جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-14@07:47:31 GMT

قيمة التناصح

تاريخ النشر: 13th, October 2025 GMT

قيمة التناصح

 

 

 

د. صالح بن ناصر القاسمي

 

يُولد الإنسان وهو مُزود بفطرة مزدوجة تجمع بين نزعة الخير ونزعة الشر، وعليه أن يخوض مشوار حياته القصير مهما طال في حساب الزمن، وهو في صراعٍ دائمٍ بين فضيلة الخير ورذيلة الشر. قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 7- 10).

فإنَّ تزكية النفس إنما تكون شاملة لكل فضيلة وسمة أخلاقية واجتماعية وفكرية، تهدف في بدايتها إلى إصلاح نفس الإنسان، ثم تمتد لتشمل صلاح المجتمع بأكمله. أما دسّ النفس وإخفاؤها في المعاصي والرذائل فهو انحراف عن الفطرة السليمة ومخالفة لكل فضيلة أخلاقية، ونتيجته ضررٌ يعود على الإنسان ذاته وعلى مجتمعه الذي يعيش فيه.

ولذلك فإنَّ الإنسان سويّ الفطرة، دائمًا ما تجده حريصًا على البحث عن الفضائل، لأنها البوصلة التي تهديه نحو الصلاح الفردي والجمعي، ولأن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، فإنه يطمح ويعمل على أن يكون مجتمعه مجتمع فضيلة، تسوده الأخلاق، ويعمه الصلاح، وتحكمه العدالة، وتظله القيم النبيلة.

وحين يظهر أي خلل أخلاقي في المُجتمع، فإنَّ ذلك يثير حفيظة كل إنسان سوي تربى على الفضيلة، إذ يراها أساس إنسانية المجتمع، وبدونها يفقد المجتمع عماده الذي يقوم عليه. وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى في قوله: ﴿إِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: 38).

والتولي هو الابتعاد عن الإيمان الذي يشمل في مضمونه كل الفضائل، والانصراف عن قيم الخير التي بها يُحفظ كيان الأمة وتستقيم حياتها.

ومن هنا، فقد أوجد الإسلام حلولًا وأساليب راقية للتصدي لكل خللٍ يظهر في المجتمع، ومن أهم تلك الأساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو واجب ديني وأخلاقي أساسه دعوة الناس إلى التمسك بالخير، والحث على الفضائل، ونصحهم بالابتعاد عن الشر، وعن كل عملٍ مرتبطٍ بالرذائل أو يضر بالمجتمع. قال تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة: 79).

وقد ضرب الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز العديد من الأمثلة عن الأمم السابقة التي انحرفت عن النهج القويم، وخالفت أمر ربها، ولم يتناصحوا فيما بينهم، وتركوا منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانت عاقبتهم أن حلَّ بهم العقاب الإلهي، فمنهم من أُرسل عليهم ريحٌ صرصرٌ عاتية، ومنهم من اقتلعهم الله من الأرض فجعل عاليها سافلها، ومنهم من أغرقهم فلم يُبقِ منهم باقية، كأقوام عادٍ وثمود وغيرهم.

ومع ذلك، فإنَّ أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يتركه الشارع الحكيم دون ضوابط تضبطه وقواعد تُقنِّنه؛ إذ لو تُرك دون قيودٍ لانقلب إلى فوضى قد تُفرّق المجتمعات بدل أن تُصلحها. ومن أبرز تلك الضوابط أن تكون النصيحة في السر لا في العلن إذا كان متلقيها فردًا، فالنصيحة في العلن قد تنقلب إلى نوعٍ من التشهير، وحينها قد تُحدث القطيعة بدل الوصل، أو العناد بدل القبول، والتمادي في الخطأ بدل الإصلاح.

كما أن من أهم ضوابط النصح اختيار الوقت المناسب له، وأن يُقدَّم بأسلوبٍ رفيقٍ ولغةٍ لينةٍ، فالرفق مفتاح القلوب، واللين زينة الدعوة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نُزع من شيءٍ إلا شانه". وهذا التوجيه النبوي يجعلنا ندرك أن الكلمة اللطيفة والأسلوب الهادئ أكثر تأثيرًا في النفوس من العتاب الحاد أو النقد الجارح.

أما إذا كان الأمر يخص المجتمع بعمومه، فإنَّ الإسلام قد جعل من المساجد منابر للتناصح الجماعي، وخاصة عبر خطبة الجمعة التي تجمع الناس وتوحد قلوبهم على الخير، فهي من أفضل الأوقات وأقدس الأماكن للنصح والتوجيه والإرشاد، إذ يخاطب فيها الخطيب الناس جميعًا بخطابٍ عامٍ يهدف إلى الإصلاح والتقويم، فيتأثر السامعون لبركة الزمان والمكان، فتقع الكلمات في القلوب موقع البلسم والضياء.

