مهزلة العقل البشري (2- 3)
تاريخ النشر: 12th, September 2023 GMT
كتب ابن طفيل، الفيلسوف الأندلسي المعروف؛ قصة فلسفية بعنوان «حي بن يقظان». وكان يقصد من كتابة هذه القصة أن يشرح للقارئ طبيعة العقل البشري كما يفهمها هو. وقد تخيل ابن طفيل - في هذه القصة - إنسانًا وُلِدَ وترعرع في جزيرة منعزلة، حيث أرضعته ظبية، وظل ينمو في تلك الجزيرة وحيدًا حتى بلغ مبلغ الرجال.
يقول ابن طفيل: إن عقل هذا الإنسان ينمو بنمو بدنه؛ حتى تم نُضْجُه في تلك الجزيرة، واستطاع أن يفكر ويستنتج حتى توصل بتفكيره المجرد إلى كثير من الحقائق الكونية التي توصل إليها الفلاسفة الكبار من قبل.
يريد ابن طفيل بهذا أن يبيِّن للقارئ أن العقل البشري جهاز فطري، وإنه ينمو من تلقاء ذاته، فلا حاجة به إلى التعلم والتلقين. يبدو أن ابن طفيل قد اعتقد أن العقل البشري حين ينمو بعيدًا عن سخافات المجتمع وأباطيله يصبح أوضح رؤيةً وأصح فكرًا، ويصير قادرًا على معرفة الحقائق المجردة، ومن ثمَّ يحبذ ابن طفيل - على ما يبدو - ابتعاد المفكرين عن المجتمع والناس في تأملاتهم؛ إنه بعبارة أخرى، يدعو إلى اِنْزِوَاء المفكرين في أبراجهم العاجية.
ولا ريب أن هذا الرأي هو رأي الفلاسفة القدماء جميعًا، فابن طفيل إذن لم يأت بجديد. وليس له من الفضل في هذا إلا ابتداعه لقصة شيقة حيث عرض فيها الرأي القديم في قالب جديد. وقد لاقت قصة «حي ابن يقظان» هذه رواجًا عظيمًا بين المفكرين، وترجمت إلى كثير من اللغات، وحاول تقليدها والاقتباس منها فلاسفة وكُتَّاب من مذاهب شتى. (دكتور علي الوردي، مهزلة العقل البشري، دار كوفان، لندن، 1994، ص 132)
والغريب أن كثيرًا من كُتَّابنا ومفكرينا لا يزالون حتى يومنا هذا متأثرين بهذه القصة، وينظرون إليها بوصفها الكلمة الأخيرة في قضية العقل البشري. إنهم لا يزالون يؤمنون بأن العقل موهبة طبيعية تنمو من تلقاء ذاتها؛ سواءً أعاش الإنسان في مجتمع أم عاش منذ ولادته وحيدًا منعزلاً.
أما الأبحاث العلمية الحديثة فهى تكاد تجمع على خطأ هذا الرأي. حيث ثبت اليوم أن العقل البشري صنيعة من صنائع المجتمع، وهو لا ينمو أو ينضج إلا في ظل المجتمع والناس. فإذا وُلِدَ الإنسان وترعرع بين الحيوانات فإنه يصبح حيوانًا مثلها. وما قصة «حي بن يقظان» التي ابتدعها خيال ابن طفيل إلا مجرد وهم وخرافة؛ لا وجود لها إلا في عقل صاحبها ومن سار على دربه من السابقين واللاحقين، ولا وجود لها في عالمنا الذي نعيش فيه.
