الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير” عن مَوْتُ المُؤلِّفِ وأبَدِيَةُ النَصِّ
تاريخ النشر: 7th, September 2023 GMT
أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج
بالمعنى البسيط هو كيف يتحول النص إلى قاتل لصاحبه إذ يسرق منه أهم شيء شكل وجوده وكيانه، الهوية الاسمية التي ورث بعضها من تاريخ العائلة والبعض الثاني صنعه بإبداعاته، فيصبح النص/عنوان الكتاب هو الطاغي وليس اسم الكاتب. ليس غريبا ذلك كله. للكتابة سحر يتخطى عتبات ما ننوي القيام به.
لكن الذي يتجاوز المنطق المتعارف عليه والداعي إلى الكثير من الأسئلة، هو كيف يتسنى لنص كتبه إنسان، وتعذب عليه جسديا وروحيا ونفسيا وأخذ الكثير من سنوات عمره، أن يستقل بذاته، ويهرب عن كاتبه، متنكرا لكل لحظات الإبداع الصعبة. بل يكتفي بذاته للتعريف بنفسه. الكاتب يصبح في موقع ثان، في الظل، قبل أن يذوب ويغيب نهائيا ولا يذكره القراء إلا عرضا، على الرغم من أنه من حيث الوضع القانوني، يظل النص ملكا لكاتبه وليس لغيره ولكن هذه مسلمة يتفق عليها الجميع. نجد هذا حتى في الفن التشكيلي إذ قليلا ما نسأل عمن يتخفى وراء لوحة عظيمة مثل موناليزا والعشاء الأخير (دافنشي)؟ خلق آدم (مايكل أنجيلو) غيرنيكا (بيكاسو)؟ المعدومون؟ الليلة المرصعة بالنجوم (فان غوخ)، الصرخة (إدفار مونخ)، القبلة (غوستاف كليمت)؟ وغيرها. نفس النظام الذي يقوم بمسح اسم الكاتب بالنسبة للنص الأدبي. السؤال الكبير هو كيف ينفصل النص عن صاحبه ويصنع مجده، ويصنع تلقائيا مجد الكاتب بمسحه. الكاتب في المحصلة العامة يكتب ويمضي إلى سبيله وإلى تفاصيل حياته التي ليست مسلمة أو أمرا سهلا، وينسى نصه أو يتناساه ويشرع في التفكير في نص قادم، فيصطدم فجأة بمقروئية كبيرة رفعت النص نحو الأعلى لدرجة أن انفصل عن كاتبه. لنا في بعض النصوص الإنسانية ما يؤكد على هذه الظاهرة الغريبة حيث يقتل النص مبدعه. دون كيشوت أو دون كيخوتي دي لامانشا (كتب جزؤه الأول في 1605، والثاني في 1916) أنجزه ميغيل سيرفانتس، كاتب محارب، قضى وقتا لا يستهان به في سجون الأعداء (المسلمون) والسجون الوطنية (الأسبانية) لأسباب متفاوتة وكثيرة، في الجزء الأول من القرن السابع عشر. استقبل النقاد صدور دون كيخوتي بحماس كبير لدرجة أن الكثير من الكتاب قلدوه، وأخرجوا الجزء الثاني من الرواية على أساس أنه لسيرفانتس بحثا عن شهرة كانوا يريدونها بينما فرضت نفسها على سيرفانتس. قبل أن ينكر الكاتب المخطوطة وينشر النص الحقيقي في 1916. فأصبح الحديث عن النص المدهش الذي كتبه سيرفانتس في كل مكان لدرجة أن اسم الكاتب لم يعد مهما وبدأ يغيب شيئا فشيئا. الذاكرة الشعبيىة لا تهتم كثيرا بصاحب