ومع ذلك، فإنَّ البحث عن الفضيلة والحرص على نقاء المجتمع وصلاحه لا يعني أن نحمّل أنفسنا ما لا طاقة لنا به، قال تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: 233).

علينا أن ندرك أننا لا نملك العصا السحرية التي تصلح كل الخلل دفعةً واحدة، ومهما بذلنا من جهد، فإنَّ هناك من سيبقى على حاله، لأنَّ الصراع بين الخير والشر سيستمر إلى قيام الساعة، وهذه سنة الحياة التي قدرها الله بقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الملك: 2).

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الجدال والمراء من أخطر أساليب النصح وأكثرها ضررًا، إذ يُضيع الوقت ويزرع الأحقاد بين الناس، لاسيما في هذا الزمن الذي يدّعي فيه كثيرون امتلاك الحقيقة المطلقة والمعرفة التامة، فيعتدّ كلٌّ برأيه ويستغني عن سماع الآخرين. لذا، فالحكمة تقتضي أن يكون التناصح بالحسنى والهدوء والتقدير، لا بالمماراة أو التوبيخ أو الاتهام.

وفي الختام.. إنَّ حديثنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعني التحكم في الحريات العامة أو تقييد المجتمع عن ممارسة نشاطه الطبيعي، وإنما المقصود هو ألا نترك التناصح فيما بيننا كأفرادٍ وأسرٍ ومجتمعات، حتى نحافظ على نقاء بيئتنا الأخلاقية، ونحمي مجتمعنا شامخًا بقيمه ومبادئه. فبقدر ما نحافظ على قيمة التناصح، نحافظ على إنسانيتنا وكرامتنا، لأنَّ المجتمع الذي يغيب عنه النصح يغيب عنه النور، والمجتمع الذي يتناصح أهله يبقى حيًّا نابضًا بالعطاء والفضيلة.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

كيف يتطهر المريض الذي يركب قسطرة البول للصلاة؟..الإفتاء تجيب

تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا يقول صاحبه: كيف يتطهَّر المريضُ الذي يركّب قسطرةَ البول، وما حكم صلاته؟

وأجابت دار الإفتاء عن السؤال قائلة:هذا المريض له حالتان: إما أَنْ يخرج مِنه البول بدون تَحَكُّم منه أو لا.

فإن خرج منه البول دون تَحَكُّم منه فهذا ما يعرف عند الفقهاء بـ«السَّلَس»؛ فيُعفَى عنه حينئذٍ، وحكمه في هذه الحالة: وجوب غسل محل النجاسة، ثم الربط على عضو التبول، ثم الوضوء، ويصلِّي مَنْ هذا حالُه بهذا الوضوء ما يشاء من الصلوات، وينتقض وضوؤه بانتهاء وقت الصلاة المفروضة التي توضأ لها.

حكم الكلام في الحمام أثناء قضاء الحاجة.. الإفتاء تجيبما حكم الزكاة في الذهب الذي تتزين به المرأة؟.. دار الإفتاء تجيبما حكم الإنفاق من أموال الزكاة على ذوي الهمم لتعليمهم؟.. الإفتاء تجيبسبب دخول والد البنات الجنة .. الإفتاء توضح

أما إذا خرج منه البول في الكيس المعلَّق خارج جسده بتَحَكُّمٍ منه: فإنه يجب عليه الطهارة للعبادات التي تحتاجها؛ فيتوضأ للصلاة بخروج شيء من البول، ويُصَلِّي عقب وضوئه.

وبخصوص صحة الصلاة؛ فإذا استطاع إزالة هذا الكيس أثناء الصلاة فلا تصح الصلاة في هذه الحالة إلا بعد إزالة هذا الكيس، وإن لم يستطع إزالة الكيس الذي به البول أثناء الصلاة للمشقة البالغة في ذلك فهذا من المعفو عنه؛ لأَنَّ الشريعة مبناها على التيسير ورفع الحرج عن المكلفين.

المقصود بـ"قسطرة البول" وبيان نواقض الوضوء

وأوضحت ان «قسطرة البول»: هو كيس خارج البدن يوجد به بعض الأنابيب ليخرج منها البول المحتبس في جسم المريض.

وهذا البول الخارج من الجسد الأصل فيه شرعًا أَنَّه من نواقض الوضوء، فمن النواقض: خروج شيء من السبيلين -القُبُل والدُّبُر-، ويشمل ذلك البول والغائط وغيرهما؛ لقوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ [النساء: 43].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»، رواه مسلم.

وعن صفوان بن عسّالٍ المُرادِي رضي الله عنه قال: "أَمَرنا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا كُنّا سَفْرًا ألَّا نَنْزعَ خِفَافَنا ثلاثةَ أيامٍ بِليَالِيهنَّ، إلا من جنابة، ولكن من بولٍ، أو غائطٍ، أو نومٍ" رواه الترمذي.

