إنني، استمرارا لما أوردته في الحلقة السابقة، أُقارِبُ أطروحة مَلْفِي حول النَّظرة السينمائيَّة المُحَدِّقة من خلال المنظور الذي يرتئيه كوهِن؛ أي أن موضوع تلك النَّظرة ليس جسد الأنثى بصورةٍ حصريَّة بل (أيضا) جسد الذَّكر بصورة مساوية في حالات سينمائيَّة مُعَيَّنة. تحتفي تلك النظرة، إذن، وهي مشحونة أيروسيَّاً، بالجسد الذَّكر في فيلم «لورَنس العَرَب»؛ فكما في فيلم «نُزهةٌ ووجبة» فإن «الجسد الذَّكر» في «لورَنس العَرَب» هو «الصُّورة الرَّئيسة للاختلاف الجنسي في الفيلم» (19).

بهذا يمثِّل بطل «لورَنس العَرَب» الجسد الذَّكر بوصفه موضِع الهويَّة والرَّغبة المُلتبِستين والديالكتيكيَّتين. ويتحاشى الفيلم، بذكاء شديد، في جُلِّه، تثبيت وترسيخ ثنائيَّات ضديَّة صارمة غير قابلة للتَّفاوض والزَّحزحة في تمثيلاته. ولكن كما هو الحال مع بطل فيلم «نُزهةٌ ووجبة» فإن فيلم «لورَنس العَرَب» «يُعرِّض ذكوريَّة «لورَنس» للخطر، ولكن فقط من أجل أن يستردَّها في النهاية» (20). ولذلك فإن فيلم «لورَنس العَرَب»، وبصورة أساس، وعلى الرغم من كل إضفاء الالتباسات المعقَّدة والشَّائقة بشكل لا يمكن نكرانه، يستسلم في نهاية المطاف لما تُسميِّه شُحْطْ «نظرة مُحَدِّقة غربيَّةٌ مُجَنْدَرَة». وهكذا فإني أرى أن تحليل كوهِن لفيلم «نُزهةٌ ووجبة» بوصفه امتدادا لمحاججة مَلْفِي مفيد في فهم أن فيلم «لورَنس العَرَب» يروق لذواتٍ مُجَنْدَرَة بصورٍ متساوية.

ويقع في قلب انجذاب الذَّوات المُجَنْدَرَة إلى الفيلم اختيار بيتر أوتول Peter O Toole لتجسيد دور لورَنس العرب. هنا، تعلِّق لِسْلِي توبمَن Leslie Taubman على هذا الاختيار المثير للجدل قائلة إن «المُمثِّل الوسيم، ذا العينين الزَّرقاوين، الذي يبلغ طوله ستَّة أقدام لا يمتُّ بِصِلَةٍ لِتي إي لورَنس ذي الطول البالغ خمسة أقدام، والذي مظهره يشبه الفأر نِسبِيَّا» (21). أما إدوَرد سعيد فإنه لا يأتي بزور أو بهتان حين يقول إن «لورَنس كان في الواقع قصيراً إلى حد، وكان يشبه ستان لوريل Stan Laurel إلى حدٍّ كبير» (22). لكن أوتول لم يكن الممثِّل «الوسيم» الوحيد في الفيلم؛ فهناك عمر الشّريف (واسمه الرَّسمي في شهادة الميلاد ميشيل يوسف ديمتري شلهوب) الذي يقوم بدور الشَّريف علي، والذي كان في وقت صناعة وعرض الفيلم «ممثِّلا جديدا، أسمرَ ووسيما... جَعَلَ الفتيات من الجمهور يتأوَّهن» (23). هذا «التَّأوه» الذي قد يكون موسيقى نشازا في أُذني مَلْفِي هو، في الحقيقة، رنين مُطْرِبٌ في سمع كوهِن؛ فهو مثال على الكيفيَّة التي يُخَلِّق بها «لورَنس العَرَب» مشاهديه ضمن معطيات الجَنْدَر. بكلمات أخرى فإن الأجساد الذَّكريَّة هنا هي «صورٌ موضوعةٌ للنَّظر» بغرض التَّأثير الأيروسي.