في عام 1920 وعلى مقربة من إحدى الغابات الهندية؛ عاش القرويون في خوف وفزع شديدين بسبب سماعهم بعض الأصوات الغريبة الصادرة عن الغابة، وحين أبلغوا السلطات المعنية، حضرت قوة من الأمن راقبت مصدر الصوت، وعُرِفَ أن تلك الأصوات صادرة عن وكر للذئاب كان موجودًا على أطراف الغابة، كما لاحظ أفراد الأمن وجود حيوان غريب بين الذئاب؛ هو ليس ذئبًا وإن كان يشبه الذئاب في حركاته وسكناته، يأكل الحيوانات الحية، ويسير على أربع، ويعدو كالذئاب، ويحرك فكيه على نحو مخيف. وبعد اصطياد هذا الكائن الغريب اتضح أنها فتاة في الرابعة عشر يبدو أن أحد والديها ألقى بها - وهى طفلة رضيعة - على أطراف الغابة، ولحسن الحظ لم تلتهمها الذئاب، وعاشت معهم وتطبعت بطباعهم. وقد أطلق الباحثون على هذه الحالات التي عاشت بين الحيوانات وسلكت مسلكهم اسم «الفتاة الذئبة» wolf girl. وقد توصل الباحثون إلى حقائق مدهشة في شأن هذه الطفلة، إذ وجدوا أنها تسلك سلوك الذئاب، فهى تعوي مثلهم وتأكل مما يأكلون وتمشي على أربع. وتنتابها أحيانًا نوبات من التوحش الشديد. فتهاجم البشر وقد تعضهم أو تعض نفسها. وحين نقلوها إلى إحدى المصحات النفسية. حاولت أكثر من مرة مهاجمة الشرطة الذين كانوا يحرسونها.
وقد رُويِت قصص كثيرة مشابهة لهذه القصة. وكلها تشير إلى خطأ ابن طفيل. إذ من الواضح أن قصة هذه الطفلة الهندية، التي رويناها في السطور السابقة تشابه قصة صاحبنا «حي بن يقظان» التي ابتدعها خيال ابن طفيل. ولو كان ابن طفيل منصفًا وفكر بطريقة صحيحة لقال إن «حي بن يقظان» الذي عاش بين الذئاب؛ سيصبح – بالضرورة – ذئبًا، ومن المستحيل عليه أن يكون فيلسوفًا كما أراد له ابن طفيل. إن عقل الإنسان لا ينمو إلا في حدود الإطار الذي يصنعه له المجتمع. ومن الظلم أن نطالب إنسانًا عاش بين البدائيين مثلاً أن ينتج لنا فلسفة متعالية كفلسفة كانط أو رياضيات بحتة كرياضيات أينشتين. (مهزلة العقل البشري، ص 133)
إن المفكرين القدماء ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم حين اعتقدوا بأن العقل البشري مرآة الحقيقة. فهم قد تلقوا ما لديهم من أفكار ومعتقدات من خلال قراءتهم كتب توارثوها عن أسلافهم. وأخذوا يحفظون ما قاله السلف فيها ويجترونه ثم يحشون عقول تلاميذهم به. وهم بذلك يضعون عقولهم وعقول تلاميذهم في قوالب جامدة موروثة عن السابقين؛ وهكذا يتحجر الفكر. فإذا جاءهم أحد من بعد ذلك برأي جديد يخالف ما اعتادوا عليه، اندهشوا منه ونسبوا إليه السفه أو المكابرة.
إنهم يعتقدون بأن ما اعتادوا عليه من آراء وما ألفوه من فكر هو أمر لا يقبل الجدل، فهو خالد في نظرهم وثابت. وهو الحق المبين الذي لا يأتيه الباطل أبدًا، ذلك لأنه قد تم التوصل إليه عن طريق العقل المجرد، وآمن به الناس عبر الأجيال؛ فلا مجال للشك فيه.
إن العقل يفكر استنادًا إلى بعض المقاييس والمعلومات السابقة. ومن الصعب أن يفكر العقل على أساس غير مألوف. فأنت إذا أردت أن تشرح لغيرك أمرًا يجهله؛ كان لزامًا عليك قبل كل شئ أن تأتي له بأمثلة من الأمور التي عايشها من قبل واعتاد عليها. وليس هذا النهج في التفكير مقتصرًا على الرجل العادي وحده؛ بل إن كثيرًا من المفكرين مهما علت مكانتهم الفكرية، لا يستطيعون أن يفهموا شيئًا جديدًا إلا على أساس ما سبق فهمه. ولهذا السبب كان العقل البشري عاجزًا عن إدراك حقائق الكون الكبرى، فهو محدود في تفكيره بحدود الأشياء المألوفة لديه في عالمه الضيق هذا. ومن العسير إن لم يكن من المستحيل، أن يفهم العقل عالمًا آخر مؤلفًا من مفاهيم تختلف عن مفاهيمنا الراهنة اختلافًا أساسيًا. (مهزلة العقل البشري، ص 135)
من مزايا هذا العصر - الذي نعيش الآن - إن الحقيقة المطلقة فقدت قيمتها، وصارت النسبية هى التي لها السيادة. فما هو حق في نظرك قد يكون باطلاً في نظر غيرك. وما كان جميلاً أمس قد ينقلب قبيحًا اليوم. إن ما نصفه اليوم بأنه غير معقول، قد يصبح معقولاً غدًا. لقد علمتنا التجارب أن كل شئ مهما بدا في نظرنا سخيفًا قد يكون صحيحًا في يوم من الأيام عندما تتبدل المقاييس الفكرية التي اعتاد الناس عليها في تفكيرهم.
