أزمة الرواتب في السودان.. هجرات من نوع آخر
تاريخ النشر: 28th, September 2023 GMT
بعد عودته من صلاة الجمعة بقليل، فوجئ الناطق باسم لجنة المعلمين السودانية المركزية، سامي الباقر، بقوة من الجيش تقتحم منزله وتعتقله موجهة إليه اتهامات واعتداءات لفظية بسبب مطالباته بصرف رواتب الموظفين، قبل أن يتم اقتياده إلى جهة عسكرية.
قبل اعتقاله، كان الباقر معروفا بمطالباته المتكررة بوقف الحرب ودفاعه عن حقوق المعلمين والمطالبة بصرف رواتبهم المتوقفة منذ أشهر.
وقال الباقر الذي تم إخلاء سبيله، الاثنين، لموقع "الحرة": "خلال أربعة أيام تم اعتقالي فيها، كانت التحقيقات تدور حول أسباب مطالباتي المتكررة بصرف رواتب المعلمين، معتبرين أن ذلك خيانة في زمن الحرب وأن أي حديث بشأن هذا الأمر يمثل ضغطا على الدولة".
وأضاف: "بعد الأسئلة، حاولوا إقناعي بأن أتبنى موقف الجيش في أن صرف الرواتب من شأنه أن يضعف الجانب الأمني".
لكنه يقول إن "حجب المرتبات أخطر من الحرب نفسها، لأن المعلمين على سبيل المثال عددهم مليون شخص، وهذا يعني أنهم يعيلون ستة ملايين سوداني بحساب أسرهم، من أصل 48 مليون سوداني".
وعبرت الأمم المتحدة، الأسبوع الماضي، عن خشيتها من وفاة آلاف الأطفال في السودان بسبب سوء التغذية الحاد وتفشي الأمراض في ظل العنف السائد في البلاد خصوصا بعد أن توفي نحو 1200 طفل جراء الحصبة وسوء التغذية في تسعة مخيمات للاجئين في السودان منذ مايو.
يشير القيادي بالجبهة الديمقراطية للمحامين، بابكر ريزا، إلى أن "اعتقال القيادات العمالية من قبل الجيش أصبح يمثل ظاهرة طالت محامين وصحفيين، من أجل تكميم أفواههم خاصة مع تزايد حالات الموت من الجوع بين السودانيين".
وقال ريزا لموقع "الحرة": "نحن نعيش أسوأ فترات الحقب المتتالية في السودان، حيث أنتجت تشريدا ونزوحا ووفيات. لا يوجد سوداني حاليا أوضاعة المادية أو المعيشية مستقرة سواء كان داخل السودان أو الذين خرجوا بسبب الحرب".
وأوضح أن "معظم الموظفين في كل القطاعات تقريبا لم يحصلوا على مرتباتهم بشكل دوري.. يوجد قطاعات تم صرف جزء من الأجور، لكن قطاعات أخرى لم تحصل على أي أجر منذ بداية الحرب".
ويشهد السودان منذ 15 أبريل معارك بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي".
المديرة في وزارة التنمية الاجتماعية، سليمى الخليفي، تقول لموقع "الحرة" إن "معظم الموظفين الحكوميين، لم يحصلوا على رواتبهم، حتى في الولايات التي لا تشهد نزاعا بين الجيش وقوات الدعم السريع".
وأضافت: "بالنسبة لنا كموظفين في الخرطوم، حصلنا مؤخرا على رواتب شهري أبريل ومايو، وبالنسبة لي تحديدا لم أستلم أجر هذين الشهرين، لأن البنك الذي ينزل عليه المرتب مغلق ولم أستطع صرف أي شيء"، مشيرة إلى أن هناك قطاعات أخرى لم تحصل على أي أجور منذ بداية الحرب.
مديرة مستشفى حكومي، رفضت ذكر اسمها لدواع أمنية، قالت لموقع "الحرة" إن الطواقم الطبية تعاني بسبب عدم صرف الأجور منذ أشهر.
وأضافت: "حصلنا مؤخرا على شهر واحد فقط، هو شهر أبريل".
وحذرت الأمم المتحدة الشهر الماضي من أنّ الحرب والجوع يهددان بـ"تدمير" السودان بالكامل وبدفع المنطقة إلى كارثة إنسانية، في وقت تتواصل المعارك، من دون أي مؤشر إلى حلّ في الأفق.
