تخيل أنك تركب الحافلةَ واقفا، وأثناء سيرها ولسبب مفاجئ اضطر السائق إلى استعمال المكابح بصورة قوية، ما الذي سوف يحدث لك ولكل الواقفين أمثالك في هذه الحافلة؟
سوف تجد بأنك تندفع نحو الأمام في الوقت الذي توقفت فيه الحافلة وقد تصطدم بأي شيء أمامك وقد يتم قذفك من الزجاج، يُفَسَّر هذا الأمر في الفيزياء تحت قانون القصور الذاتي للجسم، وهو قانون يقول باختصار بأن أي جسم ساكن أو متحرك لا يمكنه تغيير حالته السكونية أو الحركية دون وجود قوة ترغمه على هذا التغيير، وهذا القانون المادي له نظيره في المجالات الإنسانية غير المادية، ففي مجال الحرب النفسية التي تلعب بقوة في المنطقة هذه الفترة ينتشر قانون القصور الذاتي للخوف على مساحات واسعة، ويقول هذا القانون هنا بأي جسم خائف أو مرعوب يبقى كذلك ما لم تطرأ قوة تعيد له الثقة بنفسه، والقصور الذاتي للخوف أيها السادة يعني أنك تبقى مرعوبا مما اقترفه عدوك من جرائم واعتداءات في الفترة الماضية بحيث تتحول هذه إلى هاجسٍ مَرَضي وانتظارٍ مقعدٍ لمصير استعبادي محتوم، ولهذا السبب تسود الأسئلة الخائفة فوق السحاب بمعية كل صباح في كامل المنطقة البائسة : هل سيعود العدوان على غزة ؟ هل نحن أمام خديعة من ألاعيب ترامب – نتنياهو؟ متى موعد الضربة القادمة ولمن؟
تحت ظلال هذا الخوف تُنسى الحقوق وتنكمش المطالبات المشروعة ويُلقى شعب غزة وهو يعاني الويلات بعد تكشف حجم الجرائم في غزة، و يعود إلينا الأسرى الأبطال وقد فقدوا معالمهم ولم يعودوا يتعرفون على أبنائهم، ويعود إلينا الأسرى الشهداء محروقين معذبين مهانين كرسائل مضافة للتخويف، وتنكمش حقوقنا المشروعة إلى مجرد عدد محدد من شاحنات المساعدات وفتح المعابر وفضلا أمريكيا بإيقاف المجازر ضد شعبنا الذي تحمل ما لا يمكن تخيله، لقد تحول القصور الذاتي للخوف إلى منتجات وسلع استهلاكية تسود المنطقة وتباع بالمفرق والجملة على الأنظمة الراكعة المرعوبة التي لم تعد تتجرأ حتى على ذكر أسم الجاني والمجرم، لقد تحول الخوف إلى أسئلة شبحية تظهر في الليل ومع كل إطلالة لترامب غير المتزن من باب طائرته، خوفٌ حول احتمالية عودة العدوان على غزة والتلويح بورقة الغارت والقصف والقتل من جديد، خوف من قطع المساعدات وعودة التجويع، خوف من موعد الضربة المستحقة للبنان وأخرى لإيران ولليمن، خوف من ابتلاع أراضي الضفة الغربية وأجزاء من سيناء وغور الأردن ولبنان وسوريا وربما أبعد من ذلك، خوف من مصيرنا كأفراد وجماعات بعد عمليات الاستسلام الكبرى التي قدمها القادة العرب في حملات الشرق والغرب .