ويؤسفنا أن نقول: إن ابن طفيل كان مغرورًا. فقد كان مؤمنًا بصحة تلك المقولات المنطقية التي اعتاد عليها في محيطه الفكري، وظن أنها ستبقى صحيحة إلى الأبد.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: هذه القصة
إقرأ أيضاً:
رحلة العقل والروح.. المفكر الذي تحدى الظنون واكتشف الإسلام (2 من 3)
في هذا الجزء الثاني من سيرة المفكر الإسلامي عبد الكريم جرمانوس، التي تنشرها صحيفة "عربي21" للكاتب والباحث المصري جمال سلطان بالتزامن مع نشرها على صفحته الرسمية على فيسبوك، نتابع رحلة رجلٍ استُبعد من الأزهر ظلماً، متهمًا بالجاسوسية، لكنه صمد أمام محنته، واستثمر علاقاته الشخصية والتربوية لتعميق دراسته وإثراء تجربته الفكرية والدينية.
يعكس النص تجربة جرمانوس الفريدة في مصر والحجاز، حيث الجمع بين التحصيل العلمي الصارم في اللغة العربية وآدابها، وبين التأمل الروحي والتفاعل الإنساني العميق، سواء مع رفقاء الدراسة الفقراء أو مع مجتمعات المسلمين في القاهرة والمدينة ومكة. كما يسلط الضوء على إيمانه العميق بالحضارة الإسلامية وحماية اللغة العربية، ورفضه لمحاولات التغريب أو التخفيف من قيم الأمة.
في هذا الجزء، يستعرض سلطان طرائف ومواقف شخصية تكشف عن أخلاق جرمانوس، من مروءته مع زملائه في الدراسة إلى تقديره للمعاني الروحية في الحج، وهو يمزج بين الرواية التاريخية، والسيرة الذاتية، والتأمل الفكري، ليقدم صورة متكاملة عن رجلٍ جمع بين العلم، والتدين، والإنسانية، والوفاء للتراث الحضاري.
طرائف لها معنى
بعد إبعاده من الأزهر على خلفية اتهامه ـ ظلمًا ـ بالجاسوسية، اتجه "عبد الكريم جرمانوس" إلى الاعتماد على علاقاته الشخصية لاستكمال دراسة اللغة العربية وآدابها، فتواصل مع عدد من العلماء للدراسة على أيديهم خارج الأزهر مثل الشيخ محمد عبد اللطيف دراز، والشيخ علي الزنكلوني، الذين أحاطوه برعايتهم، وأخلصوا له الدعم وتسهيل الدراسة.
ومن طرائف ما يحكيه "جرمانوس" أن نسخة الكتاب الذي كان يدرس منه كانت رديئة وقديمة وحروفها باهتة والقراءة فيها صعبة، وكان له زميل أزهري مصري فقير يدرس معه ويشاركه منهج التعليم ومقرراته، ففوجئ بهذا الطالب الفقير يؤثره على نفسه، ويعطيه نسخته من الكتاب وكانت نسخة جيدة وجديدة وواضحة للقراءة وأخذ النسخة القديمة باعتبار أنه عربي الأصل واللغة فيسهل عليه القراءة فيها، فحمل له "جرمانوس" هذا الجميل، وكان قد لاحظ أن هذا الأزهري الفقير ينتعل حذاء مهترئا قديما مثيرا لشفقة من يراه، فاستغلها فرصة أثناء خروجهم من الصلاة في أحد المساجد ومنحه حذاءه الفاخر الجديد وأخذ الحذاء المهترئ فانتعله، فرفض صاحبه المصري ذلك، وتبادلوا الجدل والعزيمة والرفض والقبول، فأراد أن يفرض عليه الأمر الواقع فلبس النعل المهترئ وانطلق مسرعا بعيدا عن المسجد تاركا صاحبه المصري مرغما على انتعال الحذاء الجديد الفاخر، فلما ركب الترام رآه الناس فاستغربوا من هذا "الأوربي" الذي ينتعل حذاء قديما مهترئا، وراحوا يتغامزون، وكان معه في الترام الأديب إبراهيم عبد القادر المازني، فسأله: ماذا بك يا أستاذ عبد الكريم؟ فراح يقص عليه الحكاية بلغته العربية الفصحى التي يلتزم بها، وسمعها الركاب في الترام فراحوا يكبرون وأقبلوا عليه مثنين على فعله ومروءته.
