لجريدة عمان:
2025-12-13@21:07:23 GMT

صنع الله والعمانيون

تاريخ النشر: 16th, August 2025 GMT

لا أظنني سأكون مبالغًا لو قلت: إن عامة العمانيين لم يعرفوا روائيا عربيا اسمه صنع الله إبراهيم قبل عام 2000، إلا قلة قليلة من الوسط الثقافي. لكنه بعد هذا العام، وتحديدا بعد نشر روايته «وردة» أصبح في عُمان أشهر من نار على علم، فقد مُنِعتْ الرواية، مباشرة عقب صدورها، ما فتح التساؤلات على أسباب هذا المنع، فتهافت الجميع على البحث عنها وقراءتها، وصار القاصي الذي قرأها يخبر الداني الذي لم يقرأها بعد، بحكاية الفتاة العُمانية «وردة» التي تفعل الأفاعيل في ظفار، تلك الفتاة التي كانت تدرس في الخارج ثم انخرطت في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي في سبعينيات القرن العشرين تحت هذا الاسم الحركي: «وردة».

يسرد حكاية الفتاة في الرواية صحفي مصري اسمه رشدي يتوجه إلى عُمان في مطلع التسعينيات، ليبحث عنها، مستعيدًا عبر يومياتها ورسائلها ومذكراتها تفاصيل حياتها في ظفار أيام الحرب، وتحولاتها الإنسانية، وأحلامها. ويواصل صنع الله في «وردة» أسلوبه الذي بدأه في روايات سابقة: الجمع بين الخيال الأدبي والواقع السياسي والوثيقة التاريخية، ولا يخالط قارئ الرواية العماني الذي عايش أحداث السبعينيات شك أن صنع الله وقع على كنز من وثائق الجبهة. وقد أكد ذلك بنفسه في حواره مع هنادي زرقة في موقع «أوان» سنة 2020.

لكني أحسب أن الرواية في المجمل لم تُرضِ العمانيين، لا مثقفيهم ولا عامتهم، رغم تهافتهم على اقتنائها، قبل أن يُلغى قرار المنع بعد عدة سنوات. بعض المثقفين عدّها رواية «مسلوقة»، على حد تعبير الشاعر محمد الحارثي في كتاب «حياتي قصيدة، وددتُ لو أكتبها» (إعداد وتحرير: سعيد سلطان الهاشمي، دار سؤال، 2016). يقول الحارثي: «لديّ ولدى مثقفين عُمانيين اعتراضات نقدية وأسلوبية وتاريخانية على وردة، ويبدو أن صنع الله إبراهيم سلقها بسرعة آنذاك». وفي الحقيقة قد لا تكون «وردة» أجمل روايات صنع الله عندي، لكني لا أوافق الحارثي أنها «مسلوقة»، فقد استغرق المؤلف في التحضير لها خمس سنوات من القراءة، والمقابلات، وجمع المعلومات عن مقاتلي الجبهة، كما روى بنفسه للمترجم البريطاني بول ستاركي في كتابه «صنع الله إبراهيم: ثائر بالقلم»، وقد ظهر ذلك جليا في دقة التفاصيل التي أوردها، سواء تفاصيل الجغرافيا الجبلية أو الحياة البدوية، أو الخطاب الأيديولوجي للجبهة، وعلاقاتها الإقليمية.

أما العامة فليس من العسير معرفة لماذا لم تعجبهم الرواية، ففي مجتمع محافظ كالمجتمع العماني كان من الصعب تقبّل طغيان الهاجس الإيروتيكي فيها، مثلما كان طاغيًا في روايات سابقة لصنع الله، مثل «تلك الرائحة» و«بيروت بيروت»، و«نجمة أغسطس» التي خصها الأديب العُماني عبدالله حبيب بمقالة جميلة تحلل هذا الهاجس. يكتب عبدالله: «وما يلفت الانتباه هنا هو أن هذا «أي الدفع بالهاجس الإيروتيكي في النصوص» لم يتم، في حالة صنع الله إبراهيم، بطريقة التنظير، أو الإثارة، أو التحريض، أو الوعظ، أو الإرشاد، أو حتى التثوير التقليدي التي درج عليها كتّاب عرب، في الشعر وفي القص وفي الرواية، بل عبر طريقة أخرى هي جعل الموضوع الجنسي المُحَرَّم جزءًا من طريقة السرد، أو السرد نفسه»، ويخلص إلى أن «صنع الله إبراهيم أراد أن يكتب التابو نفسه، لا أن ينتقده أو ينقده أو يتأمل فيه من خارجه؛ بل أراد أن ينسجه في اللغة». ومع هذا فإن عبدالله حبيب يرى أن هذا الهاجس الذي كان سبب إعجابه بــ«نجمة أغسطس» هو نفسه سبب عدم إعجابه بـ«وردة»؛ إذْ بدا فيها مفتعلا وغير عفوي، بعكس روايات صنع الله الأخرى التي تتخذ من مصر مكانا لأحداثها.

وبما أنني أتحدث عن علاقة صنع الله إبراهيم بالعمانيين فلا بد من التعريج على الحكاية التي سردها محمد الحارثي في الكتاب المشار إليه أعلاه، التي تقول أشياء كثيرة عن أخلاق صنع الله وصدقه وأمانته وزهده، واتساقه مع مبادئه التي ظل وفيا لها حتى آخر يوم في حياته. يقول الحارثي: إنه خلال لقائه بصنع الله في عُمان في مطلع التسعينيات كان قد أسس لتوه مع أصدقاء عمانيين دار نشر في المغرب أسموها «نجمة»، واتفق مع الروائي الكبير الذي هو أيضا مترجم، على نشر مجموعة قصص لكتّاب أنجلوسكسونيين من ترجمته في الدار، وأعطاه مبلغ ستمائة دولار مقدمًا، لكن منشورات نجمة لم تستمر وأغلقت بعد سنتين من هذا الاتفاق دون نشر الكتاب. وبعد عدة سنوات حين كان الحارثي في مؤتمر شعري في القاهرة زار الروائيَّ صُنع الله إبراهيم في شقته بالطابق العاشر في مصر الجديدة لتناول العشاء بمعيته، كما قال، وفوجئ هناك بصنع الله يقدم له مغلفا به مبلغ الستمائة دولار؛ مقدم الترجمة التي لم تنشر، رغم أن الحارثي كان قد نسيها أصلا.

وسواء أحببنا «وردة» أو لم تعجبنا، فإنه يمكن القول مع ذلك: إن علاقتنا نحن العمانيين بصنع الله إبراهيم علاقة خاصة، تجعل حزننا على رحيله لا يقل عن حزن أحبائه وأصدقائه ومحبيه في مصر.

سليمان المعمري كاتب وروائي عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صنع الله إبراهیم

إقرأ أيضاً:

عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم.. بين السياسة والوفاء لمصر

عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم، اسم يرن في تاريخ مصر السياسي والدبلوماسي كرمز للنزاهة والجدية والتفاني في خدمة الوطن. ولد في مدينة الإسكندرية عام 1876، في بيت معروف بالتجارة والثقافة، حيث كان والده أحمد يحيي من كبار تجار القطن، ينتمي منذ بداياته إلى حزب الوفد، وكان له موقف راسخ في خدمة وطنه. 

عبدالفتاح يحيى نشأ في بيئة تجمع بين العمل التجاري والاجتماعي، ما أكسبه فهما عميقا للاقتصاد والمجتمع المصري، كما ورث عنه حب الوطن والانتماء الوطني الذي سيصنع لاحقا مسارا سياسيا غنيا بالعطاء والإنجازات.

في حياته العملية، تجسد دور عبدالفتاح باشا في شتى مناحي السياسة والدبلوماسية، فقد تقلد مناصب عديدة بداية من وزارة العدل، مرورا بمجلس الشوري، وصولا إلى رئاسة وزراء مصر. 

لم يكن مجرد سياسي تقليدي؛ بل كان رجلا يرى في السياسة وسيلة لخدمة المواطنين وتحقيق العدالة، خلال توليه وزارة العدل، حرص على تطوير النظام القضائي وتعزيز استخدام اللغة العربية في المحاكم المختلطة، مؤمنا أن اللغة ليست وسيلة للتواصل فحسب، بل هوية وطنية يجب الحفاظ عليها ودعمها.

وقد برز اسمه بشكل أكبر عندما تولى رئاسة مجلس الوزراء بين عامي 1933 و1934، حيث شكل حكومة كان هدفها خدمة الشعب المصري وتعزيز الاستقلال السياسي للبلاد. 

كان في هذه المرحلة محوريا في سن نظام أداء اليمين القانونية للوزراء أمام الملك، خطوة رائدة عززت من شفافية العمل الحكومي ونظام المساءلة داخل الدولة.

لم يقتصر دوره على الجانب السياسي الداخلي، بل امتدت بصماته إلى السياسة الخارجية، حيث احتفظ أثناء رئاسته للوزارة بمنصب وزير الخارجية، ما أتاح له أن يمثل مصر في المحافل الدولية ويثبت مكانتها بين الأمم.

عبدالفتاح باشا لم يكن بعيدا عن هموم المواطن البسيط، فقد أصدر قرارا بتخفيض إيجار الأطيان الزراعية عام 1932 بمقدار ثلاثة أعشار قيمتها، وهو قرار يعكس اهتمامه المباشر بمصالح الفلاحين والطبقة العاملة في الريف، ويبرهن على حبه لبلده وحرصه على العدالة الاجتماعية. 

كما كان له موقف حاسم من مؤسسات الإدارة المحلية التي لم تكن تعكس تطلعات المصريين، حيث قام بحل مجلس بلدي الإسكندرية الذي كان ذا صبغة دولية وأعضاؤه أجانب، مؤكدا أن مصر للأهالي وأن قراراتها يجب أن تخدم مصالح الشعب المصري أولا.

إضافة إلى ذلك، عمل على تنظيم وزارة الخارجية بشكل دقيق، محددا اختصاصات إداراتها، وهو ما ساعد على تعزيز كفاءة العمل الدبلوماسي، وفتح الطريق أمام جيل من الدبلوماسيين الذين يتطلعون لبناء مصر على أسس متينة. 

كل هذه الإنجازات لم تأت من فراغ، بل جاءت نتيجة لرؤية وطنية واضحة وإيمان راسخ بأن مصر تستحق قيادة واعية ومخلصة تعمل بلا كلل من أجلها.

حين نتحدث عن عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم، نتحدث عن رجل جمع بين الصرامة والنزاهة والحكمة والإنسانية، رجل لم ينس جذوره ولم يبتعد عن هموم شعبه، رجل جعل من السياسة أداة لخدمة الوطن والناس على حد سواء. 

إن تاريخه يذكرنا بأن القيادة الحقيقية ليست مجرد منصب، بل مسؤولية تجاه الوطن والمواطن، وأن الحب الحقيقي لمصر يظهر في القرارات الصغيرة والكبيرة، في العدالة الاجتماعية، وفي الدفاع عن هوية البلاد ومصالحها.

عبدالفتاح باشا ترك إرثا عميقا في الذاكرة المصرية، ليس فقط كسياسي ودبلوماسي، بل كمواطن عاش وحلم وعمل من أجل مصر، وعلمنا أن الوطنية ليست شعارات ترفع، بل أفعال تمارس يوميا، وأن الالتزام بحقوق الناس هو السبيل لبناء وطن قوي وكريم. 

وبالرغم من مرور السنوات، يظل اسمه محفورا في صفحات التاريخ، مثالا للنزاهة، للحكمة، وللإخلاص، وللحب الحقيقي لمصر، حب يتجاوز الكلمات ويصل إلى الأفعال، لتبقى مصر دائما في المقدمة، ولتبقى ذكراه مصدر إلهام لكل من يحب وطنه ويعمل من أجل رفعتها.

مقالات مشابهة

  • وفاة الشاب إبراهيم اختناقًا بغاز المدفأة فجر اليوم
  • تعلن محكمة عمران للمدين إبراهيم صالح جميل عن أمر الأداء
  • إبراهيم عيسى: الدين عند الله هو الإسلام.. ودخول الجنة أمر إلهي
  • عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم.. بين السياسة والوفاء لمصر
  • حماس: تقرير العفو الدولية مغلوط ويتبنى الرواية الإسرائيلية
  • حماس ترفض تقرير العفو الدولية وتتهمه بتبني الرواية الإسرائيلية
  • "الأحرار" تدين تقرير العفو الدولية لتبنيه الرواية الإسرائيلية واتهامه المقاومة بارتكاب جرائم في 7 أكتوبر
  • ابن سائق محمد صبحي يقلب الرواية المتداولة رأسًا على عقب .. تفاصيل
  • على صلة بحزب الله وايران.. اليكم آخر المعلومات عن ناقلة النفط التي احتجزتها أميركا في الكاريبي
  • تعلن محكمة غرب الامانة بأن على/ إبراهيم مبخوت المصلي الحضور إلى المحكمة