يوسف علي الضباعي
عندما زارت الكاتبةُ الإسبانية، كلارا خانيس، اليمن وتعرّفت على مدنه، لم أكن قد ولدتُ بعد. وعندما كتبت روايتها “رَجُلُ عدن والمرأةُ ذات العيون الزرقاء”، كنتُ في سنوات طفولتي الأولى.
قرّرتُ زيارة “كلارا” للتعرّف عليها عن قربٍ بعد أن قرأتُ روايتها سالفة الذكر، إذ دفعني الفضول لمعرفة السبب الذي قادها إلى اليمن، وتساءلتُ: “أيُّ قدرٍ ذلك الذي ساقها إلى اليمن؟! وأيُّ ريحٍ حملتها نحوه؟!”.
ولماذا يا تُرى اتجهت كلارا نحو الجنوب (عكس التيار)، بينما نحن في مواسم الهجرة للشمال، شعوب بأكملها تهاجر بحثاً عن الأمان والعيش الكريم؟!
في طريقي إلى مدريد وضعتُ السماعة على أذني لأنأى بنفسي عن صَخَبِ الحافلة وصوت محرّكها، ولأطردَ عنها مَلَل الرحلة، وكان أن صادفتُ أغنية أم كلثوم “ودارت الأيام”!.
فعلاً، لقد دارت الأيامُ ومرّت الأعوامُ، فإذا بي التقي بكلارا خانيس في مدريد، وقد تجاوزت الثمانين بعامين، ولأفاجأ بأنّها كانت تستمع لأغاني أمُ كلثوم منذ طفولتها!
تتمتع كلارا التي ولدت في برشلونة عام 1940م بكاريزما قوية وحضورٍ طاغ، إضافة إلى ذاكرة عجيبة مكنتها من استحضار كثير من التفاصيل الدقيقة التي مرّت بها، حيثُ سردت لنا بدقة عالية كثيراً من الأحداث والمواقف في رحلة حياتها الغنية والزاخرة بالشعر والأدب والترجمة، وكأنَّ تلك الأحداث وقعت أمس وليس قبل سنوات عديدة.
مازالت كلارا تترجمُ وتقرأُ وتكتبُ وتواصلُ رسالتها الإنسانية النبيلة رغم تقدّمها في السن، وهذا يثبت أنَّ العُمُرَ مجرّدُ رقمٍ إذا ما قِيْسَ بهمة الإنسان العالية ونشاطه المتجدّد. ولعلَّ الكُتَّابَ والشعراءَ حالة استثنائية، فهم يواصلون العمل ومشوار الكتابة لآخر نَفَس، إذ إنّ حياتهم مُكرّسة للقلم، ولذلك لا بدَّ أن يسيلَ مِداده لآخر قطرة. وهكذا أخبرتنا كلارا أنّها الآن بصددئترجمة بعض الأعمال الأدبية لشاعر إيطالي.
إنّ الشعراء والكُتّاب لا بدَّ أن يقولوا شيئاً، حتى لو كان “لا شيء” كما ذكر أنيس منصور في أحد كتبه عن الشاعر كامل الشناوي، أنه لمّا مات وجدوا تحت رأسه ورقة بيضاء عنوانها “لا شيء”، وفي نهاية الصفحة إمضاؤه.
أثناء الحديث مدّتْ لي بورقة بيضاء مطبوعة عليها صورة بالأسود والأبيض، يَظهَرُ فيها رجلان. أشارتْ بيدها إلى أحدهما قائلة: “هذا هو قيس! هذا هو رَجُلُ عدن!”.
لم يكن من الصعب عليَّ التعرّف على أنّ هذين الرجلين من اليمن، وأنّ كليهما، أو أحدهما على الأقل، من الجنوب، فنحن اليمنيين، كما قال البردوني:
عرفتهُ يمنيٌ في تلفُّتهِ
خوفٌ وعيناهُ تاريخٌ من الرمدِ
اختارت كلارا اسم قيس لتكون هي ليلاه، لرمزية القصة في التراث العربي الذي حوّل قصة قيس بن الملوّح وليلى العامرية وحبّهما العذري، إلى أسطورة على كلّ لسان، ورواية خالدة تُعيدُ نفسها في كلّ زمان ومكان، ليُرمز لكلِّ عاشقين بقيسٍ وليلى إبهاماً. كما أنّ قربها من الثقافة العربية وتشبعها بالإرث الثقافي الأندلسي مكنها من تلمُّس روح وجمال الأدب العربي وفتح لها آفاقا واسعة ورحبة للغوص في عمق ذلك الجمال وسَبَرَ أغواره.
