من قرية صغيرة في مركز مغاغة،  شمال محافظة المنيا، وفي يوم جمعة من نوفمبر 1889، وُلد طه حسين، أحد أعظم المفكرين والأدباء في تاريخ مصر والعالم العربي. وهو الذي أصبح يُلقب بـ "عميد الأدب العربي" بفضل مسيرته الحافلة بالعلم والفكر والإبداع، والتي لم تكن مجرد مسيرة شخصية، بل كانت أيضًا رحلة فكرية ملهمة حولت التحديات إلى قوة دافعة نحو الإبداع ، ليضيىء الظلام بشمعة كفيف.

 

الطفولة والمحنة

لطالما كانت حياة طه حسين شاهدة على التحديات التي يمكن أن يصنع منها الإنسان مجدًا لا ينقضي. وُلد في أسرة فقيرة، وكان البصر قد أخذ منه وهو في الرابعة من عمره بسبب مرض الرمد الذي كان يسري في جسده دون أن يتلقى العلاج المناسب. ومع ذلك، لم يكن فقدان البصر هو المأساة الوحيدة التي واجهها؛ فقد كان طه حسين في تلك الفترة يعيش في مجتمع يرزح تحت نير الجهل والفقر، حيث كان الصراع مع الحياة لا ينتهي. إلا أن هذا التحدي لم يثنِ عزيمته؛ بل كان بداية لمغامرة فكرية عظيمة.

 

دخل طه حسين الكتاب في قريته، حيث تعلم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، ليبهر معلميه بقدراته الاستثنائية. وتعلم في بيئة علمية ضئيلة الإمكانيات، لكنها غنية بالإرادة والطموح. في تلك الأيام، كان الشيخ محمد جاد الرب، معلم طه حسين الأول، هو من أسس بداياته الفكرية، ليكون سببًا في انطلاقه نحو آفاق أوسع.

 

من الأزهر إلى الجامعة

 

لم تكن مسيرته التعليمية أقل تحديًا فقد دخل الأزهر الشريف عام 1902، حيث استمر في تلقي العلوم العربية والدينية على يد كبار العلماء. ورغم جمود المناهج ورجعية الأساليب التدريسية، لم يرض طه حسين بتلك القيود؛ إذ سعى دائمًا نحو الأفضل، وطموحاته كانت تتجاوز ما توفره له المدارس التقليدية.

 

وفي عام 1908، حينما فتحت الجامعة المصرية أبوابها، كان طه حسين في مقدمة من انضموا إليها، ليبدأ مرحلة جديدة من تحصيله العلمي. وكانت هذه الفترة هي الفاصلة بين الموروث والتحديث، بين القديم والجديد. درس طه حسين في الجامعة المصرية العديد من العلوم الحديثة، من التاريخ والجغرافيا إلى اللغات الشرقية، وفي ذات الوقت ظل متمسكًا بعلاقاته الثقافية والدينية مع الأزهر. وفي عام 1914، نال شهادة الدكتوراه في أطروحته الشهيرة "ذكرى أبي العلاء"، التي أثارت جدلاً واسعًا في الأوساط الدينية والثقافية، حيث اتهمه البعض بالمروق، إلا أن طه حسين بقي صامدًا أمام تلك الانتقادات.

 

الفكر والنقد

إذا كان طه حسين قد استفاد من العلوم الغربية في رحلته إلى فرنسا، فقد عاد ليعرض أفكاره في سياقها العربي، ليؤكد من خلال أطروحاته وتوجهاته الفكرية ضرورة تحديث الفكر العربي، وفي مقدمة ذلك التعليم. لخص طه حسين رؤيته في مقولته الشهيرة: "التعليم كالماء والهواء". كان يؤمن أن التعليم هو السبيل الوحيد للنهوض بالأمة، وأنه حقٌ لكل فرد، لا سيما في ظل مجتمع كانت فيه الثقافة والمعرفة محصورة في يد قلة قليلة.

كان طه حسين صاحب عقل ثائر، لا يخشى المواجهة الفكرية أو المساس بالتقاليد البالية. من أبرز أعماله الأدبية "الأيام"، التي تعد من أرقى سير الذاتية التي أُنتجت في الأدب العربي الحديث، فقد كتب فيها عن حياته وعن آلامه وآماله، ليكشف عن الطريق الذي سلكه في معركة مستمرة مع الظلام. فالحياة عند طه حسين لم تكن مجرد وجود بيولوجي، بل كانت رحلة للوصول إلى النور.

 

مناضل في محراب العلم

لم تكن مكانة طه حسين الأكاديمية مجرد منصب فخري أو صعود إلى الهرم، بل كانت شهادة على جهاده المستمر في سبيل تعليم الشعب العربي. بدأ حياته الجامعية أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني، قبل أن يتولى عمادة كلية الآداب في الجامعة المصرية. كان أستاذًا محبًا للعلم، يرفض الجمود والتقليدية، ويشجع طلابه على التفكير النقدي وإعادة النظر في الموروثات الفكرية.

