بناء مجمع ثقافي متعدد الأغراض. ولا شك أنه سيكون لهذا المجمع أثر إيجابي كبير على النهوض بالثقافة في عُمان، بما يرسخ قيم وأصالة الماضي، ويلبي حاجات المستقبل وتحدياته.
د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المکتبات العامة الجامع الأکبر الکتب الورقیة اقتناء الکتب بعض الکتب من الکتب کثیر من کثیر ا
إقرأ أيضاً:
الأوقاف في اليوم العالمي لمحبي الكتب: أداة لبناء الوعي ومواجهة التطرف
احتفت وزارة الأوقاف المصرية اليوم بـاليوم العالمي لمحبي الكتب، ضمن جهودها المستمرة في نشر ثقافة القراءة وتعزيز الوعي الديني والفكري داخل المجتمع، خاصة بين الشباب ورواد المساجد.
وفي هذا الإطار تعقد الوزارة سلسلة من الفعاليات التثقيفية، شملت معارض للكتب الفكرية والدينية داخل المساجد الكبرى، وندوات علمية تناولت أهمية القراءة، ودور الكتاب في بناء الإنسان ومواجهة الأفكار المغلوطة، بالإضافة إلى توزيع عدد من إصدارات الوزارة مجانًا على الجمهور.
وبهذه المناسبة، أكد الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، أن "الكتاب يظل الركيزة الأهم في مسيرة بناء الوعي، وأن القراءة الواعية تسهم في حماية المجتمع من التطرف والانغلاق، وتدفع نحو فهم دقيق ومتوازن للدين والحياة".
وأشار إلى أن الوزارة تعمل على توسيع نطاق نشر المعرفة من خلال تطوير المكتبات الوقفية، وإطلاق منصات إلكترونية تتيح الوصول إلى إصدارات الوزارة المتنوعة، فضلًا عن دعم المبادرات التي تشجع على القراءة بين مختلف الفئات.
يُذكر أن اليوم العالمي لمحبي الكتب، الذي يوافق 9 أغسطس من كل عام، يُعد مناسبة عالمية للاحتفاء بالقراءة وتشجيع المجتمعات على التفاعل مع الكتاب كوسيلة أساسية للمعرفة والتنمية.