هل سنواصل هتاف لن يحكمنا البنك الدولي ام هناك بدائل؟ «4- 7»

صديق الزيلعي

أرسل لي عدد من الزملاء والأصدقاء مقالا للدكتور احمد عثمان عمر بعنوان: “الخلاف بين قوى التغيير الجذري وقحت استراتيجي وليس تكتيكي”. وقصدوا من ارسال المقال انني من دعاة تحالف كل القوى المدنية الداعية لإيقاف الحرب، ويجب أن انتبه للخلاف مع قوى قحت.

سأكتب مجموعة من المقالات في حوار مع المقال، ليس فحسب، بل ومع الخط السياسي الذي يتبناه المقال وعدد مقدر من الشيوعيين واليساريين. تأتي أهمية ذلك من تحديات المرحلة المصيرية التي تمر بها بلادنا، التي تستدعي حوارا جادا وعقلانيا، بين كل قوى الثورة، في سبيل الوصول للرؤية المشتركة، التي تساعدنا في هزيمة مخطط من أشعلوا الحرب، والذين يريدون مواصلتها على أنقاض بلادنا، ومن اجل مواصلة واستكمال مهام الثورة. ستكون مساهمتي في الحوار سبع مقالات، يعالج كل منها واحدا من المواضيع التي وردت في مقال الدكتور أحمد. الهدف من ذلك هو تركيز النقاش، وطرح الرأي حول مسألة محددة. لكن المقالات يجمع بينها خط واضح وتجانس، داخلي، في المحتوى وتواصل في نقد اطروحات دعاة التغيير الجذري، لان الدكتور أحمد عثمان هو أبرز منظريهم. تبدأ المجموعة بمقال عن قضية العدو الاستراتيجي، يعالج المقال الثاني قضية الشراكة، يتمحور المقال الثالث حول مفهوم الهبوط الناعم، المقال الرابع يعالج قضية الاقتصاد والموقف من البنك الدولي ومؤسساته، أما الموقف من الحل السياسي فهو موضوع المقال الخامس، المقال السادس سيناقش الموقف من الحرب، وستكون الخاتمة هي المقال الأخير.

كتب الصديق الدكتور أحمد عثمان عمر في إطار نقده للخط الذي تتبناه قوى الحرية والتغيير، ما يلي:

(الخضوع التام لروشتة صندوق النقد الدولي، والتنكر للبرنامج الاسعافي ومخرجات المؤتمر الاقتصادي التي شاركت (قحت) نفسها في اعدادهما!)

كتب الكثير عن قضية الاقتصاد السوداني وازماته والمقترحات لتخطي تلك الأزمات. وهنا لا نود الخوض في تلك النقاشات، ولكن سوف أناقش باختصار الموقف الرافض للتعامل مع البنك الدولي وصندوق النقد وموقفنا من المجتمع الدولي بصفة عامة (في الجوانب الاقتصادية).

أبدأ بمدخل نظري تاريخي مختصر، لمساعدتنا في وضع القضية في اطارها الصحيح.

اخضعت الدول الرأسمالية الغربية السودان وغيره من بلدان، ما كان يسمى بالعالم الثالث، خلال فترة تاريخية معينة، هي فترة الاستعمار المباشر، وحتى الان، وتم دمجها في السوق العالمي. وتمت إعادة تشكيل الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، مما جعل لتلك العملية ابعادا تاريخية مستمرة أهمها علاقات التبادل غير المتكافئ مع الدول الرأسمالية. وهذا سبب أساسي لما نحن فيه حاليا.

أدت السياسات الاقتصادية التي طبقت في السودان، منذ الاستقلال، لاختلالات هيكلية كبيرة، وازمات خانقة، وتدهور مستمر في كافة القطاعات الاقتصادية، وافقار حقيقي لأغلبية شعبنا. وحتي المجهودات البسيطة التي بذلت لإصلاح الوضع الاقتصادي، أفشلها جهاز الدولة، ضعيف الإنتاجية، أفشلها تماما او حتى لم يطبقها بالشكل المطلوب.

