لجريدة عمان:
2025-06-02@02:34:01 GMT

المنطق.. حالة تسويغية لإرضاء العامة

تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT

يَحُلُّ الـ «منطق» بمسميات كثيرة، وتحت عناوين كثيرة، وهو في كل أحواله لن يخرج عن مفهوم الـ «قناعة» فما أقتنع به هو منطق، بالنسبة لي، ولذلك تاه مفهوم المنطق كتطبيق، وأصبح توظيفه خاضعا لما يريد أن يصل إليه الفرد، المجموعة، الدولة، المجتمع الدولي، وفق أجندات كل واحد من هؤلاء. ولذا لا يتصور أن يكون هناك منطقا عالميا في أي شأن من شؤون الحياة يتفق عليه الجميع، ويرضى الجميع بما يؤول إليه؛ حتى وإن أسند بتعريف علمي، ففي كل أحواله لن يخرج عن مبدأ الربح والخسارة، وإلا لو احتكم الجميع إلى منطق واحد في أي شأن من شؤون الحياة ما حدث ما حدث، ولعاش الناس في أمن وسلام واطمئنان.

ألم يقل عنه بأنه «إدراك الكليات» و«الدراسة المنهجية لشكل الاستدلال الصحيح، وقوانين المعرفة الحقيقية الأكثر شيوعًا» - حسب التعريف - فهذه كلها جوانب تنظيرية؛ ربما؛ لتقريب الفهم النظري لا أكثر، أما ممارسات الواقع فهي بعيدة كلية عن ذلك.

والذي أستغربه من هذه التعريفات، وكأن واضعيها يتحدثون من برج عاجي، هذا بخلاف الفوقية التي يشرفون من خلالها عند وضع التعريفات، والمسألة ببساطة هي: أن كل ما يحيط بنا، أو نمارسه كسلوك، هو عبارة عن مجموعة أفكار اقتنعنا بها، أو لم نقتنع منبثقة عن منطق تم الترويج له بحرفية متقنة، حتى أصبح التسليم له، لا يحتاج إلى جلسة حوارية عن ماهيته الموضوعية، ذلك أن المنطق - كما يوصف - بأنه هو أبو الأفكار، وأن كل الأفكار المنبثقة عن منطق ما، هي خارجة من تحت ردائه، ولأنه منطق يتم في المقابل، التسليم له تسليما مطلقا «اغمض عينيك واتبعني».. كما أن المنطق يظل هو المادة التي يدغدغ بها عاطفة العامة لقبول الأفكار، فالجمهور العريض لا تستوقفه الأسئلة كثيرا، وقد لا يهتم بموضوعية الفكرة المراد تنفيذها وسموها كحصيلة معرفية، أو توظيفها، فهو يذهب إلى النتائج مباشرة، سواء أكانت نتائج مادية مقبوضة، أو نتائج معنوية محسوسة، ولذلك تنتشي نفوس أصحاب الرسائل المروجون لمنطق ما، وتبتهج كثيرا عند التفكير لتوظيف فكرة ما، حيث يذهبون إلى صناعة منطق قبل المطالبة بتنفيذ الفكرة/ الأفكار، لتوهمهم أن الجمهور أول ما يذهب إليه هو السؤال عن منطق الفكرة، وأن هذا الجمهور يحرص على أن يكون المنطق متوافقا مع قناعاته، فيذهب إلى تنفيذ مجمل الأفكار بعد ذلك.

والواقع أن الجمهور يذهب مباشرة إلى النتائج العامة المتحققة، وهي النتائج المعبرة عن المنطق المنبثقة منه مجمل الأفكار التي تم تنفيذها على أرض الواقع، فالباحث عن عمل، قد لا يلتفت كثيرا إلى مبررات الضائقة الاقتصادية، وهي الناتجة عن منطق أن «توفر الوظائف معتمد على مدى قدرة المؤسسات على توفير الرواتب لموظفيها؛ وبغير ذلك لا يمكن أن توظف أعدادا كثيرة لن تقدر على توفير المخصصات المالية لهم في نهاية كل شهر» فما يهمه هو أن يتوظف وفقط، والمشارك في انتخابات المجالس التشريعية القائمة على منطق السلطة التشريعية؛ ما يهمه هنا هو إيصال صوته إلى صانع القرار، سواء الوسيلة «سلطة تشريعية» أو فرد له القدرة على إيصال هذا الصوت، هنا لا يهتم بـ «إدراك الكليات» ولا «الاستدلال الصحيح لقوانين المعرفة التشريعية» فهذا كله من مهمات الخبراء، والمتخصصين الذين لهم القدرة على التنظير في هذه الجوانب كلها.