في ضمير الأسبوع الماضي قدم الرئيس الملهم ترامب مسرحية مؤتمر السلام في المنطقة التي تم بموجبها إيقاف العمليات العسكرية الإجرامية في غزة بحدها الأكبر، وعشنا أسبوعا كاملا من الأمجاد والسعادة والاحتفالات الرئاسية الترامبية بتحرير عشرين أسيرا صهيونيا وتم نسيان شعبٍ كامل يتجرع الويلات كل لحظة، ومن هنا يأتي السؤال البسيط : ما هو نوع السلام الذي يأتي من الزمن الذي تتحكم فيه بمصير كل العالم طبقة من رجال الأعمال والأثرياء الذي لا يعرفون سياسة ولا أخلاقا ولا وازعا ولا حتى يمتلكون الحد الأقل من الذكاء الذي يمكنهم من الضحك علينا بشكل مقنع ؟
نحن أيها السادة تحت تأثير القصور الذاتي للخوف الذي يشل العقل عن التفكير والذي أصبح محور الأحاديث والتحليلات والتفسيرات، ومن أجل الحصول على الترياق المضاد للخوف الذي يغشى المنطقة يتوجب علينا استيعاب الحقائق الأساسية الآتية التي تمثل أعمدة الارتكاز في السياسات الأمريكية، والتي لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها :
لا يوجد شيء اسمه السلام في العقيدة الأمريكية لأنها عقيدة صهيونية الأصل، مفهوم السلام يعني بالضبط إذلال الطرف الآخر أو تسليمه وتبعيته المطلقة أو إبادته إذا تطلب الأمر، إن مفهوم السلام ذي الجوهر الحقيقي يتضمن ثلاثة عناصر : العقيدة المؤمنة بحقوق الآخر بالعيش – قوة كبيرة لحماية هذا الاعتقاد – طرف شريك لعملية السلام يحمل نفس الدوافع وذات القيم .
لا يوجد شيء اسمه الحلفاء أو الأصدقاء أو الشركاء في الضمير الأمريكي، هذه المصطلحات هي تغطيات فنية لمفهوم الأذيال أو العبيد الذين يتوجب عليهم فعل كل ما يلزم لإرضاء السيادة الأمريكية وإشباع حاجاتها ومتطلباتها مهمـا تطلب الأمر شكلا ونوعا وفعلا .
لا شيء يمكنه تغيير واقع السياسات الأمريكية في أية بقعة في هذا العالم زمانا ومكانا سوى لغة القوة فقط، والقوة هنا ليس شرطا أن تكون بنفس الحجم أو القدر ولكن يكفي أن تكون جرعة موجهة في الزمان والمكان الصحيح لتفعل فعلها، تماما كما حصل لهم في العراق وأفغانستان وعملية المارينز في بيروت وفي مقاديشو وغيرها .
حيال هذه الحقائق البسيطة، يجب أن نفهم أن سلوك الإدارة الأمريكية حيال غزة ليس مِنَّةً ولا فضلا ولا كرما من أخلاق ترامب، إنه سلوك مدفوع بفعل قوة موجهة من الداخل والخارج الصهيوني لإنقاذ ما تبقى من عمر لهذه العصابة قبل القضاء عليها من داخلها ومن أفرادها، إن مجموعة القوى الآتية والتي تستحق الشكر والثناء هي التي تقف وراء المؤتمر الترامبي وزيارته للكنيست ودفعه لإيقاف العدوان، نحن أمام مشهد ارتباكي للعدو وليس مشهد قوة أو ذكاء أو استباق سياسي :
صمود الشعب الفلسطيني في غزة، وأداء المقاومة وحسن إدارتها للمعارك وجلسات المفاوضات وملف حجز الأسرى طيلة سنتين، لم تستسلم هذه المقاومة أمام اعتى قوى الشر، لقد حققت معجزات مستعصية من احتمال الضربات وتكبيد العدو خسائر فادحة وإفشال أهدافه بشكل محرج .
يمن البطولة والكرامة، بقيادته وشعبه وعملياته في البحر الأحمر وخطة التصعيد التي انتهجها للوقوف مع غزة دون توقف أو ندم أو تباطؤ رغما عن الخسائر والشهداء والضربات التي لحقت به، إن شعب فلسطين وكل شعوب العرب الحرة مدينة لليمن بهذه الوقفات البطولية والعربية والتي تجسد حقيقة الترابط العربي الإسلامي في مكانها الصحيح، إن وقفة اليمن أحدثت تداعيات هائلة في خنق النشاط الصهيوني والأمريكي، لا يمكن أن ننسى دور لبنان وحزب الله ووقفاته التي قدم فيها خيرة قياداته وأبناء شعبه واحتمل العدوان الصهيوني .