ما إن غشيت غرفتي بمكة، واستلقيت على البساط حتى أغمضت عيني، واستولى عليّ النعاس فتخيلت الرسول الكريم وقد بدا أمامي في شكل نوراني، وكأنه ينشر كلمة الله فيضيء بها العالم داعياً إلى الحق، ورأيت الخلفاء الأربعة يتوسطون حلقات من الناس، ويسودون العالم بالحكمة والمحبة، لا بالعنف والشدة، ثم تخيلت هارون الرشيد، وهو يجول أثناء الليل في شوارع بغداد، ويجوس خلال أزقتها، فيكافئ الأتقياء، وينزل العقوبة بالمجرمين، وانبسطت أمامي بلاد الأندلس الزاهرة، وقد سادها حكم العرب فنشروا بين ربوعها العلم والحكمة والفقه والفلك، حتى أصبحت هذه العلوم كشجرة مباركة فرعها في السماء ؛ ولا يظن أحد أن ما شاهدته كان من قبيل الرؤيا أو أضغاث الأحلام، بل هي أشباح خالدة تطوف بذهن كل مسلم صادق الإيمان" .كانت متعة عبد الكريم جرمانوس أثناء إقامته في مصر تتلخص في تجواله ليلا في القاهرة المملوكية، في الأزهر وحي الحسين، يقول صديقه ورفيق دربه محمود تيمور: "كانت أوقاته المفضلة هي التي يؤم فيها بيوت الله ، يعد ذلك أزكى رياضة نفسية له، يجول في حي الحسين ليلا، يستروح منه الصفاء والهدوء، ويتنسم فيه روح الإيمان، ويظل في تطوافه ملتحفاً بعباءته العربية الفضفاضة، حتى إذا تعالى صوت المؤذن للفجر، داعياً للصلاة في السحر، وقف متخشعاً يترشف بأذن عاشق ولهان ذلك الأذان الحلو النغم، فيسري في جسده سريان رحيق علوي من روضات الجنان".
كان "جرمانوس" يلاحظ مشاهد التخلف الذي يعيش فيه المجتمع المصري، ويشعر بالأسى والحزن من ذلك، لكنه كان يرى أن هذا التخلف الذي يعيشه العالم الإسلامي سببه المباشر والأهم هو الاستعمار الغربي، يقول : "أما الواقع المؤلم لبلاد الإسلام اليوم فمصدره هو الحضارة الأوروبية وحدها، لأنها حاربت هذه الشعوب الآمنة بالحديد والنار مستعمرة ربوعها، ومدعية أنها تحمل رسالة التقدم والازدهار".
وقد عتب "عبد الكريم جرمانوس" على المصريين في ذلك الوقت ميلهم إلى التغريب، وتقليد الغرب في الثياب والمأكل والمشرب وكثير من الآداب والسلوكيات، ودعاهم إلى الاعتصام بقيمهم وتقاليدهم التي تشكل شخصيتهم الإسلامية المميزة، كما رفض الدعوات التي أطلقها بعض المفكرين المصريين في ذلك الوقت، من المهزومين حضاريا، لاستخدام اللهجة العامية في الكتابة بدل العربية الفصحى بدعوى تسهيل اللغة، ندد بتلك الدعوة بشدة، واعتبرها هزيمة حضارية، وامتدادا لخبث المستشرقين.
