لا أظنني سأكون مبالغًا لو قلت: إن عامة العمانيين لم يعرفوا روائيا عربيا اسمه صنع الله إبراهيم قبل عام 2000، إلا قلة قليلة من الوسط الثقافي. لكنه بعد هذا العام، وتحديدا بعد نشر روايته «وردة» أصبح في عُمان أشهر من نار على علم، فقد مُنِعتْ الرواية، مباشرة عقب صدورها، ما فتح التساؤلات على أسباب هذا المنع، فتهافت الجميع على البحث عنها وقراءتها، وصار القاصي الذي قرأها يخبر الداني الذي لم يقرأها بعد، بحكاية الفتاة العُمانية «وردة» التي تفعل الأفاعيل في ظفار، تلك الفتاة التي كانت تدرس في الخارج ثم انخرطت في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي في سبعينيات القرن العشرين تحت هذا الاسم الحركي: «وردة».
لكني أحسب أن الرواية في المجمل لم تُرضِ العمانيين، لا مثقفيهم ولا عامتهم، رغم تهافتهم على اقتنائها، قبل أن يُلغى قرار المنع بعد عدة سنوات. بعض المثقفين عدّها رواية «مسلوقة»، على حد تعبير الشاعر محمد الحارثي في كتاب «حياتي قصيدة، وددتُ لو أكتبها» (إعداد وتحرير: سعيد سلطان الهاشمي، دار سؤال، 2016). يقول الحارثي: «لديّ ولدى مثقفين عُمانيين اعتراضات نقدية وأسلوبية وتاريخانية على وردة، ويبدو أن صنع الله إبراهيم سلقها بسرعة آنذاك». وفي الحقيقة قد لا تكون «وردة» أجمل روايات صنع الله عندي، لكني لا أوافق الحارثي أنها «مسلوقة»، فقد استغرق المؤلف في التحضير لها خمس سنوات من القراءة، والمقابلات، وجمع المعلومات عن مقاتلي الجبهة، كما روى بنفسه للمترجم البريطاني بول ستاركي في كتابه «صنع الله إبراهيم: ثائر بالقلم»، وقد ظهر ذلك جليا في دقة التفاصيل التي أوردها، سواء تفاصيل الجغرافيا الجبلية أو الحياة البدوية، أو الخطاب الأيديولوجي للجبهة، وعلاقاتها الإقليمية.
أما العامة فليس من العسير معرفة لماذا لم تعجبهم الرواية، ففي مجتمع محافظ كالمجتمع العماني كان من الصعب تقبّل طغيان الهاجس الإيروتيكي فيها، مثلما كان طاغيًا في روايات سابقة لصنع الله، مثل «تلك الرائحة» و«بيروت بيروت»، و«نجمة أغسطس» التي خصها الأديب العُماني عبدالله حبيب بمقالة جميلة تحلل هذا الهاجس. يكتب عبدالله: «وما يلفت الانتباه هنا هو أن هذا «أي الدفع بالهاجس الإيروتيكي في النصوص» لم يتم، في حالة صنع الله إبراهيم، بطريقة التنظير، أو الإثارة، أو التحريض، أو الوعظ، أو الإرشاد، أو حتى التثوير التقليدي التي درج عليها كتّاب عرب، في الشعر وفي القص وفي الرواية، بل عبر طريقة أخرى هي جعل الموضوع الجنسي المُحَرَّم جزءًا من طريقة السرد، أو السرد نفسه»، ويخلص إلى أن «صنع الله إبراهيم أراد أن يكتب التابو نفسه، لا أن ينتقده أو ينقده أو يتأمل فيه من خارجه؛ بل أراد أن ينسجه في اللغة». ومع هذا فإن عبدالله حبيب يرى أن هذا الهاجس الذي كان سبب إعجابه بــ«نجمة أغسطس» هو نفسه سبب عدم إعجابه بـ«وردة»؛ إذْ بدا فيها مفتعلا وغير عفوي، بعكس روايات صنع الله الأخرى التي تتخذ من مصر مكانا لأحداثها.
وبما أنني أتحدث عن علاقة صنع الله إبراهيم بالعمانيين فلا بد من التعريج على الحكاية التي سردها محمد الحارثي في الكتاب المشار إليه أعلاه، التي تقول أشياء كثيرة عن أخلاق صنع الله وصدقه وأمانته وزهده، واتساقه مع مبادئه التي ظل وفيا لها حتى آخر يوم في حياته. يقول الحارثي: إنه خلال لقائه بصنع الله في عُمان في مطلع التسعينيات كان قد أسس لتوه مع أصدقاء عمانيين دار نشر في المغرب أسموها «نجمة»، واتفق مع الروائي الكبير الذي هو أيضا مترجم، على نشر مجموعة قصص لكتّاب أنجلوسكسونيين من ترجمته في الدار، وأعطاه مبلغ ستمائة دولار مقدمًا، لكن منشورات نجمة لم تستمر وأغلقت بعد سنتين من هذا الاتفاق دون نشر الكتاب. وبعد عدة سنوات حين كان الحارثي في مؤتمر شعري في القاهرة زار الروائيَّ صُنع الله إبراهيم في شقته بالطابق العاشر في مصر الجديدة لتناول العشاء بمعيته، كما قال، وفوجئ هناك بصنع الله يقدم له مغلفا به مبلغ الستمائة دولار؛ مقدم الترجمة التي لم تنشر، رغم أن الحارثي كان قد نسيها أصلا.
وسواء أحببنا «وردة» أو لم تعجبنا، فإنه يمكن القول مع ذلك: إن علاقتنا نحن العمانيين بصنع الله إبراهيم علاقة خاصة، تجعل حزننا على رحيله لا يقل عن حزن أحبائه وأصدقائه ومحبيه في مصر.
سليمان المعمري كاتب وروائي عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: صنع الله إبراهیم
إقرأ أيضاً:
عمر طاهر يروي كواليس لقائه التلفزيوني مع الروائي الراحل صنع الله إبراهيم
تحدث الكاتب عمر طاهر، عن لقائه مع الأديب الكبير الراحل صنع الله إبراهيم، الذي كان بالنسبة له بمثابة «درس خصوصي» في الكتابة، مشيرًا إلى أنه جاء إلى اللقاء بنيّة التعلم والإنصات لواحد من أهم رموز الأدب العربي.
وأضاف خلال مداخله هاتفيه مع الإعلامي محمد سعيد محفوظ، في برنامج «العاشرة»، على شاشة « إكسترا نيوز»، أنه حرص خلال 45 دقيقة على استيعاب كل كلمة قالها صنع الله، حيث تحدث عن الالتزام والتركيز والإخلاص في العمل الأدبي، وحذّر من الانشغال بالغرور، مؤكدًا أن الكاتب الحقيقي يدرك أنه واحد من ملايين يكتبون جيدًا في العالم.
وأوضح طاهر، أن كل جملة نطق بها صنع الله كانت تحمل درسًا جديدًا، تصلح لأن تُبروز وتظل حاضرة في ذهن أي كاتب، مشيرًا إلى أنه شعر بتوتر شديد حين أشاد الأديب الكبير بأسلوبه في جملة عابرة، واعتبرها شهادة غالية ستظل محفورة في ذاكرته.
وأكد طاهر، أن صنع الله إبراهيم كان متابعًا حقيقيًا وداعمًا لجيل الشباب من الكتّاب، لافتًا إلى أنه فوجئ خلال اللقاء بمعرفته بمقالاته وكتبه واهتمامه بتفاصيل عمله.
وكشف أنه بعد صدور روايته «كحل وحبهان» تلقى اتصالًا هاتفيًا من صنع الله استمر نحو 12 دقيقة، تحدث فيه برقة وبساطة عن الأجزاء التي أعجبته في الرواية، وهو ما اعتبره طاهر دعمًا شخصيًا لا يقل قيمة عن الجلوس أمامه كأستاذ وكاتب كبير.
اقرأ أيضاًالسفير الروسي بالقاهرة يعزي أسرة الكاتب الراحل صنع الله إبراهيم
موعد ومكان عزاء الكاتب الراحل صنع الله إبراهيم
رئيس الوزراء ناعيا صنع الله إبراهيم: إرثه الأدبي سيجعل منه أيقونة خالدة بمسيرة الإبداع