الشيخ عوضين المغربي.. 10 محطات في سيرة عملاق التلاوة بالخمسينيات
تاريخ النشر: 11th, September 2023 GMT
تحل اليوم الاثنين، الحادي عشر من سبتمبر ذكرى رحيل الشيخ عوضين المغربي، والذي كان صاحبًا لصوت عذب، ووهبه الله مدرسة فريدة في تلاوة القرآن وتعليم آياته.
يعد الشيخ عوضين محمد المغربي من جيل دولة التلاوة القرآنية المصرية الكبار في النصف الأول من القرن الميلادي السابق، وهو صاحب مدرسة فريدة في تلاوة وتعليم القرآن الحكيم، عاصر جيل عمالقة التلاوة الشيخ محمد رفعت، عبد الفتاح الشعشاعي، محمد الصيفي، عبد العزيز حربي، أبو العينين شعيشع، مصطفي إسماعيل، عبد العزيز علي فرج، وعبد الباسط عبد الصمد.
وهو من جيل الإذاعة في فترة الخمسينيات، ولد بقرية الخليج التابعة لمركز المنصورة بمحافظة الدقهلية بمصر في الأول من أغسطس 1921م.
حفظ القرآن الكريم في كتاب القرية وهو في سن العاشرة علي يد كبار الشيوخ هناك، وبعد ذلك انتقل إلى مدينة طنطا التابعة لمحافظة الغربية ليتعلم القراءات الشبع والعشر علي يد الشيخ إبراهيم سلام والذي أعطاه الإجازة في هذه القراءات المختلفة، وبعد ذلك اشتهر في إحياء الليالي القرآنية في المأتم وفي المناسبات الدينية بالمساجد وغيرهما في محافظة الدقهلية وباقي محافظات الجمهورية .
التحق الشيخ عوضين المغربي بالإذاعة المصرية عام 1952 م مع عدد من مشايخ القرآن الكريم بمصر منهم الشيخ مصطفي إسماعيل ومحمود علي البنا ومحمود خليل الحصري وغيرهما، وسافر إلى العديد من الدول العربية والأجنبية مبعوثًا لوزارة الأوقاف، واختير مُحكمًا لمسابقات القرآن الكريم الدولية منها مسابقة القرآن بدولة ماليزية رفقة الشيخ محمود خليل الحصري.
وقد سجل الشيخ عوضين المغربي للإذاعة المصرية كثير من التلاوات القرآنية بصوته الشجي وذلك تحت إشراف رزق خليل حبة شيخ علوم القراءات بمصر، وله العديد من القراءات القرآنية بالمحطات الأجنبية منها إيران وماليزية والكويت وغيرهما.
وقد أحيى الشيخ المغربي كثير من الليالي القرآنية في جميع محافظات مصر وكان يلبي الدعوة ولا يتأخر، وكان واعظًا كبيرًا بجوار تلاوته للقرآن الكريم وأيضا أستاذًا في علم القراءات السبع والعشر .
وعن قراءات القرآن السبع والعشر، قال إن القرآن الكريم نزل علي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام على سبعة أحرف وقد أختلف العلماء في بيان الأحرف السبعة على أقوال كثيرة من أحسنها أنها الأوجه السبع التي تختلف بها القراءة باختلاف الأسماء من أفراد وتثنية وغيرهما وباختلاف تصريف الأفعال من ماضي ومضارع وأمر وباختلاف التقديم والتأخير وباختلاف الإبدال وباختلاف اللهجات.
وأضاف: «الصحابة رضي الله عنهم اختلف أخذهم في هذه الوجوه واشتهر منها ما يعرف بالقراءات السبع والقراءات العشر والقراءات الأربع عشر وأقواها هي السبع المنسوبة إلي الأئمة السبع وهم نافع وعاصم وحمزة وعبد الله بن عامر وعبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء وعلي الكسائي، وأن القراءات العشر تزيد على ما سبق قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف.
أما القراءات الأربع عشرة تزيد علي ماسبق قراءة الحسن البصري وابن محصن ويحي اليزيدي والشنبوذي، وأن القراءات السبع متواترة والمكملة للعشر وهي متواترة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم وقيل بغير تواترها ومابعد القراءات السبع والعشر فهو شاذ».