هذا التَّخليق الذي يحدث للنَّظرة المُحَدِّقة مُكَبْسَلٌ (من «الكبسولة»)، على سبيل المثال، في لقطةٍ أفقيَّة متحرِّكة (dolly shot) بطيئة في المشهد الذي يحدث في خيمة عودة أبو تايه الكبيرة قبيل نهاية النِّصف الأول من الفيلم (24). تستكشف الكاميرا هنا وجوه نساء عربيَّات يضعن أغطية على رؤوسهن. إن منظور الكاميرا هنا هو منظور الجمهور النَّاظر، إذ تكشف الكاميرا أن النِّساء ينظرن إلى ماجد، ولورَنس، والشَّريف علي الذين يظهرون خلال المشهد في لقطات مقربَّة (CU)، ولقطة ثنائيَّة (tow-shot)، ولقطة ثلاثيَّة (three-shot). ومن الواضح أن المشهد يعرض أولئك الرِّجال/ الذُّكور بصفتهم موضوعا للنَّظرة المُحَدِّقة الأنثويَّة. هنا، كما خلال كل السَّرد الفيلمي، يلعب لورنس والشَّريف علي دورا مركزيَّا في تخليق تلك النَّظرة. وليس من الصُّعوبة بمكان العثور على مثال آخر في المشهد الدرامي المثير الذي يحدث فيه الهجوم على العَقَبَة، وهذا المشهد بالذَّات يبرهن على مواصلة الفيلم المحمومةِ التَّلاعبَ بذات (subject) وموضوع (object) النَّظرة المُحَدِّقة. يتضمن المشهد لقطة ثابتة (static shot) تُرِينا ما بداخل خيمة في الحامية التُّركيَّة، حيث تُرينا مقدِّمة الكادر صورة فوتوغرافيَّة مؤطَّرة باللونين الأبيض والأسود لراقصة شرقيَّة (وهذه من النَّوافل الاستشراقيَّة المُكَلْشَهَة في الفيلم). تلك الصُّورة معلَّقة من عمود الخيمة، بينما نرى من خلال مدخل الخيمة الرِّجال المُسَلَّحين المهاجِمين بصورةٍ اكتساحيَّة غامرة، ونسمع دمدمتهم الحربيَّة التي تحدث في منتصف الكادر. وإذ يتواصل الهجوم، والحامية التُّركيَّة تتهاوى تحت وطأته الكثيفة والسَّاحقة، فإننا نرى لقطة كبيرة (long shot) لثلاث نساء عربيَّات وهنَّ يهرعن إلى تلٍّ يطلُّ على ساحة المعركة لمشاهدة القتال الضَّاري والالتحام المباشر. إن تضمين الأنثى بوصفها صورة صامتة مُحنَّطَة (في الصُّورة الفوتوغرافيَّة باللونين لأبيض والأسود للرَّاقصة الشَّرقيَّة) في الَّلقطة الأولى، وبوصفها جسدا من لحم وشحم، حيَّا ومتحرِّكا في اللقطة الثَّانية، يوفِّر لنا تباينا جديرا بالاهتمام؛ ففي اللقطة الأولى تُقْتَحَم الأنثى بوصفها موضوعا للرَّغبة مع بقيَّة ما يقتحمه الفعل الحربي الغامر.

-----------------------------------------------

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:

(19): نفس المصدر السَّابق، نفس الصَّفحة.

(20): نفس المصدر السَّابق، 45.

(21): Leslie Taubman, Lawrence of Arabia, in Magill s Survey of Cinema: English Language Films, first series, vol. 2, ed., Frank N. Magill (Englewood Cliffs, N. J.: Salem, 1980), 961.

(22): إدوَارد سعيد، «لورَنس لا يزجي للعرب أي جميل»، في: عبدالله حبيب، «مساءلات سينمائيَّة»، 246.

(23): Robert Musel, Lawrence A Brilliant Film Epic Sets New Mark in Cinematic Art, Hollywood Reporter, December 17, 1962, 3.