يقول لصديقه محمود تيمور: "إننا لا نلوم أعداء العربية إذا حاربوها استجابة إلى أضغانهم الحاقدة، ولكننا نلوم العرب أنفسهم لأنهم يهجرونها في أحاديثهم العامة والخاصة"، وناقش أدلة أنصار هذه الدعوى مناقشة علمية وتاريخية ولغوية مبهرة، وحكى أن أديبا عراقيا أهداه رواية كتب حواراتها باللهجة العامية، فاستعصى عليه فهمها، فاستدعى أديبا مصريا ليشرحها فاستعصى على الأديب المصري فهمها، فاستعان بالسفير العراقي وكان من منطقة عراقية مختلفة عن تلك التي يقطنها المؤلف فاستعصى عليه فهم كثير منها، وهو يحكي تلك الواقعة ليؤكد على أن الهدف الخبيث من الدعوة لاستبدال العامية بالفصحى هو تمزيق هذه الأمة بحيث لا يفهم بعضهم لغة بعض، كما يستعصي عليهم بعد ذلك قراءة القرآن وفهم معانيه، ومع الأسف كان يقود تلك الدعوة إلى استخدام العامية أسماء كبيرة ومؤثرة منها أحمد لطفي السيد الذي كان يرأس الجامعة المصرية، وعبد العزيز باشا فهمي وسلامة موسى وآخرون، والمدهش أنه أثر كثيرا في صديقه الأديب الكبير محمود تيمور، الذي كان يكتب حوارات قصصه أحيانا باللهجة العامية، لدرجة أنه انصرف تماما بعد ذلك عن استخدام العامية في رواياته.
رغب عبد الكريم في تحقيق حلمه بالحج إلى بيت الله الحرام، فركب السفينة إلى جدة ومنها إلى مكة المكرمة ثم المدينة ثم ذهب إلى الرياض وسط نجد بعد انتهاء الحج، وهو يحكي وقائع تلك الرحلة بتبتل شديد في كتابه "الله أكبر"، بمشاعر فياضة، ورقة متناهية، وتفاصيل دقيقة عن الأماكن ومن صحبهم من حجاج من أجناس مختلفة، جمعهم الشوق إلى حج البيت الحرام وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، تحدث حتى عن الناقة التي ركبها أثناء تجواله، حيث لم تكن السيارات قد انتشرت على نطاق واسع، وسجل مشاعره في حنوه وشفقته على الناقة ونظرات الشكر التي رآها في نظرتها إليه، وكيف نظرت إليه نظرة عتاب عندما أعادها إلى البدوي الذي تعامل مع الناقة بخشونة وقسوة، وكتب تأملات تفيض حبا لحضارة الإسلام وتاريخه المهيب بصورة مدهشة، فمن ذلك ما كتبه عندما حط رحاله في "أم القرى" مكة المكرمة.
يقول: "وما إن غشيت غرفتي بمكة، واستلقيت على البساط حتى أغمضت عيني، واستولى عليّ النعاس فتخيلت الرسول الكريم وقد بدا أمامي في شكل نوراني، وكأنه ينشر كلمة الله فيضيء بها العالم داعياً إلى الحق، ورأيت الخلفاء الأربعة يتوسطون حلقات من الناس، ويسودون العالم بالحكمة والمحبة، لا بالعنف والشدة، ثم تخيلت هارون الرشيد، وهو يجول أثناء الليل في شوارع بغداد، ويجوس خلال أزقتها، فيكافئ الأتقياء، وينزل العقوبة بالمجرمين، وانبسطت أمامي بلاد الأندلس الزاهرة، وقد سادها حكم العرب فنشروا بين ربوعها العلم والحكمة والفقه والفلك، حتى أصبحت هذه العلوم كشجرة مباركة فرعها في السماء ؛ ولا يظن أحد أن ما شاهدته كان من قبيل الرؤيا أو أضغاث الأحلام، بل هي أشباح خالدة تطوف بذهن كل مسلم صادق الإيمان" .
والمؤسف أن نسخ هذا الكتاب المهم الذي سجل فيه قصة إسلامه وحجه وبعض مشاهده في مصر، شبه مختفية اليوم، وأتمنى أن تقوم جهة رسمية في مصر أو السعودية بإعادة طبعه، ونشره بالعربية والإنجليزية، لأنه ذو أهمية في سيرة هذا الرجل العظيم، كما أن هذا الكتاب ترجم إلى لغات أوربية كثيرة، وكان له أصداء كبيرة هناك وقتها.
الشيء الوحيد الذي كان ينغص عليه عيشه، ويؤلمه، هو أن زوجته التي يحبها ويحترمها كثيرا، ما زالت باقية على ديانتها الأولى، المسيحية، وكان يبتهل إلى الله دائما أن يهديها إلى الإسلام، حتى وقعت له المفاجأة التي غمرته بالسعادة.
ونستكمل الحديث في الحلقة المقبلة بإذن الله..
إقرأ أيضا: رحلة العقل والروح.. المفكر الذي تحدى الظنون واكتشف الإسلام (1 من 3)