الانتفاضات الشعبية الغربية ضد الصهيونية وتصاعد حملات العداء للإسرائيليين والداعمين لهم، تسجل إسبانيا وإيطاليا وكولومبيا وهولندا وإيرلندا صفحات إنسانية مشرقة في أكبر تظاهرات داعمة مؤيدة للقضية الفلسطينية وعدالتها، لقد وصلت التظاهرات الحد المقلق للأنظمة الغربية العميلة للصهيونية إلى الحد الذي تطلب قرع جرس الإنذار بضرورة إنهاء هذا العدوان على غزة .
اهتزاز الدولار وتهديد الاقتصاد الأمريكي بمخاطر واسعة أمام دعم الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، تصاعد الصوت الداخلي في الولايات المتحدة من استمرار المغامرات وإشعال الحروب وخضوع البلاد لقوى خارجية .
أمام هذه العوامل يتبدل جلــد العدو ليأخذ تحورا جديدا في شكله وأساليبه وحربه التي لا تتوقف على شعبنا في غزة والبلاد العربية، نحن أمام قسطٍ جديد من التربص السياسي عنوانه حرب الذرائع الكاذبة والتي تأتي عادة في فقه السياسة بعد جولات طويلة من الموت والقتل ثم الادعاء بإحلال السلام ومصافحة الأيدي، حرب الذرائع هي الشوط الذي يأتي بعد مؤتمر مزعوم لإيقاف الحرب فيما تتم بلورة خطط جديدة شعارها أننا نريد السلام والأمان ولكن الطرف الآخر لم يقم بتسليم الهياكل العظمية كاملة! وشعارها أننا نقصف المدنيين لأنهم تجاوزوا الخط الأصفر، وشعارها أن المقاومة تقوم بأعمال قتل للمدنيين المصنفين كخونة وحماس لم تسلم الأنفاق وأخفت خرائط بعضها، أو أن حماس سرقت شحنات من الطحين، أو أن بعض القطط في غزة شوهدت وهي تحمل ذخائر! لذلك لا بد من تجديد العدوان بقوالبه الجديدة الأطول عذابا والأكثر إذلالا من مثل إغلاق المعابر وتخفيض نسب ونوعية المساعدات وتحويل موضوع إعمار غزة إلى لعبة السلم والحية، أو التهديد والوعيد بالتدخل الأمريكي مباشرة واستمرار التخويف بالاغتيال والقصف بين الحين والآخر. السيناريو القادم في غزة لا يختلف عن السيناريو الجاري في لبنان حيث يجري البحث في غزة عن ميشيل ونواف جديدين للتوكل بنفس المهمة، ففي الحالتين تجري عملية التشليح من السلاح بنفس الموازاة وبيد قوى محلية أو مستوردة، لكن في حالة غزة الاستعصاء أكبر والمخاوف أكثر، وكل ذلك لإبقاء الركائز السياسية الأمريكية بنفس مناعتها وقوتها .
إن شعب فلسطين لا ينكسر مهمـا تجبر العدو واستكبر، المعركة طويلة ومتعددة الجبهات، شعب غزة قدم تضحيات تفوق الاحتمال، وقدم نموذجا لا يمكن وصفه من الإخلاص والوفاء لقضيته ودينه وبلاده، وهذه الروح هي التي سوف تكسر كل المؤامرات والخطط مهما تبدلت وتنوعت .
ينسى الصهاينة والأمريكان وأعداء هذه الآمة أن السلاح هو جزء من ثقافتها وروحها، والسلاح في نهاية المطاف يمكن انتزاعه بالقوة أو الاحتيال عليه حسرةً وأســفا، لكنهم ينسون أيضا الشيء الأهم وهو أن الإنسان الحر هو السلاح الحقيقي الذي يزهر وينتج ويصعد أينما كان وبأي زمان جاء، لا يهم أن يكون فلسطينيا أو يمنيا أو لبنانيا أو عراقيا أو سوريا أو إيرانيا أو غربيا، المهم هو ماذا يحمل في عقله وروحه ووعيه وانحيازه إلى إنسانيته والفطرة التي في داخله، إن غزة بصمودها وبطولاتها وعظمة شعبها ستكتب صفحات العرب المشرقة وتغير هذا العالم من شرقه إلى غربه، والأيام سجال .
كاتب فلسطيني

