محمد بن أحمد الشيزاوي -

شهدت الأسواق المالية العالمية تحركات إيجابية عند الإعلان في 27 يوليو 2025 عن التوصل لاتفاق تجاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بشأن الرسوم الجمركية الإضافية، وقد وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذا الاتفاق بأنه «أكبر صفقة تجارية في التاريخ» نظرا لحجم التدفقات المالية المتوقعة من الاتفاق على الاقتصاد الأمريكي ومشتريات الاتحاد الأوروبي من المنتجات الأمريكية، وفي نفس الوقت رأت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن الاتفاق يعيد التوازن للعلاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.

هذه التصريحات تشير إلى ارتياح الطرفين بعد توصلهما لهذا الاتفاق بعد التوترات التي نشأت عند إعلان ترامب – في شهر أبريل الماضي - رفع الرسوم الجمركية على دول العالم ومن بينها الاتحاد الأوروبي، كما أن هذه التصريحات تأتي في سياق التأكيد على أن المصالح التجارية هي التي تحدد توجهات الدول والتكتلات والاقتصادات العالمية، وبلغة الأرقام فإن الاتحاد الأوروبي سيضخ 750 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي عبر شراء الغاز الطبيعي الأمريكي المسال لمدة 3 سنوات، وستقوم الشركات الأوروبية باستثمار 600 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي خلال فترة ولاية الرئيس ترامب، بالإضافة إلى أن الاتحاد الأوروبي تعهد بشراء وقود نووي من الولايات المتحدة، وشراء عتاد عسكري، وفي المقابل ستخضع جميع صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة لرسوم جمركية أساسية بنسبة 15 بالمائة عوضا عما هدد به الرئيس الأمريكي في مايو بفرض رسوم بنسبة 50 بالمائة على صادرات الاتحاد الأوروبي إن لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق قبل نهاية يوليو 2025.

أدى الإعلان عن هذا الاتفاق في 27 يوليو إلى انتعاش معظم الأسواق المالية العالمية نظرا لما تعنيه تلك الأرقام من تعزيز الانفتاح التجاري، وتخفيف التوترات بشأن الرسوم الجمركية، وإطلاق برامج استثمارية غير مسبوقة، بالإضافة إلى التأثير الإيجابي المتوقع للاتفاق على سلاسل التوريد، وارتفاع التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

غير أن الانتعاش كان محدودا؛ فقد تلقت الأسواق في الأول من أغسطس 2025 صدمة أخرى تتعلق بالرسوم الجمركية الأمريكية بعد توقيع الرئيس الأمريكي في 31 يوليو أمراً تنفيذياً يفرض رسوماً جمركية - تدخل حيز التنفيذ في 7 أغسطس - تتراوح بين 10 و41 في المائة على الواردات الأمريكية من نحو 90 دولة.

مصالح الاقتصاد الأمريكي في المقدمة

هذا التباين في أداء البورصات العالمية بين هبوطٍ؛ وصعودٍ حاد يعكس حالة عدم الاستقرار التي من المتوقع أن تستمر لعدة أشهر قادمة لأن نتائج هذا الاتفاق المتعلقة بنمو الاقتصادين الأوروبي والأمريكي والاقتصاد العالمي بشكل عام؛ وتنشيط القطاعات الإنتاجية، وتحسن الأداء المالي للشركات قد تأخذ وقتا أطول، خاصة أن الاتفاق لم يتم التوقيع عليه رسميا حتى كتابة هذا المقال. غير أننا إذا رجعنا إلى الأسباب الرئيسية التي دفعت إدارة الرئيس الأمريكي لفرض رسوم جمركية إضافية على دول العالم فإننا سنجد أنها تتمحور حول حماية الشركات والمنتجات والصناعات الأمريكية من المنافسة القادمة من الخارج؛ إذ إن منتجات الشركات الأجنبية يتم بيعها في الولايات المتحدة بأسعار أرخص من مثيلاتها الأمريكية وبالتالي فإن المستهلك الأمريكي يتجه إليها ويتجاهل السلع المنتجة في بلاده، وهو ما يعني ارتفاع العجز التجاري الأمريكي، وعلى هذا الأساس فإن فرض الرسوم الجمركية الإضافية جاء بهدف إعادة التوازن إلى السوق وتقليل الواردات وبالتالي تقليص العجز التجاري الأمريكي.