تنوّعت أعمال “كلارا” الأدبية بين الشعر والرواية والسيرة الذاتية والمقالة وتُرجمت أعمالها إلى عدد من اللغات، من بينها العربية حيث ترجم الدكتور طلعت شاهين ديوانها الشعري “حجر النار”، والذي يظهر فيه تأثرها بالفيلسوف والمتصوف ابن عربي وروايتها “رَجُلُ عدن والمرأة ذات العيون الزرقاء”، والتي يبدو واضحا فيها تأثرها بمجنون ليلى وشعره وقصة حبّه الخالدة لليلى.
تحتفظ “كلارا” بكثير من الذكريات عن اليمن، ومناطقه المختلفة وموسيقاه، وخصوصاً صنعاء وعدن، مشيرةً إلى تنوّع واختلاف مظاهر الحياة والعادات والتقاليد بينهما بشكل ملحوظ في بداية التسعينيات.
تلمّست من خلال حديثي مع كلارا أنّ السبب الذي قادها لليمن، هو حبّها للشرق الذي تعود علاقتها به إلى سنوات طفولتها الأولى، حيث كان المستعرب، إيمليو غارسيا، صديقاً لوالدها، وكان يحدّثها عن الشرق وما فيه من سحر وجمال، فغرس حديثه الأثير في داخلها بذرة الحُبِّ الأولى التي نمت مع الأيام وأثمرت شعراً ونثراً، فكان أن يمّمت وجهها ناحية الشرق وزارت بلدانه، وتعرّفت بذلك على تراثه العظيم وشخصياته الخالدة في الأدب والشعر كأبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري.
مازال الشرق متألقاً منذ الأزل بحضاراته وفلسفته وتاريخه وآدابه، وما زال أيضاً يستهوي الأدباء والشعراء من كلِّ حَدَبٍ وصَوْب، يستلهمون منه وينهلون من معينه الذي لا ينضب.
الشرق العجيب الذي يسكن في مخيلة ووجدان كلّ الشعراء والأدباء بما فيه من خيال وجمال وسحر وغموض، وهناك في إحدى مدن الشرق (عدن)، وجدت كلارا خانيس ضالتها حيثُ زرقة البحر تطابق زرقة عينيها، وحيثُ أمواج الساحل الذهبي الهادرة ورماله البيضاء تحيطها بذلك الحُبِّ وتحفُها به… هناك حيثُ كان الحُبُّ الذي تؤمن به وتبحث عنه!.
ليست رواية “رَجُلُ عدن والمرأة ذاتُ العيون الزرقاء” إلا صورة للتقريب بين الشرق والغرب، ومحاولة لفهم الآخر، واستكشاف عالمه بما فيه من غموض. وتبقى (من وجهة نظري) الأعمال الأدبية من رواية وشعر وموسيقى وترجمة في مقدمة الفنون الإنسانية التي تقرّب بين الشعوب وتوّحدها، هذا ما قاد كلارا خانيس إلى أن تقرأ الآخرين من خلال هذه الفنون وتعيد صياغة ما استشعرته من جمال في أدبهم إلى لغتها الإسبانية، شعراً ونثراً.
المصدر: العربي الجديد
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: الثقافة اليمن عدن
إقرأ أيضاً:
إسبانيا تطالب بفرض حظر دولي على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل
#سواليف
دعت #إسبانيا إلى فرض #حظر دولي على #تصدير #الأسلحة إلى #إسرائيل وذلك من أجل إنهاء #الحرب و #الكارثة الإنسانية في قطاع #غزة. وقال وزير خارجية إسبانيا، خوسيه مانويل ألباريس للصحافيين في بداية اجتماع وزاري لما يسمى بمجموعة مدريد في العاصمة الإسبانية اليوم الأحد “يجب أن نتفق جميعا على #حظر مشترك على #الأسلحة .. آخر شيء يحتاجه الشرق الأوسط الآن هو الأسلحة”.
ودعا #ألباريس أيضا إلى “تعليق فوري” لاتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل – وهو إجراء يجري النظر فيه حاليا في بروكسل- وفرض #عقوبات موجهة ضد الأفراد “الذين يعرقلون حل الدولتين”. وأكد ألباريس أنه يجب فرض عقوبات على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إذا لزم الأمر. وتابع وزير الخارجية الإسباني “لا شيء من الذي يجري مناقشته هنا موجه ضد دولة إسرائيل”، لكنه أوضح أيضا أن “الشعب الفلسطيني لديه نفس الحق في السلام والأمن مثل الشعب الإسرائيلي”. وأضاف أنه لا يوجد بديل لحل الدولتين لتحقيق سلام دائم وعادل.