وبحسب وكالات إنسانية، فإن هناك أكثر من نصف الـ48 مليون نسمة بحاجة لمساعدة إنسانية من أجل الاستمرار وستة ملايين منهم على حافة المجاعة.
وفي 22 أغسطس الماضي، أفادت منظمة "سيف ذا تشيلدرن" (أنقذوا الأطفال) غير الحكومية، أنّ ما لا يقلّ عن 498 طفلاً "وربّما مئات آخرين" ماتوا جوعاً في السودان خلال الأربعة أشهر الأولى من الحرب.
طبيبة لجأت لبيع الحلوى أمام المستشفىوتحكي خليفة عن صديقتها الطبيبة التي فرت معها من الخرطوم إلى مدينة كوستي في ولاية النيل الأبيض بسبب الحرب "على أمل أن تجد عملا هنا".
وتقول: "كانت هذه الطبيبة تعمل في مستفى حكومي ومستشفى خاص وكانت أمورها جيدة حتى اندلاع الحرب وفرارها من الخرطوم، بحثت عن عمل فقيل لها إنها ستعمل بدون أجر، لكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك، كيف ستدفع الإيجار وتعيل أسرتها".
وتكشف أن "هذه الطبيبة تقوم بصنع حلوى "الزلابية" وتبيعها أمام المستشفى من أجل أن توفر لها ولأسرتها لقمة عيش بسيطة".
وبالنسبة للمعلمين، يقول الباقر: إن تسعة ولايات هي ولايات دارفور الخمس، والجزيرة والنيل الأزرق وسنار وكسلا، من أصل 18 ولاية في السودان لم يحصل فيها المعلمون على أي أجر منذ أبريل الماضي".
أما الولايات التسعة الأخرى، فقد حصل بعضهم على مرتب شهر أو شهرين أو ثلاثة، لكن في أفضل الأحوال يتبقى شهرين.
ويوضح السبب بين تفاوت صرف مرتبات المعلمين بين ولاية وأخرى قائلا إنه تم ترك هذا الأمر للولايات، "الموارد في بعض الولايات مثل نهر النيل التي تشتهر بعمليات تعدين الذهب فيها، والبحر الأحمر بسبب قربها من ميناء بورتسودان، أفضل من غيرها".
"في انتظار الفرج"وتقول خليفة: "كلنا في انتظار الفرج، أغلب الموظفين الموجودين في الولايات يستقبلون الموظفين النازحين من الخرطوم، هذا يعني أن العبء المالي زاد على هذه الأسر التي تعيش على رواتب متأخرة جدا".
بالنسبة لعموم الناس، فإنهم يعتمدون على أقاربهم المغتربين في الخارج "في حالتي، أختي موجودة في الإمارات وترسل لنا أموالا، وبالكاد يمكننا أن تعيننا للبقاء على قيد الحياة، لكنها لا تكفي في العادة لتغطية متطلبات الإيجارات التي زادت بشكل كبير في الفترة الأخيرة"، بحسب خليفة، مشيرة إلى أن الكثير من السودانيين أصبحوا يعانون من الجوع.
ويقول الباقر: إن "كثيرا من المعلمين، أصبحوا يعملون كسائقي مركبات التوكتوك، أو حمّالين، ويدفع بعضهم عجلة صغيرة تحمل البضائع، مضيفا أن الأزمة تكمن فيمن لا يستطيع أن يقوم بهذه الأعمال بسبب كبر السن أو المرض أو معلمات مطلقات أو أرامل. ومع استمرار الحرب لفترة طويلة، تزداد المعاناة أكثر وأكثر".
كيف يتعامل السودانيون مع الأزمة؟الباحث محيي الدين محمد، المقرب من الجيش يقر في حديثه مع موقع "الحرة" أن "الموظفين في كل الولايات كانوا يعانون من مشكلة لأن البنوك كانت متوقفة".
لكنه يقول إنه "بعد استعادة النظام المصرفي بدأ صرف المرتبات للموظفين في القطاع العام وتوفيرها، هناك من حصل على شهر وبعضهم على شهرين من الخمسة أشهر المقبلة، ومن المقرر أن تنتظم بدءا من الشهر المقبل".