وهناك مكاسب أخرى للاقتصاد الأمريكي تتعلق بانتعاش الصناعات المحلية وتشجيع الشركات على زيادة استثماراتها مستفيدة من ارتفاع الطلب على منتجاتها، أضف إلى هذا أن التهديد بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 50 بالمائة أو نحوها - كما لوح بذلك الرئيس الأمريكي أكثر من مرة - دفع الاقتصادات العالمية للتفاوض مع الولايات المتحدة كما حدث مع الاتحاد الأوروبي في 27 يوليو، وقبل ذلك مع اليابان في 23 يوليو وهو اتفاق مشابه للاتفاق الأوروبي؛ إذ تم الاتفاق على رسوم جمركية متبادلة تبلغ 15 بالمائة عوضا عن الرسوم التي كان الرئيس الأمريكي يعتزم فرضها على اليابان سابقا وهي 25 بالمائة، كما تعهدت اليابان بضخ 550 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي عبر الاستثمار في عدد من المشروعات الاستراتيجية تشمل الطاقة وأشباه الموصلات والأدوية والبناء البحري ونحوها، كما تضمن الاتفاق التزامات مالية إضافية من بينها: شراء 100 طائرة من طراز بوينج، وزيادة واردات الأرز بـ 75 بالمائة، ورفع مشتريات الدفاع من 14 مليار دولار إلى 17 مليار دولار سنويا، كما وافقت اليابان على فتح أسواقها أمام السيارات الأمريكية وتبسيط معايير السلامة والاختبارات للمنتجات الأمريكية بالإضافة إلى عدد من الاتفاقات الأخرى التي تستهدف تقوية الاقتصاد الأمريكي ودعم الصناعات الأمريكية، وبالتالي فإن الاتفاق الأمريكي الأوروبي، والاتفاق الأمريكي الياباني والاتفاقات الأخرى المتوقع الإعلان عنها خلال الأسابيع المقبلة من المتوقع أن تنعكس إيجابا على هذه الاقتصادات وليس فقط على الاقتصاد الأمريكي وهو ما سوف ينعكس لاحقا على البورصات العالمية.

ردود فعل المستثمرين

وكما يعلم الجميع فإن الأسواق المالية يُنظر إليها على أنها انعكاسٌ للاقتصاد في مختلف قطاعاته، وأي استثمار يدخل إلى الاقتصاد يعتبر محركا للأسواق، كما أن أي تراجع في النمو الاقتصادي وأي خسائر تتعرض لها الشركات تنعكس سلبا على الأسواق، وإذا كانت الأسواق المالية العالمية قد تحركت خلال الأسابيع الماضية بناء على التصريحات فإنه من المتوقع أن تتحرك خلال الأشهر المقبلة بناء على نتائج هذه الاتفاقات، وربما نجد بعض الأسهم ترتفع أكثر من غيرها وفقا لمدى استفادتها من الاتفاقيات الموقعة، أو على العكس من ذلك قد تتعرض بعض الأسهم لضغوط بيع تؤدي إلى هبوطها نظرا لعدم استفادتها من الاتفاقيات.

فلسفة كثير من الأسواق أن المستثمر يلجأ إلى الأسهم ذات السيولة العالية والنتائج المالية الجيدة والأرباح المرتفعة، وبالتالي فإن أي اتفاقيات اقتصادية تؤدي إلى تحقيق هذه الأهداف وتعمل على تحفيز النمو الاقتصادي وتنشيط القطاعات الإنتاجية وترفع الطلب المحلي على الصناعات والخدمات وتُسهم في زيادة التصدير إلى الخارج فإنها - بالتأكيد - تنعش الأسواق.