المصدر: الثورة نت

كلمات دلالية: لا یمکن فی غزة خوف من

إقرأ أيضاً:

طارق صالح يؤكد إن السلام في اليمن لن يتحقق إلا بالقوة واقتلاع الحوثيين ويحذر من استغلال ''أدوات الذكاء الإصطناعي''

قال العميد طارق صالح إن السلام في اليمن لن يتحقق إلا بالقوة، وإن الحوثيين لا يؤمنون بلغة الحوار، وإن تحقيق السلام مشروط ببناء قوة قادرة على اقتلاع الفئة الباغية الضالة والمضلة.

وأكد عضو مجلس القيادة الرئاسي، طارق صالح، أن قوات المقاومة الوطنية التي يقودها تعمل على رفع جاهزيتها عبر تطوير قدراتها العسكرية في البر والبحر بهدف استعادة الدولة، وإنهاء الانقلاب الحوثي.

وجدد عضو مجلس القيادة في كلمة توجيهية له أثناء زيارته، اليوم الخميس، إلى اللواء السابع عمالقة- أحد ألوية المقاومة الوطنية- في اختتام دورات المهام القتالية، التي شملت كل ألوية المقاومة الوطنية بمختلف تشكيلاتها (حراس الجمهورية، والألوية التهامية، والمغاوير)، حرص المقاومة على دعم مشاريع التنمية بالتوازي مع مهامها العسكرية والأمنية.

وأشار، إلى أن التطوير في القدرات البرية والبحرية أثمر عن نتائج ملموسة، لا سيما في تضييق الخناق على المليشيا بحراً، ومكافحة محاولات تهريب الأسلحة من صواريخ ومسيّرات وذخائر ومتفجرات..لافتًا إلى شحنتين ضبطتا مسبقًا واحتوتا على نحو ثلاثة ملايين صاعق، وفتائل متفجرة بأطوال مهولة كانت ستستخدم لأغراض إجرامية ضد المدنيين والمؤسسات.

ونوه طارق صالح، بالتضحيات التي يبذلها منتسبو المؤسسة العسكرية في مختلف الجبهات من حرض وميدي والحدود الشمالية، مرورًا بالجوف ومأرب وشبوة والبيضاء والضالع وإب وتعز، وصولًا إلى الساحل الغربي، قائلًا "كل هؤلاء إخواننا يقاتلون معنا جنبًا إلى جنب، قضيتنا واحدة وهدفنا واحد هو تحرير اليمن من مليشيات إيران".

وقال: ''نجدد العهد باستعادة صنعاء مع بقية إخواننا في الجبهات وتحرير كل المناطق التي يسيطر عليها الحوثي..مؤكدًا أن اليمن سيبقى "جمهوريًا" وأن راية الجمهورية ستظل خفاقة.

كما أعرب عن رفضه أي دعاوى تفرقة حزبية أو مناطقية أو محاولات زرع الفتنة بين القوى الوطنية، وحث المقاتلين على الوعي وعدم الانجرار وراء الشائعات والفبركات..محذرًا من استغلال أدوات الذكاء الاصطناعي في نشر الأكاذيب التي تخدم أهداف الحوثي.

وأشار عضو مجلس القيادة، إلى أن المشروع الإيراني هُزم في كل مكان، وأن الحوثي قدم ذريعة لإسرائيل لاستهداف اليمن وتدمير مقدراته بدعوى مناصرة القضية الفلسطينية، بينما لم يكن في الحقيقة يخدم سوى أهداف إيران ومشروعها..مؤضحاً أن الدعم الحقيقي لوقف الحرب في غزة جاء عبر مساعٍ عربية قادتها دول مثل السعودية ومصر وقطر والإمارات لإحلال السلام بعد الدمار الذي جلبته إيران ومليشياتها للمنطقة.

مقالات مشابهة

  • تعيين سفير واشنطن الحالي لدى اليمن في منصب جديد معني بتنفيذ اتفاق السلام بغزة
  • أستاذ علوم سياسية لـ صدى البلد: تحركات مصر الأخيرة رسالة حاسمة بأن القاهرة لن تسمح بانهيار التهدئة في غزة
  • السعودية تواجه اتهامات مباشرة.. جمود سياسي يعيد ملف اليمن إلى نقطة الصفر
  • طارق صالح يؤكد إن السلام في اليمن لن يتحقق إلا بالقوة واقتلاع الحوثيين ويحذر من استغلال ''أدوات الذكاء الإصطناعي''
  • الرئيس عباس: ملتزمون بجميع التعهدات التي قطعناها من أجل الإصلاح
  • علي ناصر محمد يجدد دعمه لجهود السلام في اليمن
  • تركيا تؤكد استمرار دعمها لمسار السلام في اليمن
  • احتجاجات عدن تكشف سياسة التجويع والترويع التي ينتهجها العدوان ومرتزقته
  • اعتقال طبيبة في بريطانيا بسبب تعليق على 7 أكتوبر