في قسم الطوارئ بمجمع الشفاء الطبي، يجلس الجريح أحمد ناصر، شاب في الثلاثين من عمره، يحدّق في جرحٍ لم يلتئم بعد، كما لو أن الحرب لا تزال تدور داخله. أصيب أحمد بشظية في ساقه خلال القصف الإسرائيلي على حي الشجاعية في مارس الماضي، ومنذ ذلك الحين، يعيش رحلة علاجٍ طويلة لا تعرف النهاية. يتنفس بصعوبة وهو يقول: «ظننت أن وقف إطلاق النار سيكون بداية الشفاء، لكنني اليوم أكتشف أن الحرب لم تتوقف بعد داخل المستشفيات».

ألم يتجدد

كل صباح، يشدّ أحمد نفسه بعصاه الخشبية ليصل إلى قسم الجراحة في مجمع الشفاء، غير أنه كثيرًا ما يعود خائبًا. «أذهب لتغيير الضماد فلا أجد ما يغطّي جراحي. يعتذر الأطباء، وتدمع عيون الممرضات. الكل يحاول، لكنهم بلا أدوات» يقول بصوتٍ متقطع بينما تتسلل رائحة المعقمات إلى المكان الخالي من أبسط المستلزمات.

في غرفة تفتقد الكهرباء أحيانًا، ينام أحمد إلى جوار جرحى آخرين؛ كلٌّ منهم يحمل قصته الخاصة مع الألم. بعضهم بترت أطرافه، وبعضهم ما زال ينتظر موعد عمليةٍ مؤجلة بسبب نقص الطواقم والأجهزة. يتناوب الممرضون على تفقدهم بإمكانات محدودة، بينما يكتفي أحمد بالانتظار الطويل، إذ يُقال له في كل مرة: «حين تصل الإمدادات سنبدأ العلاج المناسب».

لم يكن يتصور أن ينتهي به المطاف هكذا بعد أن نجا من الموت. يضحك بمرارة ويقول لـ«عُمان»: «أنقذتني عناية الله من الصاروخ، لكن الإهمال القسري الناتج عن الدمار ربما يقتلني ببطء». ينظر إلى قدمه التي غطاها الشاش المتسخ، ويهمس: «الجرح لا يلتئم، والوجع لا يزول، والبلد كلها تنزف».

جرح صعب الشفاء

مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ أواخر سبتمبر الماضي، تنفّس الغزيون الصعداء للمرة الأولى منذ عامين من العدوان المتواصل. لكنّ الهدوء الذي خيّم على سماء القطاع لم يمتدّ إلى داخله؛ فالمستشفيات المدمّرة والمراكز الصحية المنهكة ما زالت تئنّ من آثار القصف والتجريف.

فتح المعابر جزئيًا بعد التهدئة منح الأمل بدخول المساعدات والمستلزمات الطبية، لكنّ الواقع على الأرض ظلّ صعبًا. فالإمدادات التي سمح الاحتلال بدخولها لا تغطي سوى جزءٍ بسيط من الاحتياجات المتراكمة، بينما آلاف الجرحى والمصابين ينتظرون فرصتهم في العلاج.

قطاع الصحة في غزة، الذي كان هشًّا قبل الحرب، تلقى ضربة قاسية خلال العدوان الأخير. أكثر من نصف المستشفيات خرجت عن الخدمة، والعشرات من الكوادر الطبية فقدوا حياتهم أو غادروا القطاع. هذا الخراب لم يُصلح بعد، رغم إعلان وقف إطلاق النار. فالمرافق الصحية ما زالت تعمل جزئيًا، وتفتقر لأبسط مقومات العمل الآمن من أجهزة وأدوية ومحروقات.

وبينما تحاول وزارة الصحة في غزة استئناف عملها تدريجيًا، تواجه تحديًا هائلًا يتمثل في إعادة تأهيل المرافق الصحية المتضررة، وعلى رأسها مجمع الشفاء الطبي، الذي كان القلب النابض للنظام الصحي في القطاع، وأصبح اليوم جرحًا مفتوحًا في ذاكرة المدينة وأهلها.

قلب غزة المكسور

كان مجمع الشفاء الطبي، في مدينة غزة، قبل الحرب، أضخم وأهم المؤسسات الصحية في قطاع غزة. لكنه اليوم لا يشبه تاريخه. جدرانه المهدّمة وأجنحته المعطلة تحكي قصة دمارٍ متعمّدٍ استهدف البنية الصحية بأكملها.

يقول الدكتور محمد أبو سلمية، مدير مجمع الشفاء الطبي: «القطاع الصحي كان أحد القطاعات المستهدفة مباشرة، وقد دُمّر جزء كبير من المرافق الصحية والمستشفيات وعيادات الرعاية. هذا أثّر سلبًا على الأداء في كل الفترات اللاحقة».

ويضيف: «تعرضنا لاجتياحين داخل مجمع الشفاء؛ الأول في نوفمبر 2023، حيث أُخرجنا بالقوة إلى الجنوب، والثاني في مارس 2024، حين تم تدمير المجمع بالكامل».

بعد أشهر من الصمت والركام، عاد الفريق الطبي في أكتوبر 2024 ليبدأ الترميم من الصفر: قسم استقبال صغير يضم 26 سريرًا وغرفتي عمليات فقط، في مكانٍ كان يحتضن آلاف المرضى يوميًا.

اليوم، وبعد عام من تلك العودة، يعمل المستشفى بطاقةٍ محدودةٍ لا تتجاوز 300 سرير. «ما زلنا نفتقر إلى الأجهزة والمستلزمات وحتى الطواقم»، يقول أبو سلمية، موضحًا أن المبنيين الأساسيين للجراحة دُمّرا بالكامل، وأن المرضى يُوزّعون على مرافق مؤقتة داخل المجمع.

ويدلل أبو سلمية على حجم الكارثة التي ضربت مجمع الشفاء بالأرقام: «من 25 غرفة عمليات قبل الحرب إلى 4 فقط الآن، ومن 40 سرير عناية مركزة إلى 13، ومن 60 ماكينة غسيل كلوي إلى 30. أما قسم الحضانة والعناية بالأطفال، فقد توقف تمامًا، ولم يتبقّ سوى 15 حضانة في مستشفى الولادة التابع للشفاء».

«نحن في مرحلة تعافٍ أولي لكنّها مرحلة معقدة»، يقول مدير المستشفى، مناشدًا «المؤسسات الإنسانية الدولية الضغط على إسرائيل لفتح المعابر بالكامل لإدخال الأجهزة الطبية والكوادر». يشير إلى أن 30% من الكادر الطبي بين شهيدٍ وأسيرٍ وجريحٍ ومغترب، فيما الباقون يعملون ليلًا ونهارًا لتغطية العجز الكبير.

صمود وسط العجز

في قسم الطوارئ الذي لا يهدأ، تعمل الحكيمة مرح، وهي من الممرضات المخضرمات في مجمع الشفاء. تتنقل بين الأسرّة بابتسامةٍ تُخفي وراءها تعبًا طويلًا. تقول وهي ترتّب الأدوات المتبقية: «نحاول تجهيز الأقسام رغم النقص الكبير في المعدات. أقسامٌ كثيرة كانت معدومة تمامًا بعد الاجتياحات، ونحن اليوم نعيد بناءها بأيدينا».

تصف مرح كيف تحوّل القسم إلى خلية عملٍ لا تتوقف، فبعد الحرب توافدت الحالات المتأخرة التي لم تتلقّ العلاج في وقتها. تضيف خلال حديثها لـ«عُمان»: «نستقبل حالاتٍ خطيرة، بعضها لم يبدّل الضماد منذ أسابيع، نحاول أن نقدم الحد الأدنى مما نستطيع».

رغم وعود المؤسسات الدولية بإرسال أدواتٍ ومعدات، تقول مرح إن شيئًا لم يصل حتى الآن. «نسمع كثيرًا عن الدعم، لكن الواقع مختلف. نحاول أن نصمد بالإمكانات القليلة المتاحة لحين وصول أي مساعدة».

وتشير إلى أن العاملين يعيشون ضغطًا نفسيًا هائلًا: «لم نتوقف عن العمل منذ شهور، كثير من زملائنا فقدوا أقاربهم في الحرب، ومع ذلك يواصلون خدمتهم للمرضى. المستشفى بيتنا وواجبنا». تبتسم رغم الإرهاق وتقول: «قد لا نملك الأدوات، لكننا نملك الإصرار على أن نُبقي هذا المكان حيًا».

«قدمي تتعفن»

من بين المرضى الذين تتردد الحكيمة مرح على رعايتهم، الشاب إسماعيل أبو خليل، جريح الحرب الذي فقد جزءًا من قدمه خلال القصف على مخيم الشاطئ. يروي بصوتٍ مبحوح: «نحن بحاجة إلى الأدوية والمستهلكات الطبية. عندما أتي إلى المستشفى لا أجد ضمادات للجروح أو مراهم مطهّرة. جرح قديم مثل جرحي يحتاج إلى متابعة دقيقة، لكنه اليوم يتعفن بسبب قلة الأدوات».

يتحدث إسماعيل عن معاناته اليومية في التنقل: «أقطع مسافة طويلة على عكازي لأصل إلى المستشفى، لكنهم أحيانًا يطلبون مني العودة في اليوم التالي لعدم وجود المستلزمات».

ويشير خليل لـ«عُمان» إلى أن فترة علاجه تضاعفت بسبب نقص الأدوية. «كان من المفترض أن أتعافى خلال شهرين، لكن الأطباء يقولون إن الأمر قد يستغرق أربعة أشهر على الأقل».

ورغم المعاناة، يثني إسماعيل على الطواقم الطبية التي تواصل العمل رغم الإنهاك. «الطبيب والممرضة هنا يعملون بروح الشهداء، لكن ماذا يمكنهم أن يفعلوا دون أدوات أو دواء؟ نحن جميعًا ضحايا حربٍ لم تتوقف».

مرحلة التعافي.. طريق طويل

يتحدث الدكتور محمد أبو سلمية في ختام حديثه عن التحديات المقبلة قائلًا: «نحن الآن في مرحلة التعافي الأولى. قد يبدو وقف إطلاق النار إنجازًا، لكنه لا يعني انتهاء المعاناة». يوضح أن المستشفى بحاجةٍ عاجلةٍ إلى ترميم شامل، وإعادة تأهيل الأجهزة والأقسام، وإدخال الأدوية والمستهلكات التي يحتجزها الاحتلال على المعابر.

ويتابع: «نحن نستغل بعض المرافق غير المخصصة للمرضى كمبيتٍ مؤقتٍ بسبب دمار مباني الجراحة. الوضع مأساوي، لكننا نعمل بأقصى طاقتنا».

ويضيف أن معاناة الجرحى تفاقمت بسبب طول الانتظار ونقص الرعاية: «لدينا نحو 120 ألف مصابٍ بحاجةٍ إلى متابعة طويلة الأمد. هؤلاء لا يمكن علاجهم دون أجهزةٍ حديثةٍ وفرقٍ طبيةٍ متخصصة».

وفي نبرةٍ ملؤها الرجاء، يختم بالقول: «نحن نناشد العالم ألا يعتبر أن وقف النار نهاية الأزمة. فالإعمار الحقيقي يبدأ بإعادة الحياة للمستشفيات. إن لم يُفتح المجال أمام الدعم الطبي والكوادر، فإن جرح غزة سيبقى نازفًا، حتى في السلم».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: مجمع الشفاء الطبی وقف إطلاق النار أبو سلمیة

إقرأ أيضاً:

مشعل: استكمال المرحلة الأولى من اتفاق وقف النار بغزة ضرورة قبل الانتقال إلى الثانية

الدوحة - صفا

أكد رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الخارج، خالد مشعل، أن القضية الفلسطينية استعادت حضورًا غير مسبوق على الساحة الدولية والإقليمية، بعد سنوات من التراجع، مشيرًا إلى أن “روح القضية عادت وفرضت نفسها على الجميع”.

وقال مشعل، في برنامج "موازين" على قناة الجزيرة مساء الأربعاء، إن القضية الفلسطينية اكتسبت حضورًا واسعًا في أوساط الشباب الأميركي والأوروبي، موضحًا أن “51% من الشباب الأميركيين باتوا يؤيدون القضية الفلسطينية والمقاومة”، واعتبر ذلك تحولًا مهمًا في الرأي العام العالمي.

وأشار إلى أن "الطوفان" أعاد الروح للأمة وللمنطقة بعد فترة مظلمة من مسار التطبيع ومحاولات التعاون مع "إسرائيل"، مؤكدًا أن الحاضنة الشعبية في غزة قدمت بطولة وصمودًا وإبداعًا على مدار عامين، رغم الثمن الإنساني الكبير الذي تجاوز 70 ألف شهيد و200 ألف جريح.

وأوضح مشعل أن التطبيع بات أبعد مما كان قبل السابع من أكتوبر، مشيرًا إلى أن الإدارة الأميركية تحاول عبر مبادراتها تقديم صورة محدودة من الاستقرار في غزة لإنقاذ إسرائيل من نفسها ومن تدهور صورتها الدولية، في ظل ضغوط شعبية داخل الولايات المتحدة وأوروبا لوقف الحرب.