ورغم كل هذه الإيجابيات علينا في المقابل معرفة ردود فعل المستهلك الأمريكي ومدى تأثره بارتفاع الرسوم الجمركية، ومدى استفادته من الاتفاقيات التي سيتم إبرامها، إذ أن سلوك المستهلك الأمريكي من شأنها أن تنعكس على البورصات صعودا أو هبوطا. عند الإعلان عن الاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي صرح العديد من المحللين بأن المواطن الأمريكي سيكون «الخاسر الأكبر» من ارتفاع الرسوم الجمركية لأن الشركات سوف تمرر عبء زيادة الرسوم إلى المستهلكين النهائيين، وهو ما سوف يرفع تكلفة المعيشة، وربما يحد أيضا من التوجه الاستهلاكي للمواطن الأمريكي.

وعلينا أن ندرك أيضا أن هذه الاتفاقات لن تنعكس إيجابا على كلّ الأسهم، فهناك أسهم سوف تحظى بزخمٍ أكبر عن غيرها، وعلى سبيل المثال يعتبر قطاع الطاقة الأمريكي الرابح الأكبر من الاتفاق التجاري الأمريكي الأوروبي نظرا لحجم المبالغ التي سيتم ضخها في القطاع، وبالإضافة إلى قطاع الطاقة هناك عدد من القطاعات الأخرى التي سوف تستفيد إيجابا من هذا الاتفاق وعدد من الاتفاقات التجارية الأخرى التي أبرمتها الولايات المتحدة خلال العام الجاري مع عدد من الدول والتكتلات الاقتصادية بما في ذلك صناعة الطائرات والسيارات والأدوية والزراعة والصناعات الطبية والكيماوية والتكنولوجية والخدمات الرقمية وقطاعات الطاقة المتجددة والنفط والغاز والاستشارات والخدمات المالية والعديد من القطاعات الأخرى، ومتى ما حققت هذه القطاعات نموا في المبيعات وارتفاعا في الطلب فإن ذلك سوف ينعكس إيجابا على الأسواق المالية.

ويبقى السؤال المحوري: هل تتوقف الأسواق عند هذا الحد؟. لا أتوقع ذلك، قد تكون الأسواق المالية هشة وسريعة التحرك صعودا وهبوطا، غير أن السباق الأمريكي في ملف التعريفات الجمركية الجديدة وعدد من الملفات الاقتصادية الأخرى من شأنها - إذا حققت الأهداف الاقتصادية المعلن عنها – أن تُضاعف مكاسب الأسواق وتدفع مؤشرات السوق الأمريكية للصعود وربما نجد مؤشر داو جونز يتجاوز مستوى 45 ألف نقطة الذي سجله في ديسمبر الماضي وكاد يصل إليه في يوليو قبيل الإعلان عن الاتفاق التجاري الأمريكي الأوروبي، والأمر نفسه مع مؤشرات الأسواق الأوروبية التي استطاعت فور الإعلان عن الاتفاق الصعود إلى مستويات جديدة تعد الأعلى خلال الأشهر الأربعة الماضية إلا أنها ما لبثت أن تراجعت في ظل عدم اتضاح الرؤية كاملة، ولعلها أيضا تعكس نظرة عدد من السياسيين الأوروبيين تجاه الاتفاق الذي يرون أنه «يشير إلى تخلٍّ سياسي واقتصادي عن مصالح أوروبا، ويؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي الأوروبي»، لكنه في المقابل لدى عدد آخر من السياسيين والاقتصاديين الأوروبيين «ساعد على تجنيب منطقة اليورو كثيرا من الضغوط والتوترات الاقتصادية».

وبشكل عام فإن البورصات العالمية لن تهدأ؛ سوف تستمر في الصعود حينا والتراجع أحيانا أخرى، غير أن ارتفاع المكاسب سوف يغذي موجات الصعود ويطيل أمدها ويقلص الخسائر ويحافظ على استقرار الأسواق ويدفعها إلى النمو.

محمد بن أحمد الشيزاوي كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بین الولایات المتحدة والاتحاد الأوروبی الاقتصاد الأمریکی التجاری الأمریکی الاتحاد الأوروبی الأسواق المالیة الاتفاق التجاری الرئیس الأمریکی الرسوم الجمرکیة ملیار دولار رسوم جمرکیة الأمریکی فی هذا الاتفاق الإعلان عن من الاتفاق غیر أن عدد من

إقرأ أيضاً:

لماذا تعدُّ مواجهة «سان جيرمان» وتوتنهام على السوبر الأوروبي تاريخية؟!

معتز الشامي (أبوظبي)
رغم أن باريس سان جيرمان وتوتنهام هوتسبير يشاركان بانتظام في دوري أبطال أوروبا، إلا أنهما لم يلتقيا قط في أي بطولة رسمية حتى الآن، حيث ستُمثل مباراة الفريقين القادمة مواجهة قارية تاريخية ومرتقبة بين العملاقين الأوروبيين.
وستُقام بطولة كأس السوبر الأوروبي 2025 مساء اليوم الأربعاء، على ملعب فريولي بمدينة أوديني الإيطالية، وفي هذه النسخة، يتنافس باريس سان جيرمان، بطل دوري أبطال أوروبا، وتوتنهام، بطل الدوري الأوروبي، على اللقب القاري في مباراة افتتاح الموسم الأوروبي.
وكان اللقاء الوحيد بينهما في مباراة ودية ضمن كأس الأبطال الدولية عام 2017، حيث حقق توتنهام فوزاً بنتيجة 4-2. ورغم أن هذا الفوز رمزي، فإنه لا يؤثر على المنافسة الرسمية، ما يجعل مواجهة كأس السوبر الأوروبي الكبرى أول لقاء تنافسي بينهما على الإطلاق.
لكن ماذا تعني هذه المباراة لكلا المدربين؟ بالنسبة لتوماس فرانك، مدرب توتنهام، ستكون هذه أول نهائي أوروبي كبير للمدرب الدنماركي منذ وصوله قادماً من برينتفورد.
ويعد توتنهام ثامن فريق إنجليزي يشارك في كأس السوبر الأوروبي، ستة من الفرق السبعة السابقة فازت بأول ظهور لها في النهائي، باستثناء أرسنال، الذي خسر بنتيجة 2-0 في مجموع المباراتين أمام ميلان عام 1995، وفي المقابل، يسعى لويس إنريكي إلى لقبه الثاني في كأس السوبر كمدرب، بعد أن فاز به سابقاً مع برشلونة عام 2015، وفي الوقت نفسه، يسعى باريس سان جيرمان إلى تعويض خسارته في هذه البطولة، حيث لم يفز بها منذ خسارته أمام يوفنتوس عام 1996، وفاز أبطال دوري أبطال أوروبا في الموسم السابق بـ 11 من آخر 12 نسخة من كأس السوبر الأوروبي، باستثناء فوز أتلتيكو مدريد 4-2 على ريال مدريد في عام 2018.

أخبار ذات صلة من بين الدول والأندية.. ريال مدريد يهدي إسبانيا صدارة السوبر الأوروبي ماديسون يرد على الساخرين ويتعهد بالعودة قوياً

مقالات مشابهة

  • لماذا تعدُّ مواجهة «سان جيرمان» وتوتنهام على السوبر الأوروبي تاريخية؟!
  • وزير الخارجية الأمريكي: الولايات المتحدة بصدد تصنيف جماعة الإخوان منظمة إرهابية
  • ضريبة الرقائق الأمريكية إلى الصين تثير انقسامًا بين الأمن والاقتصاد
  • مدافع أوكراني ينضم إلى باريس سان جيرمان في صفقة تاريخية
  • سابقة تاريخية.. بوتين سيلتقي ترامب في الأسكا.. الولاية التي باعها الروس للأمريكان
  • ترامب يقدم عرضا للصين لخفض العجز التجاري مع الولايات المتحدة
  • السوداني:العراق وإيران جبهة واحدة ضد أمريكا وإسرائيل والاتحاد الأوروبي
  • عراقتشي: لم يحسم شيء في التفاوض مع الولايات المتحدة
  • 9 دول غربية والاتحاد الأوروبي يرفضون العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة