لاءم السؤال المعلّق وجوديا الأرجوحة المعلقة في عمق المسرح، تحيطها حركات تعبيرية معبرة عن حيرة الإنسان إزاء أمل الخلاص الممكن.

يتجاوز السؤال ما كان، إلى ما سوف يكون؛ فهل الأرض ملائمة للزرع؟ وهل سينمو الزرع بأريحية ليملأ الكون اخضرارا وثمرا؟ وهل في ظل هذا الموت الأسود يمكن اختيار الميلاد؟ فيكون جواب أمل الإرادة بإرادة الأمل.

قام عرض «نبض قبل الولادة» على هذا السؤال الفلسفي المتشعب، بالانطلاق من الحرص على الحياة، حيث سيصعب الاختيار شعورا وفكرا، وسيكون الفعل العاطفي مغامرة.

في ظل الحرب المستعرة التي تسلب الناس أرواحهم وحياتهم ودماءهم، وأطرافهم وأعضاءهم، يكون قرار الإنجاب معرضا لشتى أنواع الحيرة، مغلفا بالخوف والتوتر. وسيكون الإنسان في حالة تنازع وصراع، وهو ما انعكس في مونولوج الأم الحامل، وحركاتها المترددة، فهي في الوقت الذي تنتظر وليدها بفارغ الصبر، فإنها تودّ تأجيل القدوم إلى حين توفر وقت مسالم لوجود الطفل، وستصبح حركات الجنين في الأرجوحة حركات تعبيرية في حيرة، لكنها لا تطول كثيرا، حيث تأخذ الحياة مجراها، فتكون ولادة وتكون حياة جديدة.

وقعت المرأة الحامل التي وجدت نفسها في أتون حرب مستعرة لا تكاد تنتهي تحت تأثير مشاعر الخوف الشديد، غير قادرة على التحكم بما يدور حولها، وكل ما تريده هو زمان ومكان آمنين تضع فيهما حملها؛ لذلك راحت في شجن يشوبه التوتر تناجي الكون، لجنينها، طلبا للخلاص، منطلقة في هذا الوقت الدمويّ إلى سؤال الحياة والاختيارات التي تسطو عليها أفعال الطغاة، فتراها، في رجاء غريب، تؤثر أن يطول حملها لريثما تقف الحرب المجنونة.

مونولوج طويل موجع للأم، مقرون بتعبير حركي أدته الفنانة الشابة شانتال رزق الله، في حين ينسجم الجنين المعلق على الخشبة، الذي أدى دوره الفنان الشاب نور سمارو بحركة فنية مع حركتها، أنبأتنا كمشاهدين أن هناك تصميما ذكيا راعى الحوار ما بين الجنين وأمه، بما يعبر عن مضمون مونولوج الأم. زاد من الحضور شخصية توحي بالأب المعلق أيضا الذي يفرّغ ما به من خلال حركة العضلات، فهو قادر بنفسه، لكن التحدي ليس سهلا.

وهنا نجد أنفسنا، في ظل تأمل الرؤية الإخراجية إلى تحليل شكليّ التعبير اللغوي سردا، والأداء الحركي، في محاولة لقياس نسبة التعبير المتزامن معا؛ وانطلاقا من مقتضيات التوازن بما يحتاج العرض من جهة، وما يكفي لوصول المعنى للمتلقي الفاعل.

بداية، ومن خلال تأمل فترة الأداء الحركي لكلا الممثلة والممثل معا، فإننا لمسنا في مثل هذا العرض «نابض» نفسيا وفكريا ووجوديا وحركيا، إنه أوصلنا فعلا إلى حالة الأمّ متشظية المشاعر، خاصة في التعبير عن العلاقة الحالية لهما معا من خلال روحين في جسد واحد، أو في تمني وجود أرض وزمن آمنين لتضع حملها، وبما ترجو من استدامة الأمان ليستأنفا الحياة هنا. كذلك إبداع حركة الجنين خاصة في الشكل المعلق فوق الخشبة.

لذلك وقد وصل المعنى بما هو أعمق من الكلمات، فإن هناك ضرورة لتأمل نص المونولوج، فهو قد كان مضمونا للحركة الإبداعية، وقد كفى ذلك فعلا، كون التعبير الشعوري للحركة يصل للمشاهد بعمق أكثر من الكلمات.

