الجزيرة:
2025-10-14@21:25:25 GMT

أسئلة الحكاية؟

تاريخ النشر: 14th, October 2025 GMT

أسئلة الحكاية؟

(1)

هل تتذكر أول حكاية سردتها أنت لأحد؟

لا أظن، ولا أنا أذكر، فمنذ أن أدركنا النطق ونحن نحكي، كل بطريقته، كطبيعة إنسانية خلقها الله فينا، فالحكاية وسيلتنا البدائية والأساسية لفهم العالم، ولحفظ ذاكرتنا من النسيان.

لكن ما وقع مؤخرا، غيّر المعادلة قليلا أو ربما كثيرا، ففي عصر المنصات والذكاء الاصطناعي أصبح كل شيء يتغير، حتى الحكاية.

(2)من يملك الحكاية على منصات التواصل؟

في ظاهر الأمر فإن كل منا يملك أن يحكي حكايته، لكن في الواقع هناك الخوارزميات، وهناك الجمهور، وهناك الرعاة، أي أن الحكاية اليوم تخضع لنظام ملكية هجين ومعقد، يبدو فيه ظاهريا أن كل مستخدم يملك حكايته الشخصية، لكن الواقع ليس كذلك.

الخوارزميات تمتلك القدرة على تحديد مصير كل حكاية، من يراها، متى تظهر، وكيف تنتشر. هذا يعني أن المنصات تملك "مفاتيح الرؤية"، وهي قوة أساسية في عالم السرد، ثم هناك الجمهور الذي يشارك في تشكيل الحكاية عبر التفاعل والتعليق والمشاركة، مما يجعل كل حكاية عملا تشاركيا بشكل لا واعٍ، والمعلنون أيضا يملكون تأثيرا غير مباشر من خلال تمويل المحتوى الذي يخدم أهدافهم التجارية.

في النهاية، نحن أمام وهم الملكية الفردية، بينما الحكاية تخضع لشبكة من المصالح والقوى التي تتجاوز الراوي الأصلي، هذا التوزيع للسلطة يخلق نوعا جديدا من الرقابة اللامرئية، حيث تُشذب الحكايات وتُعدل وفقا لمعايير الانتشار والربحية.

(3)هل طورت المنصات الحكاية أم هزمتها؟

تتعرض الحكاية في زماننا لضغوط تجبرها على إعادة تعريف مكوناتها الأساسية، البداية والوسط والنهاية، فالبداية صار لزاما أن تكون خاطفة ومثيرة في الثواني الأولى، وإلا فقدت المشاهد. أما الوسط فقد تحول إلى لحظة ذروة مكثفة، فيما النهاية صارت نقطة تأثير سريعة أو twist مفاجئ. هذا التطور خلق أشكالا سردية جديدة مثل القصة المصورة (stories)، الحكاية المتسلسلة عبر عدة منشورات، والسرد التفاعلي، حيث الجمهور يشارك في تحديد مسار القصة.

إعلان

الحكاية بالتأكيد لم تختفِ، لكنها تفككت إلى وحدات صغيرة قابلة للاستهلاك السريع، وفي ظل ذلك فقدت الحكاية التعقيد النفسي، والتطور التدريجي للشخصيات، والعمق الفلسفي، بعد أن أصبحت تعتمد على الإيحاء والرمز أكثر من التفصيل، وعلى الصدمة أكثر من التأمل. إنها رواية البرق، تضيء لحظة ثم تتركنا في عتمة أطول.

(4)هل ضاع الصوت الفردي؟

في الماضي، كان الصوت الفردي يتطور عبر سنوات من التجربة والكتابة، لكنه اليوم يمكن أن يتشكل ويتغير في أسابيع، والمشكلة الكبرى أن هذا الصوت صار يتأثر بشدة بردود الأفعال الفورية والخوارزميات.

الصوت الفردي اليوم يواجه تحديات جديدة، مثل الحاجة للتكيف مع منصات متعددة، كل منها له قواعده وجمهوره. هذا يعني أن نفس الشخص قد يطور "أصواتا" مختلفة: صوتا على "إكس"، آخر على "إنستغرام"، وثالثا على "تيك توك".

