الضوء الذي لا يموت
تاريخ النشر: 26th, November 2025 GMT
حسين الراوي
في زمنٍ كانت فيه السينما تُشبه السحر، وكان دخول قاعة العرض أشبهَ بالدخول إلى معبدٍ من الضوء، كان الناس يجلسون متلاصقين في العتمة، يحدقون في شاشةٍ بيضاء تحوِّل الخيال إلى واقعٍ، والواقعَ إلى حلم. كانت السينما حدثًا جماعيًا، وطقسًا من طقوس الحياة، يلتقي فيه العاشق واليتيم والعجوز والطفل في دهشةٍ واحدة، تحت سلطة الصورة والموسيقى.
لم تكن السينما تسليةً كما هي اليوم، بل كانت ذاكرة الشعوب وأرشيف القلوب. كل مشهد يُعرض على الشاشة كان يترك في الناس أثرًا لا يُمحى، وكل فيلم كان يعيش في ذاكرتهم كما يعيش الحنين في أرواحهم. كانت السينما هي الفن الذي جعل الإنسان يؤمن بأنّ الضوء يمكن أن يُحاكي العاطفة، وأنّ الصورة تستطيع أن تقول ما تعجز اللغة عنه.
وفي هذا الفضاء المضيء، وُلد فيلم «سينما باراديسو» (Cinema Paradiso) للمخرج الإيطالي جوزيبي تورناتوري، كرسالة حبّ إلى السينما الأولى، وإلى طفولة العالم قبل أن يغزوها الإسفاف والسطحية. الفيلم يأخذنا إلى قريةٍ صغيرة في جنوب إيطاليا، حيث يعيش الطفل توتو مفتونًا بعروض السينما المحلية، ويفتح عينيه على عالمٍ جديد من الأحلام بفضل مشغّل آلة العرض ألفريدو، الرجل الطيب الذي يصبح له أبًا ومعلمًا ورفيق درب.
لكن الحكاية لا تقف عند حدود الصداقة، بل تتجاوزها إلى رمزيةٍ أعمق: ألفريدو هو الذاكرة، الحكمة، والحنين الذي يدفع توتو إلى مغادرة قريته بحثًا عن ذاته؛ وتوتو هو الحلم الطفولي الذي يرحل لكنه لا ينسى. وعندما يعود بعد عقودٍ طويلة لوداع أستاذه الراحل، يجد أن قاعة السينما قد هُدمت، وأنّ طفولته ذهبت مع الغبار — غير أنّ ألفريدو ترك له هديةً خالدة: شريطًا سينمائيًا جمع فيه كل المشاهد المحذوفة من الأفلام القديمة، تلك القبلات واللحظات التي مُنع عرضها ذات يوم.
حين يشاهد توتو ذلك الشريط، لا يرى صورًا فقط، بل يرى حياته نفسها. يرى الطفولة، الوجوه التي غابت، الأماكن التي اندثرت، وكل ما لم يعد. إنها لحظة مواجهةٍ بين الحنين والزمن، بين الصورة والذاكرة، بين الإنسان وظلّه.
رمزيًا، «سينما باراديسو» هو فيلم عن الفقد بوصفه وجهًا آخر للذاكرة، وعن السينما بوصفها الوسيلة التي تمنح الغائبين حياة ثانية.
إنه يذكّرنا بأنّ ما نحبّه لا يرحل، بل يتحوّل إلى ضوءٍ يسكننا، كما تسكننا الموسيقى أو رائحة المطر.
في النهاية .. كلّ ما نحبه في الطفولة نفقده، لكننا نحمله معنا في صورةٍ أخرى، في ذاكرة، في مشهدٍ، في عطرٍ قديم، أو في قبلةٍ محذوفةٍ من فيلمٍ قديم.
وهكذا يبقى الإنسان، مهما ابتعد، يعيش في دائرة الضوء ذاتها؛ يعود كلما أظلمت الدنيا إلى تلك اللحظة الأولى التي أدهشته فيها الصورة، وأضاءت روحه للمرة الأولى.
ربما لم تكن السينما يومًا مجرد شاشة تُعرض عليها القصص، بل كانت دائمًا مرآةً نرى فيها وجوه الذين غابوا، وملاذًا نختبئ فيه من خسارات العمر.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ملقط من الضوء.. كيف يساعد الليزر العلماء على كشف سر البرق؟
باستخدام أشعة الليزر وكأنها "ملقط" يمسك بأصغر الجسيمات الطائرة في الهواء، طوّر باحثون في معهد العلوم والتكنولوجيا بالنمسا طريقة جديدة لمراقبة كيفية اكتساب هذه الجسيمات لشحنتها الكهربائية وكيف تفقدها بمرور الوقت.
هذه التقنية، التي نشرت يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري في مجلة "فيزيكال ريفيو ليترز" قد تمنح العلماء نافذة غير مسبوقة لفهم كيفية شحن السحب وما الذي يطلق شرارة البرق.
داخل السحب الرعدية، تلعب بلورات الثلج وحبيبات الجليد الأكبر حجما دورا رئيسيا في تبادل الشحنات الكهربائية عند تصادمها، لكن اللحظة الحاسمة التي تنطلق فيها الشرارة الأولى داخل السحابة، والتي تتطور لاحقا إلى البرق، ما تزال لغزا معقدا.
في مختبر مجهز بطاولة تمتص الاهتزازات ومرايا دقيقة، وجه الباحثون شعاعين ليزريين إلى صندوق صغير تمر داخله جسيمات شفافة من السيليكا تستخدم كنموذج لبلورات الجليد.
وعندما يلتقي الشعاعان، تتكون "مصيدة ضوئية" تعمل كملقط بصري قادر على تثبيت جسيم واحد في الهواء باستخدام الضوء فقط.
وتقول الباحثة الرئيسية للدراسة أندريا ستولنر -طالبة الدكتوراه في معهد العلوم والتكنولوجيا النمساوي- "عندما التقطنا أول جسيم قبل عامين، لم نستطع إبقاءه أكثر من 3 دقائق، اليوم أصبح بوسعنا إبقاؤه ثابتا لأسابيع".
كان الهدف الأول هو قياس شحنة الجسيم وتأثير الرطوبة عليها، لكن الفريق لاحظ ظاهرة غير متوقعة، فالليزر نفسه كان يشحن الجسيم.
وأظهرت التجربة لاحقا أن امتصاص الجسيم لفوتونين (الفوتون هو أصغر وحدة من الضوء) وفي اللحظة نفسها يقدر على طرد إلكترون منه، فيفقد الجسيم شحنة سالبة ويصبح أكثر إيجابية، ومع استمرار تعريضه للضوء، تتراكم الشحنات الإيجابية تدريجيا.
إعلانتوضح ستولنر في تصريحات للجزيرة نت "صار بإمكاننا متابعة رحلة الشحن لحظة بلحظة، من حالة محايدة إلى شحنة عالية، كما يمكننا تعديل قدرة الليزر للتحكم في سرعة الشحن".
لكن الجسيمات لا تظل مشحونة إلى الأبد، فعندما ترتفع شحنتها بما يكفي، تبدأ بإطلاق "تفريغات كهربائية" صغيرة على شكل قفزات مفاجئة، كأنها تتخلص من جزء من شحنتها.
وتشبه هذه الومضات المصغرة ما قد يحدث داخل السحب على نطاق أكبر بكثير، حيث تتراكم الشحنات بين طبقات السحابة إلى أن يحدث التفريغ الكبير: البرق. والتفريغ الكهربائي هو خروج مفاجئ لكمية من الشحنة الكهربائية من جسم ما عندما تصبح الشحنة فيه أعلى من قدرته على الاحتفاظ بها.
لطالما افترض العلماء أن تصادم بلورات الثلج داخل السحب يوزع الشحنات الكهربائية بين قمة السحابة وقاعدتها، وهناك فرضيات أخرى تعطي دورا للأشعة الكونية، التي تنتج جسيمات مشحونة تسرع داخل الحقول الكهربائية الموجودة في السحب، وربما تشعل الشرارة الأولى.
لكن المشكلة في هذه التفسيرات أن قوة المجال الكهربائي التي تقاس داخل السحب كثيرا ما تكون أضعف من الحد النظري اللازم لبدء تفريغ كهربائي كبير مثل البرق.
هنا يظهر دور "الملقط الضوئي" الجديد، تقول المؤلفة الرئيسية للدراسة "من خلال التقاط جسيم واحد، والتحكم بدقة في شحنته، ومراقبة التفريغات الكهربائية الصغيرة التي يطلقها تحت ظروف بيئية مضبوطة، يأمل الفريق في تتبع خطوات الشحن والتفريغ على مستوى ميكروسكوبي، ثم مقارنة ما يرونه بما يحدث في السحب الحقيقية".
وتضيف ستولنر "نستطيع الآن متابعة ديناميات شحن جسيم واحد مع الزمن. هذه خطوة أساسية لاختبار فكرة أن البلورات المشحونة قد تطلق تفريغات صغيرة جدا، وربما تكون هذه هي البذرة الأولى للشرارة الأكبر".
تقول الباحثة إن قوة التجربة في استخدامها أدوات فيزيائية دقيقة، مثل الليزر، للإمساك بجسيم واحد ومراقبة شحنه وتفريغه لحظة بلحظة عبر وميضه الأخضر. وبالتحكم في قوة الليزر، يستطيع الفريق تسريع الشحن أو إبطاءه وتسجيل لحظات التفريغ الصغيرة بدقة.
ورغم أن التجربة تجرى على جسيمات أصغر وبيئة أبسط من السحب الحقيقية، فإن قياس هذا "النبض الكهربائي" على مستوى جسيم واحد يمنح العلماء نموذجا لفهم كيف قد تتجمع تفريغات كثيرة صغيرة داخل السحب لتصل في النهاية إلى برق واحد كبير. ويأمل الفريق في تكرار هذه القياسات تحت ظروف أقرب لجو السحب، لفهم أفضل للحظة التي تلمع فيها السماء.