وفي مقابلة مع إذاعة فرانس إنفو في وقت سابق، قال الوزير “ما هو البديل؟ قتل كل الفلسطينيين؟ طردهم… لا أعرف إلى أين… إلى القمر؟ (…) أم منحهم الجنسية الإسرائيلية؟”. وأضاف قائلا: “يجب أن ننظر في فرض عقوبات، في الأمد القصير جدا، لوقف هذه الحرب التي لا طائل منها – ولإيصال المساعدات الإنسانية على نطاق واسع، وبدون تدخل، وبشكل حيادي، حتى لا تقرر إسرائيل من يمكنه الحصول على الغذاء ومن لا يمكنه ذلك”.
مقالات ذات صلةوبعدما قرر الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع مراجعة اتفاق التعاون مع إسرائيل، قال ألباريس “يتعين علينا أن نفكر في فرض عقوبات، علينا أن نفعل كل شيء، وأن نأخذ كل شيء في الاعتبار لوقف هذه الحرب”.
وشاركت دول كانت إسرائيل تعتمد عليها منذ فترة طويلة باعتبارها حليفة، في الضغوط الدولية المتزايدة بعدما وسعت عملياتها العسكرية في غزة.
وأدى حظر دخول المساعدات على مدى شهرين إلى تفاقم نقص الغذاء والمياه والوقود والأدوية في القطاع الفلسطيني ما أثار مخاوف من حدوث مجاعة.
وتقول منظمات إغاثة إن كمية الإمدادات التي سمحت إسرائيل بدخولها في الأيام الأخيرة أقل بكثير من الحاجات.
وتستضيف مدريد الأحد 20 دولة أوروبية وعربية فضلا عن منظمات دولية للبحث في هذه القضية.
وأضاف الوزير الإسباني “الصمت في هذه اللحظات هو تواطؤ في هذه المجزرة… ولذلك نحن نجتمع”.
ويشارك في الاجتماع ممثلون لدول أوروبية من بينها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، بالإضافة إلى مبعوثين من مصر والأردن والسعودية وتركيا والمغرب وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي.
وتشارك في الاجتماع أيضا البرازيل والنرويج وآيسلندا وإيرلندا وسلوفينيا التي اعترفت بدولة فلسطين مثل إسبانيا.
ومن المقرر أن يدفع اجتماع الأحد باتجاه حلّ الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وشدد وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو في اتصال عبر الفيديو من باريس على ضرورة “إحياء أفق دبلوماسي لإيجاد حلّ سياسي للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني” على ما أفادت وزارة الخارجية الفرنسية.
“ضغوط منسقة”
ويلتقي جان نويل بارو وزيرة الدولة للشؤون الخارجية الفلسطينية فارسين أغاباكيان شاهين في يريفان الاثنين، على ما أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية.
وشدد خلال اجتماع مدريد “على ضرورة ممارسة ضغوط منسّقة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، وتدفق هائل للمساعدات الإنسانية، وإطلاق سراح الرهائن في غزة”.
كذلك، ذكّر بأهداف مؤتمر الأمم المتحدة المقرر عقده في حزيران/يونيو المقبل والذي ترأسه فرنسا والسعودية بشكل مشترك، أي التقدم باتجاه “الاعتراف بفلسطين”، والتطبيع مع إسرائيل، وإصلاحات السلطة الفلسطينية، فضلا عن “نزع سلاح حماس” وتوفير “ضمانات أمنية لإسرائيل”.
كان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز وهو من كبار منتقدي الحرب في غزة، قال الأسبوع الماضي إن بلاده ستقدم مشروع قرار في الأمم المتحدة يطلب من محكمة العدل الدولية الحكم على مدى “امتثال إسرائيل لالتزاماتها الدولية بشأن وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة”.
وأضاف أن إسبانيا ستدعم أيضا مشروع قرار آخر للأمم المتحدة يدعو إسرائيل إلى “إنهاء الحصار الإنساني” وضمان “الوصول الكامل وغير المقيد للمساعدات الإنسانية” إلى غزة.
اندلعت الحرب في غزة بعد هجوم مباغت شنته حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 على جنوب إسرائيل أسفر عن مقتل 1218 شخصا في إسرائيل، معظمهم من المدنيين، استنادا إلى الأرقام الرسمية.
كذلك خطف خلال الهجوم 251 أسيرا، لا يزال 57 منهم في غزة، بينهم 34 قالت إسرائيل إنهم قضوا.
ومنذ بدء الحرب، بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين في غزة 53939، غالبيتهم مدنيون، كما أصيب 122797. واستشهد 3785 فلسطينيا على الأقل، منذ استئناف قوات الاحتلال الإسرائيلي ضرباتها وعملياتها العسكرية في 18 آذار/مارس بعد هدنة هشة استمرت لشهرين، وفقا لأحدث حصيلة أوردتها الأحد وزارة الصحة التي تديرها حماس في غزة.