في هذا السياق، فإن تأمل الفكرة الإنسانية هنا وجوديا، فإن هوية الرؤية الإخراجية قد لفتت نظرنا ليس إلى الإبداع المسرحي بحدّ ذاته، بل إلى فهم عميق للمخرجة الشابة لاختيار هذا الشكل الذي يمنح كل من الأم والجنين، والمشاهدين فرصة الاستغراق بالفكرة والشعور إلى مدى كبير، دون تقييده بكلمات.

ظهر هنا ما يمكن أن نراه توازنا في الكتل على خشبة المسرح، من خلال خطوات الأمر على الأرض، ومن خلال خطوات الجنين المعلق داخل الوعاء الذي يحاكي وضع الجنين في بطن أمه، ما منح حيوية بصرية جعلتنا نتنقل ما بينهما، وتأملين بذلك الانسجام التعبيري، حيث لفت نظري عدة حركات منها حركة كف الجنين وأمه، بما يعني الانتباه إلى رمزية الكفّ كواقع وكرمز، يصافح الحياة والبشر.

ولكن في الوقت الذي نقدر هذا الأداء الحركي الموحي والمؤثر، فإننا نجد أنه لربما طال قليلا ولم يسلم من التكرار، فالزيادة أحيانا حين لا تضيف إلى إيصال المعنى، تفتح المجال إلى تقليل استمرار جذب المشاهد.

خلال ذلك أبدعت المخرجة في جعل ثوب المرأة شاشة ترينا الحرب البشعة، بعد أن أرتنا في البداية فراشات الأمل، فكان ثمة تعميق لمضمون الأمل بحملها، ومضمون معاكس يتعلق بالخوف عليه. ثمة دبابات وطائرات تسطو على الفراشات، وكل ذلك يتم على ثوب الأم، هي حرب على الرداء، كأن الأم هنا هي الحياة وهي الوطن، بما قد يحتمل المعنى، في ظل متلازمة أدبية وفنية هنا تربطهما. وهنا نقدرّ دور مصمم الإضاءة، فراس أبو صباح، الذي ساعد في إخراج العرض، وهو أيضا مخرج معروف له بصماته في الإضاءة حين يكون حاضرا كمصمم إضاءة لعروض ليست من إخراجه.

في ظل التكثيف الشعوري الموجع، في هكذا عروض، فمن المهم دوما نثر ما يمكن أن يخفف عن المشاهدين. قد يبدو ذلك صعبا، لكنه ممكن، من خلال نثر مواقف متنوعة في إثارة المشاعر، لتكتمل المشاهدة الممتعة.

سؤال صعب، ونحن ننتظر المولود للخروج، في مكان تستلب فيه الحياة، وهو سؤال اشتبكت به المخرجة الشابة، صاحبة الفكرة، على مستوى التفكير الإنساني والفني، عبر اختيار شكل فني يجمع التمثيل بالأداء الحركي، من خلال تعامل بصري حيوي مع مستويات فضاء المسرح، حيث تتعانق هنا خطوات الأم على أرض المسرح، مع خطوات جنينها هناك داخلها، تلك الخطوات الراجية بأرض سالمة، لعلها تجلّيا عميقا لما يفكر به الفلسطينيون باتجاه المستقبل، من خلال الشعور المتفاعل الذي يختبر الحياة في ظل خطر الإبادة.

في هذه المأساة الشخصية والعامة، وفي حالة الترك (الإهمال) الذي وجدت الأمّ فيها، وتحت سطوة الموت والتهديد به، وبالرغم من حيرتها الإنسانية، فإنها تنحاز للحياة.

لم يكن السؤال هنا خاصا ببلاد معينة، بل هي حالة إنسانية تتكرر في أماكن وأزمنة، كما هي الآن في فلسطين، في غزة التي تعرضت لأقسى أنواع وحشية السلاح الفتاك المعاصر.

لذلك، فإن العرض الفلسطيني اليوم، يصلح ليكون معبرا عن مأساة الإنسان في الحروب، وهو وإن، دلت على الحرب على غزة من خلال صور الحرب على شاشة ثوب الأم، إلا أنها، يمكن أن تكون معبرة عن جروح البشرية التي لم تندمل بعد.