فدلّ هذا الحديث على أن النقض بالبول، والغائط، والنوم.

وروى الإمام عبد الرزاق في "المصنف" عَنْ عبد اللهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "إِنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ، وَلَيْسَ مِمَّا دَخَلَ، وَالْفِطْرُ فِي الصَّوْمِ مِمَّا دَخَلَ، وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ".

ومعنى انتقاضِ الوضوء في كلام الفقهاء: أنَّه لا يصح فعل أي شيء من العبادات التي اشترط الشرع الشريف لها الطهارة.

كيفية طهارة مريض القسطرة وحكم صلاته والأدلة على ذلك

لكن هذا المريض والحالة السابقة له حالتان في العبادات المشترطة للطهارة؛ كالصلاة، والطواف؛ إما أَنْ يخرج مِنه البول بدون تَحَكُّم منه أو لا.

فإن خرج منه البول دون تَحَكُّم منه فهذا من الأحوال التي وَضَّح الفقهاء أنه يُعذَر فيها الشخص من اشتراط الطهارة، وهو ما يعرف عند الفقهاء بـ«السَّلَس»؛ فيُعفَى عنه حينئذٍ، سواء في كل الطهارة أو في بعضها؛ ومعنى السَّلَس: استدامة انفلات الحدث من القُبُل أو الدُّبر مع العجز عن التحكم في منعه، ولو في فتراتٍ متقطعة، فيكون حكمه في هذه الحالة حكمَ المرأة المستحاضة التي يسيل منها الدمُ مرضًا ونزيفًا لا حيضًا، وهو: وجوب غسل محل النجاسة، ثم الربط على عضو التبول، ثم الوضوء، ويصلِّي مَنْ هذا حالُه بهذا الوضوء ما يشاء من الصلوات، وينتقض وضوؤه بانتهاء وقت الصلاة المفروضة التي توضأ لها، ويتوضأ لفرض آخر بدخول وقته.

أما إذا كان الشخص يخرج منه البول في الكيس المعلَّق خارج جسده بتَحَكُّمٍ منه: فإنه يجب عليه الطهارة للعبادات -كالصلاة مثلًا- المحتاجة إليها بخروج شيء من البول، ويُصَلِّي عقب وضوئه.

لكن يُفَرَّق بين حالين في صحة الصلاة؛ حال كون الكيس المحمول الذي في البول -سواء تَحَكَّم الشخص في الخارج منه أو لا- على الشخص، فقد يَقْدِر الشخص على إزالة هذا الكيس أثناء الصلاة أو لًا؛ فإن قَدَر على إزالة هذا الكيس فلا تصح الصلاة في هذه الحالة؛ وذلك لأن مِن شروط صحة الصلاة طهارة الثوب والبدن من النجاسة.

أما إذا لم يَقْدِر الشخص على إزالة الكيس الذي به البول أثناء الصلاة للمشقة البالغة في ذلك فهذا من المعفو عنه؛ ذلك أَنَّ الشريعة مبناها على التيسير ورفع الحرج عن المكلفين، وقد دَلَّ على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والقواعد الفقهية:

1- فمن الكتاب: قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقوله: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28].

2- ومن السنة المطهرة: عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» رواه أحمد.

3- ومن القواعد: قاعدة "المشقة تجلب التيسير" وغيرها.

وفي ذلك دليل على رفع الحرج والمشقة الزائدة عن المكلفين.

طباعة شارك كيفية طهارة مريض القسطرة وحكم صلاته مريض القسطرة طهارة مريض القسطرة كيفية طهارة مريض القسطرة الطهارة المقصود بـقسطرة البول نواقض الوضوء

مقالات مشابهة

  • رحلة العقل والروح.. المفكر الذي تحدى الظنون واكتشف الإسلام (2 من 3)
  • يراقب المرء بأسى التدهور العقلي الذي اصاب كاتب رصين مثل النور حمد
  • كيف يقبل الله عملك؟.. انتبه فهذا الأمر يصعد به للسماء السابعة
  • عصام يونس: قمة شرم الشيخ تضع الكرة في ملعب المجتمع الدولي
  • دعاء الصباح .. ردد أفضل أدعية الرزق وفك الكرب يأتيك الخير من حيث لا تحتسب
  • كيف يتطهر المريض الذي يركب قسطرة البول للصلاة؟..الإفتاء تجيب
  • كيف حرم الإسلام الربا؟
  • دعاء المعجزات .. يجرّ إليك الخير جرًا ردّده دائمًا
  • حملاوي: ظاهرة المخدرات من أبرز التحديات التي تواجه المجتمع الجزائري