وبشأن كيفية تعامل السودانيين مع الأزمة قال: "كانت هناك مشكلة لكن تم تجاوزها بأكثر من وسيلة، فمعظم السودانيين الموجودين في الخرطوم سافروا إلى ولاياتهم الأصلية، وهناك من كان لديه مدخرات صرف منها وهناك مبادرات شعبية من أفراد يقوموا بإعداد الطعام في بعض المناطق ومشاركتها مع المواطنين".
وقالت خليفة: "أعرف بعض الناس الذين فروا من الخرطوم وعادوا إلى بلداتهم الأصلية، منهم من عاد للزراعة في قريته الأم، أما من ليس لديه أصول مثل ذلك حاول أن يجد أي فرصة عمل في أي مجال، أعرف زميلا كان مديرا لمركز ثقافي، الآن يحمل الرمل والطوب. كثير من الشباب ومنهم من كان يعمل مهندسا بدأوا بصنع القهوة والشاي والوجبات الخفيفة في الشارع أو بيع خضار في السوق، ليكون مصدر رزق لهم".
وحذرت المسؤولة الثانية للأمم المتحدة في السودان كليمنتين نكويتا-سلامي إن "الكارثة تحدق بالسودان، على الدول المانحة أن تدفع فورا الأموال الموعودة للمساعدة الإنسانية التي يمكن أن تنقذ أرواحا".
ومنذ اندلاع المعارك التي تركزت في العاصمة السودانية وإقليم دارفور غرب البلاد، قُتل نحو 7500 شخص بينهم 435 طفلًا على الأقل حسب بيانات رسمية، في حصيلة يرجّح أن تكون أقلّ بكثير من عدد الضحايا الفعلي للنزاع.
كما اضطر نحو خمسة ملايين إلى ترك منازلهم والنزوح داخل السودان أو اللجوء إلى دول الجوار، خصوصا مصر وتشاد، إضافة إلى خروج 80 في المئة من مرافق القطاع الصحي في البلاد من الخدمة.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: فی السودان من الخرطوم
إقرأ أيضاً:
حتى الدفن صار امتيازا.. أزمة مقابر خانقة في غزة
غزةـ "كل شيء في قطاع غزة يشعر بالجوع عدا المقابر، وحدها تعاني من التخمة". بهذه العبارة يصف الروائي الدكتور حسن القطراوي أزمة غير مسبوقة تعصف بالقطاع، حيث لم تعد المقابر تتسع للموتى، وتفاقمت معاناة ذوي الشهداء الذين باتوا عاجزين عن تأمين ثمن القبر.
ومع استمرار الحرب الإسرائيلية على القطاع التي مضى عليها أكثر من 21 شهرا، لا يجد سكان غزة مكانا آمنا في الحياة، ولا موطئا لدفن موتاهم إلا القليل، وسط صدمة من الارتفاع الحاد في تكاليف الدفن، وشح القبور، وصمت دولي إزاء معاناة غير مسبوقة.
وفي أعقاب "مجزرة الباقة" التي راح ضحيتها أكثر من 30 شابا وفتاة، نتيجة قصف استراحة على شاطئ غزة في 30 يونيو/حزيران الماضي، دوّن الناقد ناهض زقوت عبر فيسبوك "المشكلة الآن ليست فقط المجزرة، بل كيف يمكننا أن نوفر قبورا لكل هؤلاء؟".
وارتفعت كلفة تجهيز قبر لشهيد في قطاع غزة إلى ضعف ما كانت عليه التكلفة قبل الحرب الإسرائيلية على القطاع من 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
أعلنت "مغسلة الموتى" في مجمع ناصر الطبي بخان يونس قبل أيام عن نفاد القبور، إذ تصدّرت هذه المدينة الجنوبية مشهد الأزمة بسبب العدد الهائل من الشهداء، ولا سيما أولئك الذين سقطوا أثناء بحثهم عن المساعدات قرب المراكز الدولية.
وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، فقد ارتكب الاحتلال 26 مجزرة خلال 48 ساعة فقط، خلفت أكثر من 300 شهيد ومئات الجرحى. وتتوزع المأساة بشكل أكبر في خان يونس التي تؤوي نحو 900 ألف إنسان، معظمهم نازحون، وتسجل النسبة الأعلى من الشهداء.
ونشر الصحفي محمد الأسطل صباح الخميس منشورا مؤلما يقول فيه إن جثامين الشهداء تحت الشمس بانتظار دورها للدفن.