قد تكون مشكلة المنطق أنه جامد، ولا يقبل التغيير كثيرا، بينما؛ في المقابل؛ أن ظروف الحياة متجددة ومتغيرة، وتتصادم بصورة مستمرة مع الثبات الذي يكون عليه المنطق، وعودة على المثال أعلاه - التوظيف - ففي فكر الباحث عن عمل أن تعمل المؤسسات على البحث عن وسائل أخرى للاستثمار الذي يتيح لها سيولة مادية تستطيع من خلالها أن تستوعب العدد الكبير من الموظفين، وليس البقاء على مصدر دخل واحد فقط، ولذلك فهناك معركة «حامية الوطيس» بين الطرفين، فالأحلام المدغدغة لعاطفة الجمهور، والتي يرسمها المنطق مع بداية النشأة تبدأ في التراجع، وذلك لأن جميع المسوغات التي ذكرت عند لحظة الميلاد؛ لن تكون منطقية في مرحلة متأخرة من عمر الحياة، والسبب أن هناك مستجدات تحدث في ديناميكية الحياة اليومية، تتصادم مع كل الثوابت القائمة على المنطق في مرحلة متقدمة عند نشأة الفكرة، ولذلك يظل هناك جدل قائم بين المراحل، وقد يشير إلى نفس المعنى الذي يذهب إلى مفهوم «صراع الأجيال» أو بمعناه الكبير «صراع الحضارات» ومن يراقب الواقع بدقة يجد هذا الأمر واضحا جليا في كل جوانب الحياة اليومية، ولنأخذ مثلا آخر؛ قريبا منا، وهي العائلة الممتدة؛ ومنطقها على أنها الحارس الأمين لأخلاقيات المجتمع منذ النشأة، وحتى مراحل ما بعد سن الرشد، فهناك قناعة كبيرة بهذا المنطق، ولذلك عمرت طويلا، حيث نظر إلى نتائجها مثل: قدرتها على تبني الأخلاق السامية، والتربية السليمة، والتكاتف الاجتماعي، ولكن لأن الحياة متغيرة، ومتجددة؛ كما أسلفت؛ لم يعد للعائلة الممتدة اليوم تلك المكانة التي كانت تحتلها في زمن ما؛ حيث حلت مكانها العائلة النووية، أو الأسرة النووية المُشَكَّلَةُ من «والدين، وطفل أو طفلين أو ثلاثة بالكثير» وأن مجمل نتائجها الاجتماعية من تأسيس القيم التربوية والسلوكية، تنازعها عليها اليوم مجموعة من المؤسسات بما يسمى بـ «محاضن التربية»حيث تتولى هذه المحاضن تصدير مختلف القيم، حتى يكاد أن لا يكون أي دور للأبوين في هذا التشكل القيمي الجديد، مع وجود تسارع غير طبيعي في مجريات الحياة اليومية، حيث يقضي كلا الوالدين جزءا كبيرا من وقتيهما في الوظيفة التي تمتد فترة عملها ثلثي النهار في بعض الوظائف.