الإنجاز بقدر اهتمامها بالمنجز نفسه. كل المرويات القديمة والحكايات انسحب كتابها كليا: ألف ليلة وليلة، الظاهر بيبرس، السيرة الهلالية، سيرة عنترة، الزير سالم، سيف بن ذي يزن وغيرها. يبدو أن منتهى النجاح النصي لا يتم إلا بمحو الكاتب. وتتحول الشخصية الافتراضية إلى الشخصية الحقيقية. وترتقي شيئا فشيئا إلى النموذجية الشعبية. ويتم التركيز على الشخصية المبدَعة بدل المبدِع. كل الناس عموما يعرفون دون كيخوتي والقليل القليل من يعرف ميغيل سيرفانتس باستثناء الطبقة العالمة. يُستحضر دون كيشوت في المواقف الهزلية الساخرة، الحكيمة، المحاربة، يضرب به المثل وكأنه شخص حي ويعيش معنا. نجده في كل الأمكنة العامة على الرغم من أننا نعرف سلفا أنه قادم من عهد الفروسية البائدة. نراه في واجهات الشوارع والمقاهي، والمحلات العامة، والمطاعم. أكثر من هذا كله، الناس يعرفون دون كيخوتي من خلال الرواية الشعبية والمحكيات المتداولة أكثر من المعرفة القرائية. جيل نشأ في التوريث الحكائي كما الأحجيات، لكنه غير منشغل بوجود كاتب (ميغيل دي سيرفانتس) للنص من عدمه. طبعا، للعامل الزمني قيمة في عصيان النص المتعالي عن مؤلفه. اليوم، كل الناس يعرفون دون كيخوتي. الأطفال أنفسهم يستمتعون بالمسلسلات الكارتونية المأخوذة من كتاب سيرفانتس، أو الأفلام، ولكن لو تسأل أي واحد منهم عمن يقف وراء هذه القصص، قد تواجه بكلمتي: لا أعرف. يفرض السؤال الآتي نفسه علينا بقوة: هل سقف نجاح الكتاب هو قتل مؤلفه؟ على الأقل هذا ما يحدث أمام أعيننا اليوم مع الكثير من القصص والروايات. رواية كارمن (بروسبير ميريمي. كتبها في ١٨٤٥ ونشرت في ١٨٤٧) محت كليا شخصية الكاتب ميريمي. فقد انفصلت شخصية كارمن، الشخصية النسوية المتمردة، القوية، العاشقة للحياة، العنيفة الناعمة، عن كاتبها وأصبحت رمزا حيا للمرأة المتمردة. بل دخلت في الطقس الاجتماعي الإنساني المقاوم للابتذال وتكرار الحياة. حتى أن كاتبها لا يُذكر إلا نادرا والقليلون هم المعنيون به. كل عشاق كارمن من القراء يعرفون تفاصيل حياة كارمن وقصتها وماذا حدث لها في تحديها الكبير ضد الرجال: غارسيا زوجها، دون خوسي، والبيكادور وصراعها مع الذكورة المتخلفة، سجينة القوة والعنف، نزعتها الغجرية، حياتها الصعبة. الفنون الأخرى هي التي شكلت قاعدة لشيوعها ودفعت بها إلى تخطي كاتبها وتحقيق وجودها خارجه. السينما والموسيقى والمسرح أعطيا ترسخا كبيرا لشخصية كارمن وسط قطاع شعبي واسع. بل أنسنتها بعمق، وبعثت بها نحو الثقافة الإنسانية الأكثر شمولية واتساعا، وأخرجتها من دائرتها الغجرية الضيقة ومن عالمها الأندلسي. مما لا شك فيه، هو أن بروسبير ميريمي هو من منحها حق الوجود، هو مبدعها