لكن هناك أيضا ديمقراطية جديدة في الصوت، حيث يمكن لأصوات كانت مهمشة أن تجد منابرها. المشكلة في التشابه المتزايد بين الأصوات؛ بسبب الخوارزميات التي تكافئ أنماطا معينة من المحتوى، مما يدفع الجميع نحو المحاكاة. الصوت الفردي موجود، لكنه يصارع للحفاظ على تفرده وسط ضغط التوحيد الخوارزمي.

(5)ما الفرق بين من يحكي ومن يوثق؟

الحكاية تتطلب تدخلا واعيا في المادة الخام، إعادة ترتيب الأحداث، اختيار زاوية نظر معينة، وإضافة طبقات من المعنى. الحكاية تسعى لتحويل الواقع إلى تجربة قابلة للنقل والفهم، وهي تتضمن قدرا من الخيال والتأويل.

التوثيق، من ناحية أخرى، يسعى للحفاظ على الأحداث كما وقعت، مع أقل قدر من التدخل. الموثق يحاول أن يكون شاهدا أمينا، بينما "الحكواتي" يسعى لأن يكون مفسرا ومُعيدا تشكيل التجربة.

لكن الحدود تتداخل بشكل معقد على المنصات الاجتماعية. كل منشور يحمل طابع التوثيق (هذا ما حدث لي)، والحكاية (هكذا أريدكم أن تروا ما حدث). الفلاتر والزوايا والاقتصاص كلها أدوات حكاية، حتى لو ادعى صاحبها أنه يوثق.

الفرق الحقيقي يكمن في الوعي والنية، فـ"الحكواتي" يعترف بتدخله ويستخدمه كأداة فنية، بينما الموثق يسعى لإخفاء هذا التدخل. لكن في عالم وسائل التواصل، الحدود أصبحت أكثر ضبابية، وربما هذا جزء من سحر وخطورة هذه المنصات.

(6)هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن "يشعر" بالنهاية؟

الذكاء الاصطناعي يُحاكي النهايات بناء على أنماط تعلمها من آلاف النصوص، لكنه لا يملك "المشاعر" التي تحرك الإنسان. النهاية في الحكاية الإنسانية تحمل معنى الموت والولادة والتطهير، وهي تأتي من فهم عميق لدورة الحياة والمعنى.

الذكاء الاصطناعي يُنتج نهايات "تقنية" تُرضي المنطق السردي، لكنها تفتقر للرعشة الإنسانية. يمكنه أن يحدد أن القصة تحتاج لنهاية مفتوحة أو مغلقة، حادة أو ناعمة، لكنه لا يشعر بالحاجة الروحية للوصول لتلك النهاية.

هذا لا يعني أن نهايات الذكاء الاصطناعي سيئة، بل إنها تأتي من مكان مختلف. إنها نهايات حسابية، مبنية على احتمالات وأنماط، بينما النهايات الإنسانية تأتي من مكان أعمق، من الخوف والأمل والحاجة للمعنى.

المثير أن الذكاء الاصطناعي قد يساعد البشر في اكتشاف نهايات لم يفكروا بها، لكنه لن يستطيع أن يحل محل الحدس الإنساني في معرفة متى تكون النهاية "صحيحة" على المستوى الروحي والعاطفي.

(7)كيف يرى الراوي الكلاسيكي نفسه في عالم الذكاء الاصطناعي؟

ذاك الراوي يواجه أزمة هوية حقيقية وتحديا وجوديا. هو يملك عمق التجربة الإنسانية، والحدس المُكتسب من سنوات العيش والملاحظة، والقدرة على التقاط الفروقات الدقيقة في المشاعر والمواقف. لكنه يفتقر لسرعة الإنتاج والقدرة على التكيف مع الأشكال الجديدة.

إعلان

قد يرى نفسه كحارس للذاكرة في مواجهة آلة النسيان، أو كحرفي ماهر في عالم الإنتاج المُصنّع. هناك شعور بالفخر والقلق في آن واحد، فخر بامتلاك شيء لا يمكن تكراره آليا، وقلق من أن هذا الشيء قد يفقد قيمته في السوق.