(24): أدَّى الممثِّل المكسيكي -- الأمريكي آنْثِني كوِنْ دور «عودة أبو طائي» Auda Abu) Tayi، في النَّقْحَرَة الَّلاتينيَّة للاسم). و»عودة أبو طائي» السِّينمائي يمثِّل شخصيَّة تاريخيَّة، هي زعيم قبلي من عشيرة الحويطات ممن قاموا بأدوار رئيسة في أحداث الثَّورة العربيَّة ضد الأتراك. ولكن الاسم الصَّحيح لتلك الشخصيَّة هو، في الحقيقة، «عودة أبو تايه» Auda Abu Tayeh) في نَقْحَرَتِهِ الَّلاتينيَّة). هكذا تُدعى الشخصيَّة باسم مغلوط في الفيلم، كما يُدعى الشَّخص بذات الاسم المغلوط في العديد من المصادر البيوغرافيَّة والتاريخيَّة الأجنبيَّة، وذلك ببساطة لأن هذا هو الاسم «المُعتَمَد» في المصدر «الموثوق» بخصوص التَّاريخ العربي المعاصر؛ أي كتاب لورَنس «أعمدة الحكمة السَّبعة»، وإن كانت الحقيقة هي أن «طائي» و «تايه» تسميتان قبليتَّان مختلفتان. إننا هنا بصدد مثال واضح على القبائليَّة السَّائبة، والتأريخ المُزَوَّر، والسينما الاستشراقيَّة، واللامبالاة إزاء هويَّة «الآخر». وإلى هذا فقد اطَّلعت على أكثر من ترجمة عربيَّة لكتاب لورَنس، وأود اقتراح ترجمته مرة أخرى بصورة أفضل وأكثر معرفة باللُّغتين.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الفیلم ة الم ح د عودة أبو

إقرأ أيضاً:

حرب فارسية-عبرية… لماذا بلغة عربية؟

يتصارع الإيراني مع الإسرائيلي، هذا بالفارسية وذاك بالعبرية، لكن لغتهما إلى العرب ويتحدثون بالعربية؛ يظهر ناطق الجيش الإسرائيلي ملخّصًا للحرب بلهجة عربية فصحى مفهومة، ويعقبه المرشد الإيراني برسالة بالعربية. يتساءل مشاهد: ما علاقتنا؟ وآخر يهمس: «فخار يكسّر بعضه»، وثالث يدعو: «اللهم سدد رميهما»، فما سر استهدافهم لنا بلغتنا العربية في حرب ليست حربنا؟.

إنَّ استخدام اللغة العربية في سياق الصراع الاسرائيلي - الإيراني عند الرغبة في فهمه فإن علينا تقمص عقلية «الفاعل السياسي الإعلامي» ــ لا كمجرد طرف في صراع، بل كطرف يُدير رواية ويُشكل إدراكًا عامًا، خاصة في منطقة مثل الشرق الأوسط، حيث المعركة تدور بقدر ما هي على الأرض، فهي كذلك داخل عقول وقلوب الشعوب.

ولنتأمل المشهد الحالي فإن تحليله يعود لأبعاد منها البُعد الاتصالي السياسي من خلال السيطرة على السرديات، وكذلك اللغة كأداة تعبئة وتجنيد رمزي، فيما يعتبر الجمهور العربي أحد العناصر التي يراها كلا الطرفين عنصر حاسم في ميزان الشرعية الإقليمية.

إنَّ السيطرة على «السردية» في الفضاء العربي تظهر حين  يستخدم الإيراني أو الإسرائيلي اللغة العربية في خضم صراعهما، فهما لا «يخاطبان» بعضهما البعض، بل يحاول كل طرف كسب أو تحييد الشعوب العربية، والتأثير في «السردية العربية العامة» حول الصراع. فالناظر إلى الصراع يجد إيران تحاول أن تلبس عباءة «المقاومة الإسلامية» وتتحدث باسم «المظلومين» وتربط صراعها مع إسرائيل بأنه صراع العرب جميعًا، أما إسرائيل في المقابل تحاول أن تُظهر أن العرب  أقرب لها من إيران، وأنها الطرف المعتدل مقارنة بـ«التطرف الإيراني».. إذن، الحرب هنا ليست على الأرض فقط، بل على رواية من هو الضحية ومن هو العدو، وتلك رواية لا تُصنع في طهران أو تل أبيب، بل تُصنع في الشارع العربي وفي داخل العواصم والمدن والبيوت والحوارات العربية.