شُرْعِنَتْ مع بداية تشكل الوعي الجمعي في كثير من بقاع العالم بما يسمى بـ «النظريات» في مختلف فروع العلوم: النظريات الاجتماعية، النظريات الاقتصادية، النظريات السياسية، النظريات الثقافية النظريات الإعلامية، المذاهب في الديانات المختلفة، النظريات الرأسمالية، النظريات الشيوعية، وفي كل هذه النظريات وجد مرتكز يسمى المنطق ترتكز عليه هذه النظرية أو تلك، وسوقت هذه النظريات على أنها الحل الأمثل لموضوعاتها التي تنادي بها، واشتغلت عليها الميكنة السياسية أكثر من غيرها، وانخرط الفهم العام للجمهور إلى ضرورة تبنيها والأخذ بها، بصفتها المخرج من تداعيات ما يتناقض مع مفهومها، وعلى هذا الفهم تم تجيير الأطماع والحروب، واستغلال الشعوب، تحت مسوغات جانبية كثيرة، مَنْطَقَهَا القويُّ، وفرضها على الضعيف لتحقيق مآربه الخاصة، فاحتلت الدول، وانتهكت الحقوق الإنسانية، وشرد الملايين من شعوب العالم من بلدانها، وسرقت ثرواتها على مسمع ومرأى من الجميع، وإمعانا في تسويق ما يسمى بـ «منطق الحماية الدولية للشعوب المستضعفة، وعدم تدخل الدول في شؤون بعضها البعض، وعدم الاعتداء» أنشئت منظمات دولية تستبطن السم الزعاف للبشرية جمعاء؛ تحت عناوين كثيرة تسويغية الهدف المعلن إرضاء الجمهور؛ وغير المعلن هي أوكار لرسم الدسائس، وسرقة الثروات، وامتهان وإذلال الشعوب المغلوب على أمرها تحت غطاء «الشرعية الدولية» ومن هذه المسوغات المعلنة: (الحماية من المخاطر، إشاعة الأمن، المحافظة على حقوق الإنسان، حماية المرأة والطفل، عدم احتلال الشعوب، إشاعة الأمن والسلم الدوليين) ومسميات كثيرة مغرية تسيل لعاب الضعفاء، وتبرر التسلط والهيمنة للأقوياء، ولذلك وظف المنطق الذي برر لإنشاء هذه المنظمات «الظالمة» للتستر على التوظيف السيئ له، ولم تجن الشعوب؛ إلا الهوان، والظلم، والتشتت.

ولكن ما يثلج الصدر أن الشعوب تدرك مجمل مسوغات المشروعات التي ينادى بها باسم المنطق، ولذلك فهي تنتفض المرة تلو الأخرى حتى توقف هذا النزيف الذي يراق على أرصفة الظلم والقهر، وكما يقال: «للظلم جولة وللحق جولات، وعلى الباغي تدور الدوائر» ولأن الحياة قائمة على التغيير، متجاوزة حالات الجمود الذي يتضمنه المنطق، كما هي قائمة على الحق والظلم، فسوق يظل الصراع قائما، وستظل الصورة تراوح نفسها بين هزيمة ونصر، وبين غروب في بقعة ما، وشروق في بقعة آخر، وهذه مغالبة تعيشها البشرية منذ نشأتها الأولى، ولن تتوقف عند حد معين، وسيظل الإنسان هو الفاعل الأسمى فيها، وهو الذي يدير دفتها نحو المهالك والمآسي مرة، ونحو السمو والارتقاء مرات عديدة.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

في اليوم الذي يسمونه يوم القدس

في اليوم الذي يسمونه "يوم القدس"، لا يتم الاحتفاء بالقدس وإنما تتعرض البلدة القديمة للتدنيس، حيث تتحول مسيرة العلم الإسرائيلي، التي تنظم سنوياً تحت راية الفخر القومي إلى مشهد من مشاهد الكراهية التي لا حدود لها.

وهذا العام انحطت إلى قعر الخسة والفجور.

أوردت صحيفة هآريتز أن الفتيان الإسرائيليين انطلقوا في مسيرة عبر الحي الإسلامي وهم يهتفون "الموت للعرب"، "امسحوا غزة"، "لا توجد في غزة مدرسة، لم يبق فيها أطفال". كانت صواري الأعلام تدق في الأبواب العتيقة، بينما ينهال المشاركون في المسيرة بالسباب والشتائم على النبي محمد ويسخرون من ذكرى فلسطين.