 

رغم ما عاناه من صراعات سياسية وفكرية، لم يتراجع طه حسين عن قناعاته. ففي عام 1932، اضطر إلى الاستقالة من عمادة كلية الآداب تحت الضغط، ليواصل مسيرته الفكرية من خلال الكتابة الصحفية والأدبية، متابعًا نشر أفكاره في مختلف المجالات. ورغم أن حياته كانت مليئة بالمعارك الفكرية والسياسية، إلا أن طه حسين ظل متفردًا برؤيته وعمله المستمر.

 

طه حسين والسياسة الثقافية

وعلى مستوى السياسة الثقافية، لم يكن طه حسين بعيدًا عن الأحداث السياسية التي شهدتها مصر في القرن العشرين. فقد شغل منصب وزير المعارف في عهد حكومة الوفد عام 1950، ليُعنى بتحسين النظام التعليمي في مصر، ويعمل على تعزيز الهوية الثقافية الوطنية في ظل حركة التحرر الوطني. كما أسهم في تطوير جامعة الإسكندرية وأصبح رئيسًا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، مما عزز مكانته كرمز ثقافي لا غنى عنه.

 

رؤيته للعلم والمجتمع

ظل طه حسين طوال حياته مؤمنًا بقوة العلم كأداة للتغيير الاجتماعي والاقتصادي. وكان يرى أن المجتمعات لا يمكن أن تنهض إلا إذا سمحت لكل فرد فيها بممارسة حقه في التعلم، كما كان يرى أن الغنى ليس مقصورًا على المال، بل هو يتجسد في الفكر والعلم. وفي هذا الإطار، يمكن اعتبار طه حسين أحد أول الداعين إلى إصلاحات جذرية في التعليم والتفكير العربي.

يظل طه حسين نموذجًا فريدًا في تاريخ الفكر العربي؛ لم يكن عميد الأدب العربي مجرد أديب أو مفكر، بل كان رمزًا للثورة الفكرية والنقدية. لقد علمنا طه حسين أن المعركة الحقيقية في الحياة ليست مع القوى الخارجية، بل مع الجهل والتخلف. وقد أثبت لنا أن النور لا يأتي من الخارج، بل ينبع من داخل الإنسان ذاته، ليظل نوره مشعًا إلى الأبد؛ رحم الله طه حسين، الذي علمنا أن الإرادة تصنع المستحيل، وأن العقول الحرة هي السبيل الحقيقي لنهضة الأوطان.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: طه حسين أخبار محافظة المنيا أضاء الظلام عميد الادب العربى کان طه حسین لم تکن بل کان حسین ا

إقرأ أيضاً:

أتمتة أنظمة الملكية الفكرية.. تعاون مصري – كوري لتعزيز التحول الرقمي وبناء نظام وطني متكامل

في إطار التعاون المشترك بين جمهورية مصر العربية وجمهورية كوريا الجنوبية، عُقد اليوم الاجتماع الافتتاحي لمشروع أتمتة أنظمة الملكية الفكرية بالجهاز المصري للملكية الفكرية، بحضور الدكتور هشام عزمي رئيس الجهاز المصري للملكية الفكرية، والسيدة مينج يونج نائب المدير الإقليمي لمنظمة كويكا (KOICA)، ووفد خبراء استشاريين  من المنظمة الكورية  والسيدة إيثار أحمد ممثلة عن وزارة التخطيط والتعاون الدولي، والدكتورة منى يحيى نائب رئيس الجهاز، وعدد من ممثلي إدارات الملكية الفكرية بالجهاز.
يأتي هذا الاجتماع إيذانًا ببدء تنفيذ مشروع إنشاء نظام أتمتة الملكية الفكرية والبنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات، بما يعزز القدرة التنافسية الوطنية في مجال الملكية الفكرية في مصر.

وفي كلمته الافتتاحية، رحب الدكتور هشام عزمي بالوفد الكوري وجميع ممثلي منظمة كويكا، معربًا عن سعادته ببدء هذا المشروع المهم الذي يُعد خطوة أساسية نحو بناء نظام ملكية فكرية أكثر تطورًا وشمولًا في مصر، وتحقيق التحول الرقمي نحو اقتصاد قائم على المعرفة.

وأشار عزمي إلى أن المشروع يأتي في إطار تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية ورؤية مصر للمستقبل، مؤكدًا أهمية تطوير النظام الوطني للملكية الفكرية من خلال التحول الرقمي الكامل لمجالاته المختلفة، وبناء منظومة متكاملة قائمة على بيئة تشريعية حديثة وهيكل مؤسسي قوي قادر على دعم الابتكار والإبداع والبحث العلمي، بما يسهم في تحقيق أهداف رؤية مصر للتنمية المستدامة 2030.