أما المصور إبراهيم محارب، فقال للجزيرة نت إنه وثّق لحظة عجز أسرة الشهيد عدي أبو جزر عن إيجاد قبر لدفنه.
إعلانويحكي محارب كيف اضطر إلى استخدام باب حديدي مهترئ لإغلاق قبر زميله الصحفي الشهيد محمد منصور الذي اغتيل في مارس/آذار الماضي، موضحا أن الأسر تعاني ليس فقط من غياب القبور، بل من العجز عن دفع التكاليف.
"المقبرة التركية" التي لم تكن تتجاوز سعتها 60 قبرا قبيل الحرب، أصبحت تضم آلاف الجثامين، وفقا لتصريح المشرف عليها طافش أبو حطب للجزيرة نت، مؤكدا أن جميع مقابر المدينة امتلأت.
وأوضحت وزارة الأوقاف في قطاع غزة أن الحرب دمرت أكثر من 40 مقبرة، وحرمت السكان من الوصول إلى المقابر في مناطق السيطرة العسكرية الإسرائيلية، ما ضاعف من الأزمة.
ومع النزوح القسري إلى منطقة المواصي الساحلية، وتكدس النازحين فيها، تحولت الأراضي القليلة المتاحة إلى مواقع للإيواء، وأصبحت المستشفيات وساحاتها وحتى المدارس والمنازل ساحات للدفن المؤقت.
تقول الوزارة إن غياب مواد البناء، ومنع دخول الأكفان، جعلا تجهيز القبر يتطلب من 700 إلى ألف شيكل، ما يعادل 200 إلى 300 دولار تقريبا، وهي كلفة تفوق قدرة معظم السكان.
في مواجهة هذه الكارثة، أطلقت وزارة الأوقاف الفلسطينية في غزة حملة "إكرام" لبناء مقابر مجانية، داعية المؤسسات الإغاثية والأفراد إلى المساهمة في توفير مقومات الدفن من أكفان ومواد ومعدات.
من بين من استجابوا كان الشيخ هاني أبو موسى الذي قال للجزيرة نت "كنا نوزع طعاما وماء، لكن جاءتنا مناشدات كثيرة من أسر شهداء غير قادرين على دفع ثمن القبور".
ويروي أبو موسى كيف دفعه مشهد شاب نازح عاجز عن دفن أخيه إلى إنشاء مبادرة للقبور المجانية، وبالفعل خصصت له وزارة الأوقاف قطعة أرض بمساحة 5 دونمات، افتتح فيها 120 قبرا، ثم أسهمت "جمعية البركة الجزائرية" في بناء ألف قبر إضافي.
لكن مع تصاعد أعداد الشهداء، نفدت القبور مجددا، كما تواجه المبادرة مشكلات عدة بينها شح الحجارة المستخرجة من المنازل المدمرة، وعدم توفر البلاط والأسمنت، ما اضطرهم لاستخدام ألواح "الزينكو" والأبواب الخشبية لإغلاق القبور.
وأوضح أبو موسى أن الأزمة دفعت الناس لاستخدام المقابر العائلية القديمة، المعروفة باسم "الفسقية"، لكن هذا البديل أيضا في طريقه إلى النفاد.
وفق معطيات ما قبل الحرب، كان قطاع غزة يستهلك نحو 9 دونمات سنويا للدفن، يتسع الدونم لنحو 220 إلى 240 قبرا، أما اليوم، فقد تجاوزت الحاجة أضعاف ذلك.
ويقول الشيخ أحمد أبو عيد، مدير "جمعية قيراطان الخيرية" المشرفة على مغاسل الموتى، إنهم يستقبلون حاليا ما يفوق 100 ضعف الحالات اليومية المعتادة.
ويضيف للجزيرة نت، أن الأعداد ارتفعت بشكل ملحوظ منذ استئناف الحرب في 18 مارس/أذار، حيث يتعرض النازحون للقصف أثناء وجودهم في خيام الإيواء أو خلال بحثهم عن المساعدات.
وبين فقدان الأعزاء وغياب الكفن والقبر، تتجسد مأساة الغزيين في أشد صورها. فالموت كما الحياة صار معركة أخرى مع الاحتلال، ومع الفقر، ومع العجز الإنساني الدولي.
إعلان