بعض الرواة الكلاسيكيين يتبنون موقفا دفاعيا، مؤكدين على تفوق الإبداع الإنساني، بينما آخرون يسعون للتعاون مع الذكاء الاصطناعي كأداة تساعدهم. هناك أيضا من يرى في هذا التحدي فرصة لإعادة تعريف دور الراوي، من مُنتج للمحتوى إلى مُرشد ومُفسر ومُعطي معنى.

التحدي الأكبر أن الراوي الكلاسيكي يجب أن يُبرر وجوده بطرق جديدة، أن يُظهر قيمة مضافة لا يمكن للآلة توفيرها. هذا يدفعه للتعمق أكثر في الجوانب الإنسانية للحكاية، وربما يجعله راويا أفضل.

(8)ما الذي بدأ في الاندثار في زمن التوليد؟

على مستوى القصص الإخبارية التلفزيونية القصيرة التي كنت أقدمها، كنت أعيش مع كل واحدة تجربة إنسانية لذيذة، أفكر كيف يمكن أن أحكي الحكاية، ومن أين أبدأ، وأين أنتهي، إلى آخر شروط الحكاية، لذلك فإن المدهش الآن هو أن ما يندثر ليس الإبداع نفسه، بل الطقوس والظروف التي تُولد الإبداع. نحن نفقد الصمت الذي يسبق الكلام، والفراغ الذي يُولد الحكاية، والألم الذي يُعطي للسرد معناه وضرورته.

البطء يندثر، ذلك البطء الضروري للتأمل والهضم والتخمير. الحاجة للحكي تتراجع لأن الحكاية صارت متاحة بلا جهد، وبذلك نفقد قدسية الحكاية ووظيفتها العلاجية والتطهيرية.

الخطأ والمحاولة يندثران أيضا، فالذكاء الاصطناعي يُنتج نصوصا "صحيحة" من المحاولة الأولى، بينما الإبداع الإنساني يحتاج للتجريب والفشل والتعلم. هذا يعني أننا نفقد المسار، والمسار جزء من القيمة.

الصدفة والمفاجأة تتراجعان أيضا، فالخوارزميات تعتمد على الأنماط والتوقعات، بينما الإبداع الحقيقي يأتي من اللامتوقع. نحن نفقد "الحوادث السعيدة" في الكتابة، تلك اللحظات التي تأتي فيها الفكرة من مكان لم نتوقعه.

نحن نفقد الحاجة للمعنى، فالإنتاج الغزير للمحتوى يخلق وهما بأن كل شيء قد قيل، وأن لا حاجة للبحث عن معانٍ جديدة. الكثرة تقتل الندرة، والندرة جزء من قيمة الحكاية.

(9)

في النهاية، فإن الحكاية لا تموت، لكنها تتبدل وجوهها، قد تكتبها الخوارزميات، وتختصرها المنصات، وتجمّلها الفلاتر، لكنها تظل بحاجة إلى إنسان يسأل: لماذا نحكي أصلا؟

فربما لا تُنقذ الحكاية العالم، لكنها- كما قال والتر بنيامين- تجعل العالم قابلا لأن يُروى، وهذه وحدها بداية النجاة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات الذکاء الاصطناعی یعنی أن فی عالم التی ت الذی ی

إقرأ أيضاً:

84 درساً تفاعلياً لتعليم الطلبة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي

دينا جوني (دبي) 

أخبار ذات صلة «دبي للثقافة» تفتح باب التسجيل للمشاركة بـ«منتدى القوز للريادة الإبداعية» «الحكومة الذاتية».. إنجاز محوري بمسيرة أبوظبي في الذكاء الاصطناعي