وكاتبها، هو الذي شكلها من خلال رحلاته إلى أندلسيا، جنوب إسبانيا، لكنها انتزعت منه حقها في الخلود والاستمرار الأبدي في الوجدان الإنساني العام. سلطة الشخصية طغت على كاتبها ومحته بشكل شبه نهائي. وهو ما حدث أيضا مع رواية ألكسيس زوربا القريبة منا تاريخيا (تأليف نيكوس كزانتزاكي. صدرت، 1946) قراء السبعين سنة الأخيرة التهموا النص الروائي وكأنه حقيقة. الحقيقة التي عبرت عن زمنهم وعن تعقداته. من منا لم ير زوربا مجسدا أمامه في شخصية شبيهة له، مثلما ارتسمت في أذهاننا، ويمكننا أن نتخيل كم من صورة ارتسمت في أذهان الملايين من القراء لزوربا؟ في كل صورة الكثير من ملامح النموذج، وهنا زوربا، لكن فيها أيضا الكثير منا. من منا لم يحلم يوما بأداء رقصة سيرتاكي على سواحل جزيرة كريت، وتمنى أن يكون معلمه فيها زوربا كما حدث لبازيل، الكاتب البريطاني الذي شغف بحرية زوربا في كل شيء؟ كيف استطاع ميكيس تيوتوراكسيس أن يجعل من رقصة سيرتاكي اليونانية، رقصة الحلم وكأنه كان يعرف ذلك الرجل الستيني الذي تعشقه النساء لنبله ورهافة عمقه، على الرغم من خشونته، ولا حلم له إلا الموت حرا، كما عاش حرا؟ كيف لبسه كليا الممثل القدير أنطوني كوين في فيلم “زوربا” الإغريقي (إخراج ميكايل كاكويانيس 1964)، لدرجة أصبح فيها من الصعب كليا الفصل بينهما؟ ومع ذلك، وعلى الرغم من ذلك كله، يظل كاتب النص نيكوس كزانتزاكي غائبا تحت سطوة زوربا. لنا في الثقافة العربية نموذج شبيه وقريب من هذين النصين، “ألف ليلة وليلة” (الذي كُتِب في القرن التاسع الميلادي، بحسب الباحثة الامريكية، نبيه ألبوت. هذه الفرضية تتقاطع مع ما أورده المسعودي وابن النديم في القرن العاشر، اللذان يقربان ألف ليلة وليلة، من ألف حكاية، الفارسية) وشخصيتيه شهرزاد وشهريار. الأنوثة في مواجهة غطرسة وطغيان الذكورة القاتلة. كلنا نعرف شهرزاد وشهريار ولا أحد منا منشغل بفكرة المؤلف الذي امحى. طبعا نتفق مع الفكرة التي تقول بأن نص ألف ليلة وليلة هو تركيبة إنسانية من الثقافات الشرقية العربية، الفارسية، الهندية المغولية وحتى العثمانية، وغيرها. لكن لابد من يد أو عقل متعال استطاع لملمة كل هذا الشتات من الليالي وصاغه إبداعيا ليصبح حكاية ذات معنى. ثم إن النص لم يبق في الدائرة الشرقية ولكنه سافر بعيدا نحو العالمية والإنسانية. أينما ولينا أوجهنا فثمة حضور لشهريار يأمر بكل جبروته، وشهرزاد ترد بكل عنفوان أنوثتها وذكائها. اسم الكاتب أمام سلطان النص، لم يعد ضرورة، حتى ولو أن الأدب الشعبي هو في جوهره تركيبة جماعية تاريخية لا تعتمد الفردية، الفرادة يفرضها النص بقوته. لا يتساءل قارئ ألف ليلة وليلة عن الكاتب المفترض، فالنص مكتف بذاته.