والشيخ عوضين المغربي كان رجلًا من أهل البر والتراحم والتواضع وكان موسوعة في الخلق القويم وكان قارئ علامة وقارئ يرضي بالقليل من الرزق، وكان يدعو الناس في وعظه وارشاده في المساجد إلى الحب والتعاون وترك الخصام وقضاء حوائج الناس فيها الثواب الكامل من الله يوم القيامة وفيها المحبة الكاملة بين الناس في الدنيا.
وفي حديثه عن أعلام دولة التلاوة، كشف الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء، عن النصيحة التي تسببت في تغيير جذري لحياة الشيخ عوضين المغربي، والتي سببها لقائه الشيخ مصطفى إسماعيل.
وقال علي جمعة، إن الشيخ مصطفى إسماعيل حينما كان يلزمه الشيخ عوضين المغربي وهو صغير وجد في صوته ما يجب أن يدعم بالأحكام والقراءات حتى يبرز في دولة التلاوة، فنصحه بالذهاب إلى طنطا حيث مدارس القراءات، فذهب وتعلم على يد الشيخ إبراهيم سلام المالكي.
وأضاف خلال حديثه عن الشيخ عوضين المغربي:"كان صاحب صوت عذب، وهبه الله مدرسة فريدة في تلاوة القرآن وتعليم آياته، وهو الغني بالله"، مشيراً إلى أن الشيخ عوضين محمد المغربي ولد في قرية الخليل بمدينة المنصورة محافظة الدقهلية 1921 ورحل عام 1992.
ولفت في حديثه عن الشيخ عوضين المغربي، أنه حفظ القرآن في الكتاب عند بلوغ 12 عامًا، وتعلق بكبار القراء محمد رفعت ومصطفى إسماعيل، مضيفاً ذات يوم ذهب الشيخ مصطفى إسماعيل للقراءة، فجلس بجواره والتزم تلاواته وأوراده وقال الله الله يا عم الشيخ، ففهمه الشيخ، وانبهر بصوته، وأجلسه بجواره وطبطب عليه ونصحه بالنزول إلى طنطا لتعلم القراءات والأحكام.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: القران الكريم القرآن الکریم
إقرأ أيضاً:
نسق الحِجاج القرآني
ثمة نسق حِجاجي مركزي للقرآن، استمدَّ منه -بدرجات متفاوتة- كافَّة المتكلمين والمجادلين عن الدين شتَّى أنساقهم في تقرير العقائد الإسلاميَّة. والقرآن يؤسس لنسقه الحجاجي هذا بلفظة: "قُل" المركزيَّة، التي وردت في التنزيل العزيز ما يَقرُب من 350 مرَّة.
وهو نسقٌ يختلفُ عن أنساق علم الكلام، وإن استمدَّت منه الأخيرة تقريراتها ومُسلَّماتها وأكثر أدواتها. إذ يُحاجج النسق القرآني عما أنزل به الكتاب، وما أرسل به حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بظاهر لفظه وباطن معناه، وتأويله "النهائي" الذي يُصاغ منه حكمه؛ وإن أُخفي بعضه عنا واختص به المولى نفسه. أما علم الكلام، فرغم أنه يستمد جمهرة تقريراته ومُسلّماته وأدواته من القرآن؛ فإنه لا يُحاجج عن هذا الظاهر المتعبَّد به فحسب، وإنما عن بعض ما "استُنبط" من باطن معناه اعتسافا في تأويلات شتى تُحمَل عليها آي الكتاب، ثم يروح يذود عن هذا التأول البشري، لا عن المحكَم الإلهي.