ساعد المجتمع الدولي في دراسة ازماتنا واقتراح حلول لها. من أهم الدراسات المتكاملة التي أعدت، هي دراسة تيم أكاديمي متميز كلفته منظمة العمل الدولية، في 1976. اعد ذلك الفريق البحثي عدة دراسات شملت كافة قطاعات الاقتصاد السوداني، وأصدر توصيات مهمة، لم تنفذ. وكانت تلك التوصيات تشكل أرضية مناسبة للإصلاح. ثم جاء المؤتمر الاقتصادي القومي بعد انتفاضة مارس ابريل 1985، والذي بدوره قدم مساهمات عميقة وجادة لحل مشاكل اقتصادنا، ولكنها لم تكن احسن حالا. هذا على الصعيد النظري، اي مستوى الدراسات. اما في الجوانب التطبيقية، فقد كان فترة حكم نميري، هي مرحلة الفرص الضائعة كما سماها إبراهيم منعم منصور. فقد توفرت ملايين الدولارات، بعد حرب أكتوبر 1973، عند الدول الخليجية، فساهمت بأموال كبيرة للاستثمار في السودان، في ظل هوجة ما سمي بسلة غذاء العالم. ولكن الفساد وضعف أداء جهاز الدولة، أضاع تلك الفرصة النادرة وامثالها كثر.

هذه مقدمة مختصرة جدا، لبعض المعالم البارزة، لبعض محطات اقتصادنا. وهي ليست شاملة وانما لإعطاء خلفية للنقاش اللاحق حول البدائل المطروحة وكيفية التعامل معها، في الإطار الواقعي لبلادنا، وفي ظل المصاعب التي تحاصرنا من كل جانب.

جاءت الطامة الكبرى مع انقلاب الاسلامويين، فتم سرقة مؤسسات القطاع العام تحت ستار الخصخصة، ودمرت البنيات الأساسية، وفي مقدمتها السكة الحديد والنقل النهري، وخربت المنشآت المنتجة وفي مقدمتها مشروع الجزيرة. اما الأموال الطائلة الناتجة عن البترول، فلم يعرف مكانها وتم اخفائها في البنوك الأجنبية. وفقدت الدولة خيرة الخبرات والكوادر عن طريق ما سمي بالفصل للصالح العام، وتمددت الحرب الأهلية الي غرب السودان، وصرنا قطرا مفلسا بديون تفوق الستين مليار دولار، وصار شعبا يعاني من تدني مستوى المعيشة وانعدام ضروريات الحياة، بل المجاعة في أجزاء منه. باختصار ورثنا دولة منهارة في انحدار سريع لتصبح دولة فاشلة، حسب المعايير الدولية للدولة الفاشلة.

هذا الوضع الكارثي جعلنا في تحدي مصيري، بعد إزاحة البشير. ونأتي للتساؤل الخالد: ما العمل؟

قبل الدخول في تفاصيل مقترحات البرنامج الاقتصادي، وكيفية مواجهة التحديات الجسام، اقتطف بعض ما قاله نقد في الجمعية التأسيسية عند مناقشة الميزانية 1986، حيث قدم خطابا موضوعيا وواقعيا ولم يلجأ للشعارات. علينا ملاحظة ان الوضع الاقتصادي آنذاك، كان أفضل بما لا يقاس مع واقع اقتصادنا في 2019. قال نقد:

(يدور الصراع والخلاف حول تنفيذ برنامج إنقاذ الاقتصاد. لكن، برغم هذا الخلاف، نضع في اعتبارنا اننا نمر بحالة محددة وملموسة. فالسودان يعاني فيها من مشاكل كبيرة: مشكلة المجاعة وذيولها، ومشكلة الحرب الاهلية، وأعتقد أن أي دولة – بصرف النظر عن نظامها الاجتماعي ونوع السلطة السياسية – إذا ابتلاها الله بهاتين المشكلتين (حرب أهلية ومجاعة) لا بد أن تنوء تحت ثقل هذه المشكلة في شقها الاقتصادي (المجاعة) وفي شقها العسكري (الحرب الاهلية). هذه المشاكل إذا وضعت في الاعتبار، فطرق العلاج والحل وطرح المطالب والمطامع والطموحات يمكن أن تتقيد في إطار واقعي ومعقول. والى جانب المجاعة والحرب الاهلية، تواجه مشكلة الديون. صحيح ان هذه مشكلة لا ينفرد بها السودان، لكن السودان لم تكن عليه ديون بهذا الحجم. وكان يمكن الا يستدين كل تلك المبالغ بلا عائد وبلا تنمية وبلا أساس للمستقبل على الأقل لتسديد الديون. والى جانب المجاعة والحرب الأهلية والديون، هناك جهاز الدولة المايوي. ومهما نطرح من سياسات للإصلاح أو الإنقاذ، يمثل هذا الجهاز عقبة. هذه المشاكل الأربع أو هذه العقبات الأربع نضعها في الاعتبار ونحن نقيم السياسة المالية والميزانية).