أكدت فاطمة الحمادي، رئيس تبنّي التكنولوجيا والإنتاجية الرقمية في وزارة التربية والتعليم، على هامش معرض «جيتكس جلوبال 2025»، أن منصة تمكين أخلاقيات الذكاء الاصطناعي تمثّل خطوة تكاملية مع مسار الوزارة في دمج الذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية، مشيرة إلى أنها أُطلقت لضمان أن يكون استخدام الطلبة لأدوات الذكاء الاصطناعي مبنياً على الوعي والمسؤولية لا على العشوائية أو الاعتماد المفرط على التقنية.
وأوضحت أن المنصة تهدف إلى غرس ثقافة الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي في البيئات التعليمية، بما يمكّن الطلبة من التعامل السليم مع التطبيقات الذكية، خصوصاً في أداء الواجبات المدرسية، والمراجعات، وإعداد المشاريع، والتعامل مع الامتحانات. وأضافت أن المنصة لا تُغني عن المنهج المطبّق في المدارس، وإنما تعمل كمظلّة داعمة لتطبيقه من خلال تزويد الطلبة والمعلمين بإرشادات عملية وتفاعلية حول آليات الاستخدام الرشيد.
وبيّنت الحمادي أن المنصة تعتمد على مبادئ أساسية تشمل الصدق الأكاديمي، واحترام الملكية الفكرية، والوعي بمصادر المعلومات، والتمييز بين المساعدة التقنية والإبداع الذاتي، كما تشجع الطلبة على إدراك الحدود بين ما تقدمه أدوات الذكاء الاصطناعي من دعم وبين الجهد الشخصي الذي يعكس الفهم الحقيقي للمعارف.
وأكدت أن المبادرة تأتي تجسيداً لرؤية الوزارة في إعداد جيل رقمي واعٍ يمتلك مهارات القرن الحادي والعشرين، ويستطيع توظيف التقنيات الحديثة ضمن قيم أخلاقية وإنسانية راسخة، مشيرة إلى أن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المنظومة التعليمية المستقبلية في دولة الإمارات، بالتوازي مع تطبيق منهج الذكاء الاصطناعي عبر جميع المراحل الدراسية.
بدورهما، أوضحت الطالبتان حور صلاح الريّس والهنوف محمد بن ماضي أن منصة «تمكين أخلاقيات الذكاء الاصطناعي» تضم نحو 84 درساً موزعة على 15 وحدة دراسية تقريباً، مشيرتين إلى أن جميع الدروس تفاعلية، وتتيح للطلبة متابعة مستوى تقدمهم بشكل دقيق.
وبيّنتا أن المنصة توفّر أدوات لقياس نسبة إنجاز الطالب في كل تطبيق، والدرجات المحققة، إلى جانب عرض أفضل النتائج العامة، كما تعتمد على الكاميرا الذكية في الجهاز لقياس درجة انتباه الطالب أثناء الدرس.
وأضافتا أن المنصة تتيح أيضاً مؤشرات شاملة للأداء العام تشمل نسبة استكمال الوحدات الدراسية، ومتوسط الأداء الكلي، ومعدل الانتباه العام عبر الدروس كافة. كما يتضمن كل درس اختباراً قصيراً ختامياً يساعد الطالب على التأكد من استيعابه للمفاهيم المطروحة قبل الانتقال إلى المرحلة التالية.
وفي حال عدم تمكن الطالب من الفهم الكامل لمحتوى الدرس، تقوم المنصة بإعادة تقديم المادة التعليمية بأسلوب مختلف تلقائياً حتى يتمكن من استيعابها بشكل تام، ما يعزز مبدأ التعلّم التكيّفي الذكي الذي يستجيب لاحتياجات كل متعلم على حدة.
وتأتي مشاركة «التربية» فرصة لإبراز ريادة دولة الإمارات في بناء منظومة تعليمية رقمية متكاملة تُواكب متطلبات المستقبل، وتعكس ثقة الدولة بقدرات أبنائها على الابتكار والتطوير.

مقالات مشابهة

  • 84 درساً تفاعلياً لتعليم الطلبة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي
  • مستقبل مراكز مصادر التعلّم في ظل الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي.. من الإبداع إلى الخداع
  • أكثر من 65 ألف متدرب ضمن "مبادرة سمّاي" لتعليم الذكاء الاصطناعي بعسير
  • الذكاء الاصطناعي يحل لغزًا فيزيائيًا استعصى على العلماء لأكثر من قرن
  • «هاكاثون» لتطوير الذكاء الاصطناعي في طب العيون
  • هل يُعيد الذكاء الاصطناعي صياغة بيئة التعلم؟
  • 7 فرص لغرف الأخبار في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي.. ما الذي يريده الجمهور؟
  • الذكاء الاصطناعي سرّع تفشّيها.. كيف تميّز بين الحقائق والمعلومات المضللة؟