وأكد رئيس الجهاز أن التعاون المثمر بين حكومتي مصر وكوريا الجنوبية يمثل نموذجًا للشراكات الدولية الداعمة للتحول الرقمي، موضحًا أن المشروع سيسهم في تحويل الجهاز المصري للملكية الفكرية إلى بوابة إلكترونية متكاملة تضاهي المكاتب العالمية، بما يعزز سرعة وتيسير تسجيل الحقوق وضمان حماية المبدعين وأصحاب حقوق الملكية الفكرية.

كما استعرض د. عزمي خطة تحويل هذه الرؤية إلى واقع عملي من خلال بناء ثقافة الإبداع القائمة على التوعية والإنفاذ والأتمتة، إلى جانب تعزيز الإطار التشريعي والتنظيمي للملكية الفكرية، ومراجعة التشريعات ذات الصلة، وتبسيط إجراءات الفحص والتسجيل، وتعزيز قدرات العاملين في مكاتب الملكية الفكرية، فضلًا عن معالجة القضايا المتعلقة بالتقنيات الحديثة مثل الملكية الفكرية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.

من جانبها، أوضحت السيدة مينج يونج نائب المدير الإقليمي لمكتب كويكا الكوري، أن المنظمة قامت بإرسال فريق من ستة خبراء استشاريين لإجراء مسح شامل للجهاز المصري للملكية الفكرية ووضع تصور تفصيلي للمشروع. وأشارت إلى أن المشروع يستهدف إنشاء نظام متكامل لأتمتة الملكية الفكرية، وبوابة ومنصة إلكترونية آمنة، وبنية تحتية مطورة لتكنولوجيا المعلومات، تشمل تجهيز غرفة الخوادم وغرفة التدريب ومعدات العمل الحديثة.

كما يتضمن المشروع تطوير أنظمة الإيداع والدفع الإلكتروني، وبناء قدرات الموظفين وتمكينهم، وإطلاق أنظمة رقمية لأرشفة وثائق الملكية الفكرية، وتطوير محركات البحث، بالإضافة إلى إرسال خبراء كوريين لتحليل الوضع الراهن وتقديم الدعم الفني والاستشارات، وتنفيذ برامج تدريبية وورش عمل للمديرين والمستخدمين النهائيين.

وأكدت السيدة مينج يونج أن الجانب الكوري يولي اهتمامًا كبيرًا بتعزيز التعاون مع الحكومة المصرية في مجال الملكية الفكرية، باعتباره أحد المحاور الرئيسية لدعم الابتكار والتنمية الاقتصادية المستدامة بين البلدين. وأشارت إلى أن كوريا الجنوبية ترى في مصر شريكًا استراتيجيًا في المنطقة، وتسعى من خلال هذا المشروع إلى نقل خبراتها المتقدمة في مجال الأتمتة والتحول الرقمي لأنظمة الملكية الفكرية، بما يسهم في بناء قدرات الكوادر المصرية وتطوير بيئة ابتكارية متكاملة تدعم جهود الدولة نحو التحول إلى اقتصاد المعرفة.

ومن الجدير بالذكر أن الوفد الكوري وخبراء منظمة كويكا سيواصلون اجتماعاتهم مع المسئولين والمختصين بالجهاز المصري للملكية الفكرية حتى السادس من نوفمبر القادم، للوقوف على جميع تفاصيل المشروع ووضع التصور الكامل لنظام الأتمتة المقترح.

طباعة شارك جمهورية مصر العربية جمهورية كوريا الجنوبية الملكية الفكرية الجهاز المصري للملكية الفكرية

مقالات مشابهة

  • مظلّة الصمت و«الظلام الإعلامي» في دارفور
  • سكرتير عام مطروح يتفقد مدارس التربية الفكرية والأمل للصم وضعاف السمع
  • في ذكرى رحيله.. طه حسين بين الأدب والدراما وعبقرية أحمد زكي في الأيام
  • القس كاراس: ذكرى أكتوبر تؤكد أن يد الله كانت وما زالت تحفظ مصر
  • زاهي حواس: كنت أخاف من الظلام عندما كنت صغيرا.. وقررت كمواجهة خوفي بعد عملي في الأثار
  • المسلة المعلقة بالمتحف الكبير.. إبداع معماري ورمز ديني ارتبط بفكر المصري القديم
  • أتمتة أنظمة الملكية الفكرية.. تعاون مصري – كوري لتعزيز التحول الرقمي وبناء نظام وطني متكامل
  • رنا سماحة: مش بفكر في الزواج بالوقت الحالي ومش عاوزه أكرر نفس الخطأ
  • انطلاق "المدرسة الصيفية في الملكية الفكرية" بجامعة السلطان قابوس