لم يُلق القبض على أحد بتهمة التحريض.

في يوم القدس يتم فعلياً تجميد قانون التحريض، وتصبح الكراهية سلوكاً تحض عليه الدولة. ما تنطلق به الحناجر من شعارات ليس هتافاً موجهاً ضد حماس، وإنما إعلان حرب على العرب والمسلمين – وعلى روح المدينة نفسها.

وعلى النقيض من المزاعم بأن هذا من فعل مجموعة هامشية، تبدو الحقيقة أكثر بشاعة. فكما يلاحظ صحفي هآريتز نير حسون، الهاشميون ليسوا العنصريين، وإنما أولئك الذين يرفضون الانضمام إليهم.

وحتى المنظمات المتحالفة مع التيار اليميني السائد، مثل إم ترتوز المنتسب إلى الليكود، انطلقت عناصرها وهي ترفع لوحات كتب عليها "لا نصر بلا نكبة". تلقى مسرح الكراهية هذا تمويله بشكل مباشر من بلدية القدس، التي خصصت 700 ألف شيكل (ما يعادل 200 ألف دولار) – بدون مناقصة عامة – لدعم منظمي المسيرة.

الغزو والتطهير

هذه ليست فورة عاطفية، وإنما عقيدة قيد التطبيق، واستعراض للاهوت يقوم على الاعتقاد بالتفوق العنصري على الآخر، تتواجد في القلب منه رؤية تنبؤية ليس من أجل إقامة السلام أو التعددية وإنما من أجل الغزو والتطهير.

من أبرز مهندسي هذه الرؤية الحاخام إسحق غينزبيرغ، الأب الروحي لما يسمي "شباب رؤوس التلال"، وهي مليشيا مكونة من المستوطنين، تمارس العنف قتلاً وإفساداً في مختلف أرجاء الضفة الغربية. يشيد غينزبيرغ علانية بباروخ غولدستين الذي ارتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل في عام 1994 وأزهق أرواح 29 فلسطينياً بينما هم ركوع في صلاة الفجر بالحرم الإبراهيمي. بل نشر غينزبيرغ كتابات يحض فيها على قتل نساء وأطفال غير اليهود.

وكان غينزبيرغ قبل عقدين اثنين من الزمن قد ألقى خطبته الشهيرة بعنوان "حان الوقت لكسر الجوزة"، حيث شبه إسرائيل بثمرة محاطة بأربعة أغلفة – تتكون من الدولةل العلمانية ومؤسساتها – كانت لها من قبل غاية ومبررات، ولكنها باتت الآن عقبة تعيق الخلاص.

أعلن في خطبته أنه ينبغي تدمير هذه الأغلفة، ألا وهي الإعلام، والقضاء، والحكومة، والميثاق الأخلاقي للجيش. فقط من خلال القضاء عليها يمكن أن يبرز اللب الخالص للتفوق اليهودي ويمكن للعهد المهدوي أن ينطلق.

هذه ليست حالة من الفوضى وإنما عملية منظمة قيد تنفيذ.

إن الهتافات التي تردد صداها في طرقات القدس هذا العام لم تكن تشوهات، بل أعراضاً لمنظومة تخلصت من رداء الديمقراطية العلمانية. وما تبقى منها غير قومية عرقية ومهدوية معراة، رؤيتها مستمدة من سفر الرؤيا، وتوجهاتها تشي بارتكاب الإبادة الجماعية.

من الوزراء اليمينيين المتطرفين إيتامار بن غفير وبيزاليل سموتريتش، لم تعد النزوة مقصورة على الهمس، بل باتت تذاع على الملأ. في هذه الأثناء، انطلق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عبر نفق "طريق الحاج" تحت المسجد الأقصى، معلناً أمام طلاب المعاهد الدينية اليهودية: "سوف تنطلقون من هناك وتخرجون [إلى الهيكل]."

إلا أن سموتريتش، كعادته، كان أكثر صراحة، فقد أعلن في نفس ذلك اليوم، متحدثاً أمام جمهور من الأتباع المتحمسين: "بعون من الرب، سوف نوسع حدود إسرائيل، ونحقق الخلاص التام، ونعيد بناء الهيكل ههنا."