ويبدو أن تغييب الكاتب هو أجمل ما يمكن أن يحدث لنص من النصوص. لأن الكتاب وقتها لا يتحرر فقط من الكاتب، ولكن أيضا من الزمن الذي تمت فيه ولادته. يصبح النص لا زمنيا لأنه تعبير عميق عن الجوهري في الإنسان. الكاتب يموت وينتهي تحت التراب، بينما يواصل النص الإنساني تحليقه عاليا بلا حواجز، ولا ظرفيات خاصة. ما نسميه في عرفنا البسيط بالخلود، أي الاستمرار الأبدي. مكتباتنا العامة أو الخاصة تزخر بالذين خرجوا من هذه الدنيا وما زلنا مرتبطين بهم بقوة ولا نفكر، ونحن نقرؤهم، أنهم لم يعودوا هنا إلا من خلال أصدائهم اللغوية. أحياء أبدا. ينتفي المؤلف في الزمن ويبقى النص معيارا للأزمنة.
المصدر: صحيفة أثير
كلمات دلالية: ألف لیلة ولیلة على الرغم من الکثیر من
إقرأ أيضاً:
من وحي ” علم النفس “
من وحي ” #علم_النفس “
#محمد_طمليه
أراجع طبيبا نفسيا : ” أنا مريض يا دكتور ، فمنذ أيام لم أضحك ولم تفتر شفتاي عن ابتسامة ، ولم أقوى على المساهمة في لهو الرفاق .
أنا #مكتئب… #حزين…. عاجز عن الانهماك في #الحياة_العامة … وحيد معزول .. امشي في الطريق فأخال ان المارة يراقبون خطواتي العاثرة … أنا أكره الناس ، ويتجلى كرهي لهم في موقفي من المرأة ، اذ أنني لا أحب هذا النوع من الكائنات ، ما جدوى النساء ؟ لا أحد يدري !! أنا سوداوي … لا أرى طريقا سالكا ، كل الابواب موصدة انها مهزلة ، اعني ان الحياة مهزلة . وانا فيها وحيد … لشد ما أشعر أنني مبصوق ..منبوذ…متروك على قارعة الكآبة . عبثا تحاول امي تقديم المساعدة . أنا في الواقع لا أحبها …نعم … لا أحب امي .. انك لا تستطيع ،ان تحب شخصا لمجرد أن الصدفة شاءت أن يحملك في رحمه ! هراء … مشاعرنا هراء … وعشقنا هراء … وكل ما يمكن أن نقوم به هو هراء في هراء في هراء . لماذا اكون مضطرا للعيش مع الآخرين ؟ ان الآخرين ما ينفكون يوترون أعصابي ، ويدفعونني دفعا الى الجنون . هل أنا مجنون يا دكتور ؟.
مقالات ذات صلةويقول الطبيب : ” أنت لست مجنونا ، ولكنك لست شخصا سويا ايضا . لنقل أنك مريض ، واستطيع القول ، مبدئيا ان امكانية العلاج واردة ، اذا استطعنا أن نحدد معا ابرز العوامل التي اثرت في حياتك عندما كنت طفلا . فالداء والدواء مطموران في وعي تلك المرحلة واستخراجهما يتطلب عدة جلسات هادئة ” .
وأقاطع الدكتور : ” هل نقصد أن الطفولة هي منبع معاناتي حاليا ، علما بأنني في الأربعين “؟ .
يجيب الدكتور : ” ان الطفولة هي منبع المتاعب ، حتى لو بلغ المرء عمرا عتيا ، فما من سلوك شاذ ، الا وله ما يسوغه في مرحلة الطفولة ومن أجل ذلك ، نجد العالم المتمدن ، يولي أهمية خاصة لأطفاله.
وأهذي :” الطفولة اذن … تلك المرحلة “النظيفة” التي أحن اليها ، تلك المرحلة الطازجة ، التي ابادل رأسي بكيس من البصل ، لقاء أن يعود لي يوم واحد منها … وتعود لي براءتها … وعفويتها…
الطفولة … هل يمكن أن يكون دائي مطمورا فيها . في حين حسبت أنها مصدر وهجي ؟! وقلت :” اذا صح ما يقوله علم النفس ، وعلى ضوء واقع الاطفال في بلادنا … فنحن موشكون على كارثة..