وأضاف أن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وطغمته الإرهابية، لا يزالون يتبجحون باستمرار الحرب بدافع الانتقام، رغم فشل نتنياهو في استعادة صورته بعد هجوم 7 أكتوبر.

وقال مشعل إن الحرب آن لها أن تقف، مشيدًا بمواقف الدول العربية والإسلامية الرافضة لاستمرارها، خصوصًا خلال لقاء قادة ثماني دول عربية وإسلامية بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في نيويورك.

وشدد على أن المرحلة الأولى من خطة ترامب لم تُستكمل بسبب العراقيل الإسرائيلية، ما خلق معاناة إنسانية كبيرة في غزة، خاصة مع تضرر الخيام، ونقص الإيواء، وتأخر الإعمار.

وأشار إلى أن ما يدخل من الشاحنات لا يلبي احتياجات الناس، رغم زيادة عددها إلى نحو 500 يوميًا، مشيرًا إلى أن ثلثها فقط مساعدات والباقي تجارة لا يقدر السكان على تحمل كلفتها.

وشدد مشعل على أن الاحتلال يرتكب انتهاكات واسعة، منها تمديد الخط الأصفر ليشمل نحو 60% من مساحة القطاع، وإخفاء مصير الأسرى الفلسطينيين، في ظل وجود نحو 10 آلاف مفقود لم يجرِ التعرف على مصيرهم.

وأكد أن استكمال متطلبات المرحلة الأولى ضرورة قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية، داعيًا إلى تطبيب جراح غزة وإغاثتها، وتنشيط الدور العربي والإسلامي والدولي للضغط على الاحتلال.

وتابع "حماس والمقاومة تعاملتا بمسؤولية ومرونة لوقف الحرب منذ إطلاق خطة ترامب وترجمتها إلى قرار أممي"، مشيرًا إلى أن أهل غزة قادرون على التعافي واستعادة المبادرة بسرعة.

وأوضح مشعل أن هناك جهات تحاول فرض رؤيتها لنزع السلاح، وهو أمر مرفوض ثقافيًا ووطنياً"، مؤكدًا أن المقاومة قدّمت مقاربات عملية تضمن عدم التصعيد دون المساس بالسلاح، بما في ذلك الهدنة طويلة المدى، ونشر قوات استقرار دولية على الحدود.

وبيّن أن دولًا مثل قطر ومصر وتركيا قادرة على ضمان عدم صدور أي تصعيد من غزة، مشددًا على أن المشكلة الحقيقية “تكمن في العدوان الإسرائيلي المستمر”. وأضاف أن غزة بعد هذه المرحلة ستنشغل بالتعافي وإعادة الحياة من جديد.

وأكد مشعل أن تجارب الشعب الفلسطيني مع الاحتلال تثبت أن نزع السلاح يفتح الباب للمجازر، داعيًا الوسطاء إلى صياغة رؤية قابلة للتوافق مع الإدارة الأميركية، تكون ملزمة للاحتلال، حفاظًا على حقوق الفلسطينيين وضمانًا لعدم عودة الحرب.

مقالات مشابهة

  • تأخر الإجلاء الطبي يودي بحياة أكثر من 1000 مريض في غزة
  • عاجل | مجمع الشفاء الطبي: شهيد بنيران جيش الاحتلال الإسرائيلي خارج مناطق انتشاره بجباليا شمالي قطاع غزة
  • حلف قبائل حضرموت يتهم الانتقالي باختطاف جرحى من مستشفيات المكلا
  • علي ناصر محمد يكشف كيف أوقفت حرب 1972 بين شطري اليمن عبر التليفون
  • لرفع وعي المجتمع.. مجمع الملك عبدالله الطبي يطلق حملة ميدانية بعنوان «الطريق نحو التغطية الصحية الشاملة»
  • زيلينسكي: إجراء انتخابات في أوكرانيا يتطلب وقف إطلاق النار
  • مجمع الجلاء الطبي للقوات المسلحة يستضيف خبيرًا عالميًا في جراحات الحنجرة
  • صحة غزة: حصيلة جديدة لضحايا الهجمات العسكرية الإسرائيلية في القطاع
  • الجامعة العربية تدعو الجنائية الدولية لإدراج الإهمال الطبي بحق المعتقلين ضمن تحقيقاتها في جرائم الحرب
  • مشعل: استكمال المرحلة الأولى من اتفاق وقف النار بغزة ضرورة قبل الانتقال إلى الثانية