ثم قدم نقد أربعة بدائل للحكومة كمقترحات لكيفية تخفيض تكاليف وتوفير السلع، لتختار منها واحدا وتطبقه. والملاحظ ان الخطاب، الذي واصل لساعات، لم يتعرض للبنك الدولي او صندوق النقد بالهجوم والاتهامات الخ، رغم ان الصندوق كان متمسكا آنذاك بروشته الشهيرة ((Structural adjustment. بكل شروطها المجحفة بحق البلدان النامية). في 2019 وبلادنا على حافة الهاوية، كنا في أمس الحاجة لمثل هذا الطرح، وبنفس روح تقدير حجم الكارثة وضرورة التوافق للوصول لبرنامج واقعي لتخطيها. ولكن ما حدث ان اللجنة الاقتصادية، التي سيطر عليها اليسار، كانت تعتقد انها في معركة ضد حمدوك وضد ما يقوم به.

كثر الحديث عن المؤتمر الاقتصادي، وتنكر حكومة حمدوك لقراراته. اؤمن ان هذا طرح مضلل. فالمؤتمر الاقتصادي، الذي انعقد في الفترة من 26 وحتى 28 سبتمبر 2020، تحت شعار نحو الإصلاح الشامل والتنمية الاقتصادية المستدامة. تمت فيه 10 جلسات قدمت خلالها 7 أوراق، كما انعقدت 16 ورشة قطاعية. خلص المؤتمر لعدد من التوصيات، حسب المحاور التالية:

أولا: الرؤى والتحديات واولويات التنمية لحكومة الفترة الانتقالية قدمت فيه 42 توصية.

ثانيا: السياسات المالية والتخطيط الاقتصادي تم اصدار 48 توصية.

ثالثا: بشأن الدعم السلعي وبدائله قدم 20 توصية.

رابعا: بشأن السياسات النقدية والمصرفية وسياسات القطاع الخارجي 32 توصية.

خامسا: بشأن الشباب والمسألة الاقتصادية قدمت 11 توصية.

سادسا: توصيات عامة وكانت 37 توصية.

كما نري فهذه توصيات وليست قرارات لنطالب الحكومة بإلزامية تنفيذها.

كذلك الحديث عن البرنامج الاسعافي يعطي انطباعا بأن هناك برنامجا تفصيلا وضع امام الحكومة وتجاهلته. وأضرب مثلا بالبرنامج الاسعافي الذي عرضه الحزب الشيوعي تحت عنوان: ملامح البرنامج الاسعافي للمرحلة الانتقالية. أقول ان الحزب الشيوعي الذي هو أكثر الأحزاب السودانية اسهاما بالدراسات الاقتصادية التفصيلية، قدم برنامجا في أربع ورقات، في شكل نقاط. وهي اشبه بمن يود تقديم (Power point presentation). وكمثال ورد فيه:

إعادة تأهيل مشروع الجزيرة. إعادة تأهيل السكة الحديد إعادة تأهيل النقل البحري والنهري والجوي وشبكة الطرق البرية.

هذه مهام متفق عليها تماما بين كل قوى الثورة، لكن التحدي كيف ننفذ هذه المهام العامة. والاهم ان كل البرنامج الاسعافي المقدم لم يتعرض لقضية الديون، وهي ام مشاكلنا الاقتصادية. كيف يمكننا ان نطلب مساعدات او قروض ونحن لم ندفع ما علينا من ديون؟ من اين نتحصل على التكنولوجيا لإعادة تعمير مؤسساتنا التي تم تدميرها تماما؟ من اين لنا اصلاح بنياتنا الأساسية.؟ الواقع المرير يفرض التعامل مع البنك الدولي وصندوق النقد، وبعد تصفية ديوننا وتأهيل بنياتنا الأساسية يمكننا ان نعتمد على أنفسنا في تنمية مواردنا.

علينا الانتباه ان روشتة صندوق النقد قد تعرضت لنقد عنيف، بسبب اثارها المدمرة في اقتصاد وحياة سكان العالم الثالث، وقد تمت تعديلات في السياسات، أهمها سياسة التصدي للفقر، التي أصبحت ملزمة لكل من يتقدم بطلب للتمويل.

اننا نعرف ان حكومة الفترة الانتقالية حوصرت بجهاز دولة معادي لها وعمل لإفشال كل سياساتها، وكان العسكر يسيطرون على 82% من الاقتصاد. رغم كل ذلك ارتكبت أخطاء جسيمة في سياساتها الاقتصادية. رغم جسارة الأخطاء، لم تكن ترقي للدعوة لإسقاطها، وكان الأولى بنا استخدام منهج نقد في الطرح الواقعي، وتفهم الصعوبات.

هناك الكثير من القضايا الاقتصادية التي يجب التعرض لها، لكن الحيز لا يسمح، والهدف من هذه المقالات فتح الحوار، وليس العرض التفصيلي لقضية واحدة، مهما كانت أهميتها.

نواصل

[email protected]

استراتيجية الهبوط الناعم: الفكرة والمقترح وكيف تحولت لسبة؟ «3- 7»

الوسومأحمد عثمان عمر الجذريون الحرب السودان صديق الزيلعي قوى الحرية والتغيير

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: أحمد عثمان عمر الجذريون الحرب السودان قوى الحرية والتغيير المؤتمر الاقتصادی البنک الدولی

إقرأ أيضاً:

الحكومة الوطنية تبحث مع البنك الدولي خطط تطوير الاقتصاد

عقدت حكومة الوحدة الوطنية اليوم الأربعاء اجتماعًا موسعًا في طرابلس مع وفد البنك الدولي القادم من واشنطن، برئاسة المدير التنفيذي لمنطقة المغرب ومالطا وشمال إفريقيا مصطفى أمداي، وبمشاركة ممثلة البنك الدولي في ليبيا هينريت وعدد من الخبراء المختصين.

وترأس الجانب الليبي وزير المالية المكلف والمستشار المالي لرئيس الوزراء محمد الشهوبي، بحضور رئيس الفريق التنفيذي لمبادرات الرئيس والمشروعات الاستراتيجية مصطفى المانع، ووزير التخطيط المكلف، ووزيرة الشؤون الاجتماعية، ووزير النفط والغاز المكلف، ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط، ووكيل وزارة الاقتصاد، ورئيس الهيئة العامة للاتصالات، ورئيس هيئة الإحصاء والتعداد، وممثل عن ديوان المحاسبة.

وناقش الاجتماع مسار الشراكة بين الحكومة الليبية والبنك الدولي في مجالات الدعم الاستشاري والتقني، ضمن رؤية الحكومة لتعزيز الاستقرار الاقتصادي ورفع كفاءة الإدارة المالية.

كما جرى استعراض خطط تطوير بيئة الأعمال في ليبيا وفق مؤشر Business Ready، بما يسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية وتنشيط الاقتصاد المحلي وتحسين المناخ الاستثماري في مختلف القطاعات.

وتناول المجتمعون جهود الحكومة في دعم التحول الرقمي والملفات المتعلقة به، مع الاتفاق على اعتماد نهج الإدارة بالمشروعات والبرامج، وتشكيل فرق عمل مشتركة من الجهات المعنية لضمان انطلاق أجندة التعاون لعام 2026 بشكل متكامل وفعّال.

وأكد الاجتماع أن التعاون بين الحكومة والبنك الدولي يعتمد على الدعم التقني والاستشاري، وهو نهج تتبناه مؤسسات دولية عدة، وتشترك فيه دول الخليج مثل السعودية وقطر والإمارات، ما يعزز ثقة الشركاء الدوليين في برامج الإصلاح داخل ليبيا.

مقالات مشابهة

  • صندوق النقد الدولي يقر المراجعة الرابعة ويُتيح للأردن 240 مليون دولار دعمًا للبرنامج الاقتصادي
  • السودان بين العواصف الدبلوماسية وتضييق الخناق الدولي على المليشيات وتصاعد الأزمة الإنسانية
  • نحو 100 قتيل في هجوم الإنتقالي على حضرموت.. ومعلومات تكشف حجم الإنتهاكات التي ارتكبتها مليشياته هناك
  • عاجل | البنك التجاري الدولي CIB يطلق شهادة جديدة بعائد 17.25%
  • البنك التجاري الدولي يرفع أسعار الفائدة على شهادات الادخار حتى 17.25%
  • السيّد: هل تكفي الدولارات القليلة التي تحال على القطاع العام ليومين في لبنان ؟
  • البنك الدولي: الاقتصاد الصيني حافظ على قوته في الربع الثالث
  • الحكومة الوطنية تبحث مع البنك الدولي خطط تطوير الاقتصاد
  • وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي تستقبل النائب الأول لرئيس البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية لبحث نتائج الزيارة ومستقبل العلاقات الاستراتيجية مع البنك
  • اليمن.. عقدة الجغرافيا التي قصمت ظهر الهيمنة: تفكيك خيوط المؤامرة الكبرى