إن الدعوة إلى بناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى ليست مجرد انتهاك للوضع القائم، وإنما هي إعلان شامل للحرب الدينية، الأمر الذي يتبدد معه وهم التعايش، وذلك أن المشروع الصهيوني ليس إعلان حرب على المسلمين فقط، وإنما هو حرب معلنة على المسيحيين كذلك. ها هو الوجود المسيحي في القدس – بكل عراقته وأصالته وقدسيته – يتعرض للاستئصال بشكل منتظم.

حقبة جديدة

في وقت مبكر من عام 2023، أي قبل شهور من السابع من أكتوبر، حذر زعماء الكنائس من الهجمات المتصاعدة، ومن الاستيلاء على الأراضي، ومن الحصانة من المساءلة والمحاسبة التي تمنح لمن يرتكبون ذلك.

أعلن الأب دون بيندر، من كنيسة القديس جورج، قائلاً: "إن العناصر اليمينية المتطرفة عازمة على تهويد البلدة القديمة." أما الكاردينال بيتزابالا فقال إن عام 2024 كان "أسوأ فترة عشتها على الإطلاق." وبحلول عام 2025، مُنع المسيحيون من حضور الصلوات في عيد الفصح، وارتفع منسوب المضايقات التي يواجهونها والاعتداءات التي تتعرض لها ممتلكاتهم وأعمال التخريب. وغدا البصق على المسحيين روتينا، بحث عليه بن غفير ويصفه بأنه "تقليد يهودي".

هذه ليست أعمالا معزولة، بل جزءا من حملة منظمة. فالصهيونية لا تسعى فقط إلى الهيمنة على المدينة، وإنما إلى مسح خصائصها العربية والإسلامية والمسيحية كذلك.

ما نشهده ليس مجرد عنصرية، بل تهويد، مشروع الغاية منه إعادة تشكيل المدينة لتجسد عقيدة التفوق العرقي اليهودي.

ومع ذلك ثمة نموذج آخر ينبع لا من القهر بل على التعايش. في القرن السابع، كانت القدس المدينة الوحيدة التي شد إليها الخليفة عمر بن الخطاب  الرحال لتسلم مفاتيحها، نزولا عند طلب زعيمها الديني المسيحي البطريرك صوفرونيوس. رفض عمر الصلاة داخل كنيسة القيامة خشية أن يراه المسلمين فيستحوذوا عليها لاحقا، وأدى الصلاة بدلاً من ذلك بتواضع على الدرجات في الخارج، ثم ألصدر مرسوماً بتحريم مصادرتها.

بل سمح العهد الإسلامي الجديد في القدس لليهود بالعيش في المدينة بعد أن كان ذلك محظوراً عليهم لعقود تحت الحكم البيزنطي. في كتابه بعنوان "التاريخ المقتضب لإسرائيل"، يلاحظ المؤلف بيرنارد ريتش أنه "منذ بداية الحكم الإسلامي، استؤنف التواجد اليهودي في القدس، ومُنح المجتمع اليهودي الإذن بالعيش تحت "الحماية"، وهو الوضع المتعارف عليه لغير المسلمين في ظل الحكم الإسلامي، والذي يصون حياتهم وممتلكاتهم وحريتهم في العبادة، مقابل دفع جزية خاصة وضرائب على الممتلكات."

بعد ذلك بقرون، وفي ظل تنازع الطوائف المسيحية على أحقية الإشراف على الكنيسة، عهد السلطان صلاح الدين بمفاتيح نفس تلك الكنيسة إلى عائلتين مسلمتين، آل جودة وآل نسيبة، ظلتا على مدى 850 عاماً هما من يفتح ويغلق أبوابها بكل إخلاص ونزاهة.

"القلق الصليبي"

هذه هي القدس كما ينبغي لها أن تكون، مدينة الأمانة لا الهيمنة، والتوقير لا التطهير.