وحين تمد الآلة الكلامية الخط على امتداده؛ فإنها تعتسف استعمال المقررات القرآنية للاستدلال على أنساق عقديَّة نظرية، تمخَّضت عنها تأويلات المتكلم ووضع بنيانها في ذهنه -مستلهما القرآن كما يُفترض به!- وهذا إشكالي مُلبِس؛ لأن المتكلم يبني النسق أولا بناء على تصوره، ثم قد يعتسف استعمال النصوص في الاستدلال عليه. ولو أنه لم يَبنِ شيئا في الاعتقاد يَستَدِلُّ عليه، وقصر الاستدلال بالقرآن على ظاهر ما قرَّره التنزيل نفسه، وتوقَّف فيما وراء ذلك؛ لانتفى علم الكلام كله. فإن الحركة السوسيومعرفيَّة انطلاقا من قلب النسق القرآني نفسه وانسجاما مع أغراضه، شيء آخر غير الحركة الآتية من خارجه مُحاوِلَة الاستدلال على ما قد يجد المتكلم في نفسه بأثر السجال مع أنساق غيره من الإسلاميين أو من الكفار!
حين تمد الآلة الكلامية الخط على امتداده؛ فإنها تعتسف استعمال المقررات القرآنية للاستدلال على أنساق عقديَّة نظرية، تمخَّضت عنها تأويلات المتكلم ووضع بنيانها في ذهنه -مستلهما القرآن كما يُفترض به!- وهذا إشكالي مُلبِس؛ لأن المتكلم يبني النسق أولا بناء على تصوره، ثم قد يعتسف استعمال النصوص في الاستدلال عليه
وقد ولَّد نسق الحجاج القرآني هذا موقفين مُتناقضين بين علماء الإسلام على طول التاريخ؛ فإن منهم من اصطفَّ مؤيدا لعلم الكلام يحدوه إدراكه لهذا "العلم" بوصفه اطرادا لنسق الحجاج القرآني، الذي استُدِلَّ به على جواز استعمال الآلة والاطراد معها، ومنهم من نبذه وكرهه وأهدره لكثرة ما يعتري جمهرة أنساقه من تكلُّف ولغو، وخروج على نسق الحجاج القرآني وغاياته ومقاصده؛ وهؤلاء وجدوا في القرآن وحجَّته الكفاية لكل سائل.
إن أزمة علم الكلام -أو الحجاج البشري عموما- هي الإغراق السجالي في التأول، والتكلُّف فيه إثباتا ونفيا لتصورات عقدية نظرية غالبا لم يُصرح بها التنزيل العزيز -من قرآن وسنة- وإنما استنبطها المتكلم اعتسافا في كثيرٍ من الأحيان، ما أدى لبناء نماذج/ أنساق نظرية تخرج -بما تحويه من بقايا الأنساق التي تُخاصمها وتساجلها- خروجا شبه كامل على نسق الحجاج القرآني في كل ما اختطه هذا النسق الإلهي.
أنماط الحِجاج القرآني
وإذا كان مفتاح النسق الحجاجي القرآني وقلبه هو استفتاح القرآن الكريم كلامه بـ"قُل"، فإن مفتاح إدراك طبيعة استعمال هذه اللفظة هو تكرارها أربعا وأربعين مرَّة في سفر الحجاج الأعظم، والفصل العقدي الأشمل: سورة الأنعام الزكيَّة؛ أكثر السور التي وردت فيها هذه اللفظة المفتاحيَّة.
إذ يُلقن رب العزة حضرة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيها ما يُحاجج به قومه، أو ما يُحاجج به المؤمنين، أو حتى ما يُحاجج به نفسه الشريفة من ذكر ودعاء وإخبات في المواقف المختلفة، وهي الأنماط الثلاثة الأهم -على الإطلاق- للحجاج القرآني. ففي كل مرة تُتلى "قُل" في القرآن تقريرا لحقيقة كونيَّة/ عقديَّة أصيلة من الحقائق الكبرى التي تنزَّلت على الأنبياء كافَّة، وآمن بها المسلمون من لدن آدم -عليه السلام- كان في ذلك تقريرا لما يجب أن يُحاجج به حضرة النبي المجادلين والمنكرين من المشركين والكفار؛ تنبيها لهم إلى الحقائق الكبرى التي تُعيدهم إلى الله، وإقامة للحجة عليهم؛ ففيها تقرير إلهي أُمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبلاغه صراحة كما هو، لأن الكافر لا يسعه التفلُّت من هذه الحجة الداحضة إلا بهوى. فجُعِلَت هذه المواطن عصب تأسيس "الدرس الكلامي" في سجال الإسلام مع الكفار. ثم نجد الشطر الثاني أو النمط الثاني هو ما يحتج به حضرة من لا ينطق عن الهوى على من اتبعه؛ ترسيخا لاعتقاد المسلمين، أو تقريرا لتشريع إلهي أو ناموس كوني مُنبثق من الحقائق العقديَّة أو الكونية الكبرى، بيد أن نفوس أهل الصدر الأول قد تكون غافلة عن اتصالهما لقُرب عهد بالجاهليَّة؛ فينزل القرآن مُنبها وموجها ومصوبا أحيانا في تلقين مباشر لحضرة سيدنا النبي، يُمثِّل استفتاحا للدرس الكلامي "الإسلامي-الإسلامي".