على مدار 50 دقيقة، سرّعت مسرحية «نبض قبل الولادة» للمخرجة الطموحة رنين عودة، نبضنا داخل المسرح، ولم تكتف بذلك، بل خرجنا ونحن نحمل السؤال الوجودي عن جدوى المستقبل من جانب، ومن جانب آخر وجدنا أنفسنا وشعبنا قد حسم أمره باتجاه إرادة الحياة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

مكتب فن ادارة الحياة يستعد لتجهز مقرات جديدة بجميع محافظات الجمهورية

عقد الدكتور أشرف صبحي اجتماع تنسيقي مع مسؤلي  مكتب فن  ادارة الحياة التابع لوزارة الشباب والرياضة  وذلك للاطلاع علي كافة التفاصيل الخاصة بأنشطة المكتب خلال الفترات الماضية والتي اشتملت علي الانتهاء من تدريب عدد " ٥٥٤٩ " متدرب تم تأهيلهم من خلال مكتب فن  ادارة الحياة خلال الثلاث شهور الماضية .

واطلع وزير الشباب والرياضة علي  كافة الخطوات والتفاصيل الخاصة بشروع  مكتب فن الحياة  في تنفيذ برنامج مدربين مهارات الحياة "life coach” .

وأوضح الدكتور أشرف صبحي وزير الشباب والرياضة ان 
هدفنا  الأكبر هو مساعدة الكثير من ابنائنا من الشباب المصري وبمختلف الأعمار السنية  في تعريفهم بكيفية التغلب علي ضغوطات الحياة ومواجهة ما يتعرضون له من مشاكل علي مستوي حياتهم الشخصية ، وذلك من خلال عقد العديد من الدورات التدريبية التي يتم عقدها من خلال برنامج " اعرف نفسك " والذي لاقي رواجاً كبيراً خلال الاونه الاخيرة بين كثير من المواطنين المنضمين للبرنامج وعلي مستوي مختلف  الأعمار السنية .

كما أوضح الدكتور اشرف صبحي وزير الشباب والرياضة ان الوزارة لتحقيق المزيد من الاستفادة لأكبر قدر من المواطنين فقد بدأنا في تجهيز مقرات جديدة للمكتب بمختلف محافظات الجمهورية لنشر  الفكرة وتحقيق الاستفادة للعديد من المواطنين من خلال البرامج  المكثفة التي يقدمها مكتب فن ادارة الحياة .

 

إقرأ المزيد..

رسالة الشباب العربي من مصر.. مؤتمر شرم الشيخ علامة فارقة بمسار استقرار الشرق الأوسط وزارة الرياضة تُطلق حملة توعية إعلامية حول التغذية الرياضية السليمة لمناقشة أدراج اللعبة ضمن دورة الألعاب الإفريقية 2027..وزير الرياضة يلتقي رئيس اتحاد القوة وزير الرياضة يلتقي بطلة مصر والعالم فى الخماسي الحديث "الشباب والرياضة"ومكتب الأمم المتحدة يطلقان جولات التوعية بالعنف الرقمي تجاه الفتيات بالمحافظات وزير الرياضة والأمين العام المساعد للأمم المتحدة لشئون الشباب يلتقيان ممثلي الوزارات جلسة حوارية بجامعة الدول العربية حول "الأمن القومي وتأثير الإعلام على صناعة الرأي العام العربي" زيارة مجلس النواب المصري ضمن فعاليات نموذج محاكاة برلمان الشباب العربي صبحي يلتقي الأمين العام المساعد للأمم المتحدة لشئون الشباب لبحث سبل تعزيز التعاون الشباب والرياضة تكثف حملتها الرقابية للتأكد من كفاءة وفاعلية مراكز الشباب في الإسكندرية

مقالات مشابهة

  • ماذا نعرف عن محمد عبدالكريم الغماري الذي اغتالته إسرائيل؟
  • مكتب فن ادارة الحياة يستعد لتجهز مقرات جديدة بجميع محافظات الجمهورية
  • المؤتمر الدولي لقلب الأطفال: يمكن اكتشاف العيوب الخلقية في قلب الجنين قبل ولادته
  • وزيرة التضامن: المساعدات الإنسانية وقت الحروب ضرورة.. ومصر تساند غزة لضمان الحق في الحياة
  • بنك الخرطوم يعيد تشغيل فرع الكلاكلة: إيذانًا بعودة الحياة الاقتصادية
  • أردوغان: نواصل دعم غزة ومحاسبة مرتكبي الإبادة وإعادة الإعمار أولوية
  • باحثون يكشفون كيف تؤثر الرضاعة الطبيعية على صحة الأطفال مدى الحياة
  • كيف تؤثر الرضاعة الطبيعية على صحة الأطفال مدى الحياة؟!
  • علماء يحذرون: عمر الأب يحدد صحة الجنين