ولا تنفك السيطرة السردية عن اللغة العربية باعتبارها كرمز وليس فقط كوسيلة فاستخدام اللغة العربية لا يعني مجرد الترجمة، بل هو ترميز سياسي ثقافي؛ لذا عندما تتحدث بلغة قوم، فأنت تقول: «أنا معني بكم، أنا أفهم ثقافتكم، أنا داخل دائرتكم الرمزية، فأنا لست بغريب عنكم»؛ فمثلا إيران تستخدم مفردات عربية منها : «القدس»، «الدم»، «الأمة الإسلامية»، «العدو الصهيوني»، فيما تستخدم إسرائيل مصطلحات مضادة مثل : «السلام»، «التطبيع»، «الاعتدال»، «الإرهاب الإيراني»؛ لذا فكل كلمة مقصودة بعناية. إنها ليست فقط رسائل سياسية، بل محاولات لإعادة تشكيل الانتماء الجمعي للعرب.

وتكتمل عناصر استخدام اللغة العربية في هذا الصراع من خلال محاولة السيطرة على الجمهور العربي والناطق بالعربية فهناك مئات الملايين من العرب يشاهدون ويتفاعلون عبر السوشيال ميديا، ولذا فأي طرف يستطيع أن يحرك الرأي العام العربي لصالحه، سيكون قد كسب وزنًا استراتيجيًا. إن إيران تعرف أن الهيمنة الثقافية على خطاب «المقاومة» يتطلب تجنيد العرب معنويًا، وفي تل أبيب يدرك الاسرائيليون أن حياد أو قبول العرب مهم لحصار النفوذ الإيراني، وبالتالي، فاللغة العربية ليست مجرد أداة، بل هي ساحة حرب بحد ذاتها.

وبعد استعراض العناصر يبرز سؤال: «لماذا العرب؟».. أليست الحرب فارسية - عبرية؟ إنه من منظور الاتصال السياسي فإن كل صراع بين قوتين إقليميتين (كإسرائيل وإيران) يتمدد ليشمل «الوسط المحايد» أو «الكتلة الرمادية»، وهي في هذه الحالة الشعوب العربية التي لم تحسم ولاءها. ومن منظور الشرعية الرمزية فإن العرب هم الأساس للمركزية الإسلامية والتاريخية في المنطقة (القدس، مكة، العروبة…)، ومن يكسبهم يكتسب غطاءً معنويًا.

بقي القول، إنه في هذا المشهد، يتضح أن الصراع الإسرائيلي الإيراني لم يعد مجرد مواجهة عسكرية، بل معركة متقدمة على جبهة الاتصال النفسي والسيطرة على السرديات؛ لذلك فالعرب، وإن لم يكونوا طرفًا مباشرًا، باتوا يشكلون «الساحة الثالثة» التي يسعى كل طرف لاختراقها لغويًا ورمزيًا، وكذلك فاستخدام اللغة العربية ليست مجاملة، بل أداة استراتيجية تهدف إلى كسر الحياد، وتجنيد العقول والمواقف، ومع تزايد تعدد الروايات في الفضاء العربي، يصبح توجيه الرأي العام تحديًا بالغ الأهمية، وهكذا تتحول اللغة إلى سلاح ناعم، لا يقل فاعلية عن الصواريخ والطائرات.

ومن هنا نفهم لماذا يخاطب الطرفان العرب، فبينما إيران تقول: «نحن حماة القدس، لا أنتم»، ترد إسرائيل وتوجه رسالتها للعرب: «أنتم معنا، لا ضدنا».

قد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • رغم طلاقهما.. محمد عز العرب ينشر صورته مع آيتن عامر وأبنائهما
  • مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادثين متفرقين بالإسكندرية
  • «انتقمت لشرفي»: كشف لغز مقتل مسن بقرية كفر العرب في بنها
  • من غزة إلى نطنز.. جابوتنسكي يصوغ العالم وترامب يوقع باسمه!
  • أمن القليوبية يكثف جهوده لكشف العثور على جثة شخص بمنزله بقرية كفر العرب
  • الشيباني: العرب ينتظرون السكين كخراف عيد الأضحى
  • الاتحاد العربي لكرة القدم يعرض روزنامة بطولاته للاستضافة
  • دور العرب والإيرانيين في تشجيع ترامب على الانخراط بالحرب
  • اتجاه لتأجيل بطولة كأس العرب للأندية 2025
  • حرب فارسية-عبرية… لماذا بلغة عربية؟