أما النمط الثالث فهو ما يحتج به القرآن على بشريته صلى الله عليه وآله وسلم -بوصفه نبيّا يوحى إليه- تعليما له وتربية لأمته. ويغلِب أن يكون دعاء أو ابتهالا يُحاجج به حضرته ما بقي من بشريته في نفسه الشريفة المطهَّرة؛ ليستكمل سوقها إلى الله بالقول والعمل، باللسان والجنان، بالقلب وبالجوارح؛ وهي لعمري أعظم هذه التقريرات الإلهيَّة أثرا في نفس أهل الطريق العارفين، لكونها تنزَّلت ابتداء تثبيتا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهداية له إلى القول الواجب لزومه؛ إذ عنه تنبثق حركة الجوارح النبويَّة الشريفة المقرَّرة في علم الله تعالى.
بيد أن ذروة هذا النسق "الحجاجي" لم ترِد في سورة الأنعام، ولا حتى في غيرها من القرآن المكي؛ وإنما تنزَّلت نفيا لحوله وقوته صلى الله عليه وآله وسلم وتسليما منه -وممن آمن به- في سورة مدنيَّة "حركيَّة" من آخر ما تنزَّل من القرآن تمكينا لشرع الله في المجتمع المدني المسلم! ففي الآية رقم 154 من سورة آل عمران؛ يُقرر القرآن ردّا على من "يظنون بالله غير الحق ظنَّ الجاهلية" حين يتساءلون: "هل لنا من الأمر شيء؟"؛ فيُجيب القرآن نافيا مُطلق الحول والقوة: "قُل إنَّ الأمرَ كله لله"، وكان قبلها قد نفى عنه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في السورة نفسها (اﻵية رقم 128): "ليس لك من الأمر شيء". فكأن سلامة الاحتجاج بالنسق القرآني هي نفي الحول والقوة البشرية، وإسقاط التدبير عن النفس، بل ونفي كل شيء من "الإرادة" في هذا الباب؛ نفي كل شيء عدا شهود الله مُدبرا وشهوده رقيبا، قبل شهوده مالكا ليوم الدين. وهذا لعمري مَعلَمٌ عظيم.
مؤشرات ابتعاد النسق عن القرآن الكريم
فإذا كان نسق الحجاج القرآني يبلغ ذروته بنفي كل حول وقوة عن البشر، وأولهم حضرة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن الأنساق الكلامية البشريَّة تُجاهد عبثا لإثبات هذا الحول والطول بالمقدرة التأويلية، كأن هذه الأنساق تنفصل أحيانا وتكتسب حياة مستقلة لا تعود فيها مستمدة من القرآن ولا عاكسة لتصوراته. ولعل العُجمة أعظم أسباب تفاقُم هذه الحال، وأهم مؤشرات ابتعاد النسق عن القرآن. إذ كلما اطردت العجمة، وارتفع مدها؛ ابتعدت الأنساق الكلامية عن ظاهر القرآن وبيانه المعجز، ولجأت إلى التأول لسد ثغرات الاستعجام بكلام بشري ركيك خفيف؛ يعكس بوضوح تشوه الأنساق الكلامية. فكان ثاني أسباب ابتعاد النسق عن القرآن ومؤشراته هو الإفراط في التأول. كأن التوقُّف مسبَّة، رغم أنه تأدُّب مع رب العزة خصوصا في المواطن التي لم يُفصل فيها القرآن واكتفى بالإشارة.