إلا أن المعركة على روح القدس لم تنته، بل إنه الصراع الأكثر رمزية على الإطلاق، بين الغزاة وأهل البلاد، بين دعاة الإقصاء ودعاة الاستيعاب، بين عقيدة استيطانية استعمارية تعبد النقاء الخالص عبر العنف، ومدينة كانت عظمتها ذات يوم ثمرة تعدديتها المقدسة.

ثمة تشابه مع الحروب الصليبية. ففي عام 1099، اجتاحت جيوش الصليبيين القدس وذبحت الآلاف من المسلمين واليهود. واليوم، ها هم الصهاينة يرددون نفس منطق الصليبيين، ويستعيدون صورهم، وينهجون سبيلهم. من إيماءات نتنياهو حول الهيكل إلى عقيدة الإبادة التي يحملها غينزبيرغ، ها هي الصليبية تنبعث من جديد.

إلا أن ممالك الصليبيين تهاوت. فقد حرر صلاح الدين القدس من الصليبيين بعد ثمانية عقود من الاحتلال، وانهارت المغامرة الصليبية بأسرها خلال قرنين، تاركة خلفها ندوباً عميقة، وفي نفس الوقت عزماً قوياً وثابتاً على مقاومة الغزاة.

يشعر الجنود الإسرائيليون أنفسهم بهذه المقارنة. كتب المؤرخ ديفيد أوهانا يقول إن "القلق الصليبي" يطارد النفسية الإسرائيلية – إنها الخشية الدفينة من أن الصهيونية، كما كان حال سلفها في القرون الوسطى، قد تنتهي ذات يوم وكأنها لم تكن من قبل. وهذا حق، لأن القدس لا تجوز لمن ينتهكون حرمتها.

قد تحترق غزة، وقد تنزف الضفة الغربية، ولكن تبقى القدس هي درة التاج. مهما بلغ توحش الصهيونية، فإنها لن تتمكن من طمس ما تشكل بفعل التاريخ والجغرافيا والعقيدة. تعيش فلسطين في قلوب الملايين، والقدس ليست على الهامش من ذلك، بل إنها تتربع في القلب من العالمين العربي والإسلامي.

مهما حفر الصهاينة من أنفاق، ومهما رفعوا من أعلام، ومهما بثوا من أحقاد، سوف يستمر الفلسطينيون في الإنشاد، كما غردت ذات يوم المغنية اللبنانية المسيحية فيروز "يا قدس، يا مدينة الصلاة. عيوننا إليك ترحل كل يوم. تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد .... وبأيدينا سنعيد بهاء القدس، بأيدينا للقدس سلام."

قد تكون مسيرة الكراهية صاخبة اليوم، ولكنها سوف تصمت يوماً لا محالة. وفي ذلك اليوم سوف تتحرر القدس من الاحتلال ومن الغلو ومن العنصرية، وسوف تعود إلى أهلها، لم تنكسر روحها، ولم تُنتقص قدسيتها.

مقالات مشابهة

  • بوريطة: الموقف الذي عبرت عنه المملكة المتحدة بشأن قضية الصحراء المغربية سيعزز الدينامية التي يعرفها هذا الملف
  • مريم: تزوجني صالونات لإرضاء والدته وعايز يتجوز في الخليج
  • سعد: الغائب الذي لم يَغب
  • في اليوم الذي يسمونه يوم القدس
  • مقطع نادر يوثق الحياة اليومية في جدة عام 1389هـ.. فيديو
  • شاهد بالفيديو.. عودة الحياة لطبيعتها بمنطقة العمارات بوسط العاصمة الخرطوم
  • القتل الرحيم والمساعدة على الانتحار: مفهومان مختلفان لإنهاء الحياة في أوروبا
  • ⛔ لاحظ التعابير التي استخدمها فيصل محمد صالح في هذا اللقاء
  • تأثرت بمتغيرات الحياة.. الموسيقى العراقية من الأصالة إلى هز الأكتاف
  • لو ناوي تسافر..استقرار الأحوال الجوية خلال العيد وارتفاع درجات الحرارة