كلما زاد الغلو -بازدياد التأول- المُبعِد عن القرآن قَصُر عُمر النسق وتسارعت مراحل حياته حتى كأنه يحث المسير إلى موت عنيف، وكلما خفَّ غلوه بلزومه القرآن في كل ما يُمكنه؛ طال عمَّر النسق فكأنه تبلور لحياة طويلة تطول ببركة التصاقه بالكتاب الكريم
ويبدو لنا أنه كلما ذابت الفروق الأعجمية بين القرآن والسياقات السوسيومعرفية، المولِّدة للأنساق الكلاميَّة؛ قلَّ التأول المعتسف، واقتربت الأنساق الكلامية من النسق القرآني، امتثالا لأمر ربنا سبحانه مُخاطبا حضرة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم (سورة الأنبياء؛ اﻵية رقم 45): "قل إنما أنذركم بالوحي"؛ بالوحي وحده دون سواه. وأمر حضرته بالتزام النسق القرآني وحده أمرٌ مُلزِمٌ لأمَّته -التي تتأسَّى به- من بعده. وربما صار بوسعنا أن نستقي من هذا أن النص الكلامي/ الفكري الذي يطول عمره، ويُنتفع به انتفاعا حقيقيّا؛ يُجسد نسقا اقترب به صاحبه من نسق الحجاج القرآني، وتحرك في ظلاله فلم يخرج عن مراده.
وهذا ينسحب أول ما ينسحب على المذاهب الكلامية الكُبرى؛ إذ كلما زاد الغلو -بازدياد التأول- المُبعِد عن القرآن قَصُر عُمر النسق وتسارعت مراحل حياته حتى كأنه يحث المسير إلى موت عنيف، وكلما خفَّ غلوه بلزومه القرآن في كل ما يُمكنه؛ طال عمَّر النسق فكأنه تبلور لحياة طويلة تطول ببركة التصاقه بالكتاب الكريم. والغلو لا يعني بالضرورة كثافة النسق؛ فقد يكون النسق كثيفا حافلا بالتصورات والمشاعر التي لا تخرج به من دائرة القرآن، وإنما الغالب أن يكون الغلو ذاته خفَّة وتسطيحا وتجويفا، ولو بدا للجاهل غير ذلك.
أما ثالث هذه المؤشرات فهي تحول النسق تدريجيّا إلى حجاب للقرآن، يحجب صاحبه ومُعتنقه والموغل فيه عن الوحي، بل قد تنتقل إليه "قداسة" القرآن وعصمته في روع الدراويش؛ فيتلهَّوا به عن الوحي ليُحجبوا عنه والعياذ بالله، "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا".
هذا النسق الكلامي المنبوذ -بمفارقته للقرآن- ربما يكون هو ما دفع سيد قطب رحمه الله تعالى إلى إهدار "مُنتج" علم الكلام ومدونته وثماره، رغم أنه هو نفسه كان -في الغالب الأعم!- تجسيدا للاعتقاد الأشعري، كما كان نتاجه تعبيرا عن نسقٍ كلامي جديد، وإن أفنى عمره مجاهدا في صياغته بالقرآن ووصله بغاياته. بل إنه تجاوز نفسه في ذلك أحيانا كثيرة، وسعى لالتزام نسق الحِجاج القرآني؛ فتجده يرص الآيات تباعا بأقل قدر من التعليق -ولا أقول التأويل- لأنها تُعبِّر بذاتها عن كل ما تُعبِّد به المسلم ولا حاجة له بمزيد بيان. بل إنه يتفانى في ذلك مؤكدا -في غير موطن- أنه يود لو رص الآيات دون تعليق مطلقا؛ إذ وجد فيها "مجردة" كل إجابة. بيد أنه يضطر إلى التعليق أحيانا خشية ألا يُبصر قارئه ما أبصره هو بنور الله تعالى؛ فيُقدِّم للقارئ بما يعرف من الكلام، آخذا بيده إلى ما قرره القرآن. وكم من مرة تجده قد توقَّف، وتود أنتَ لو يُطيل ويُسهب، لكنك تُدرك بعدها أنه كان يُجاهد نفسه للزوم حدود النسق القرآني؛ فيَمُنُّ الله سبحانه وتعالى عليه بالتوفيق، وهو بعباده أعلم.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry