نوافذ: «فوي فوي».. أيها الخلاص!
تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT
يحتجزنا التردي الاقتصادي، باعتبارنا «طبقة وسطى» في تخبط مُضنٍ، دون يقين بأسباب انحدار نمط معيشتنا، الأمر الذي يجعلنا أمام خيارين، يتمثلُ أحدهما في إطلاق العنان للخيال والتمنّي، أو الإعلاء من نبرة الهجرة إلى أراضي الفرص، وهذا ما رجّحه أبطال الفيلم المصري «فوي فوي فوي»!
حرّضني الخبر الذي أعلنته نقابة المهن السينمائية في مصر عن اختيار هذا الفيلم للمنافسة على جائزة الأوسكار ضمن فئة أفضل فيلم أجنبي، على الذهاب لحضوره، باعتباره: «الأكثر تماسكا على مستوى الإخراج والسيناريو والديكور وأداء الفنانين».
عبر كوميديا سوداء ساخرة، يُناقش الفيلم في صميمه قضية الهجرة غير الشرعية، فلقد استقى المؤلف والمخرج عمر هلال، فكرته من قصّة حقيقية، كُتبت في الصحافة عام 2015، «حيث سافرت بعثة للمكفوفين إلى بولندا للمشاركة في البطولة الدولية لكرة الجرس، إلا أن أفراد البعثة هربوا قبل المشاركة، وتبيّن لاحقا أنهم مبصرون، وكشفت التحقيقات تورّط رئيس النادي ومسؤولين في اتحاد رياضات المكفوفين في القضية، حيث دفع كل لاعب مبلغ 50.000 جنيه مصري نظير الحصول على تأشيرة»!
والسؤال: أعلينا أن نُدين الكذبة، أم علينا أن ننظر وراء ظروف نشأتها بشفقة؟
يُحذرنا التاريخ من أن التفاوت المتطرف في الدخل له آثار مدمرة على المجتمعات، إلا أنّ هنالك من يضع «العصي في عجلات الحراك الاقتصادي»، إلى أن نفقد ما تطلق عليه نابوليوني «البوصلة الأخلاقية».
لم يرغب «غاتسبي العظيم» في تغيير العالم وإنّما القفز فوقه، كما فعل بطل الفيلم تماما عندما ادّعى أنه ضرير، ليكتشف أنّه لم يكن وحده في هذه اللعبة الخطرة. تشير نابوليوني إلى أنّ «السعي وراء تغيير الحياة، سحق النوازع الأخلاقية، وسهَّل التلاعب المشبوه من أجل المال».
ثمّة ما تغيّر من حولنا حقا، ولكننا لا نرصده كما ينبغي، نُفضل في الغالب تجاهل قبضته المستشرسة، ففي الشارع لا تدور الأحاديث اليوم إلا حول: فواتير الكهرباء والماء والمشتريات اليومية التي تطبقُ قبضتها على خناق الراتب الهزيل. إننا نقعُ ضحية محاولة جعل العالم أرخص من حولنا، «فالتضخم يُغيّرُ الطريقة التي يفكر بها الناس تجاه حاجياتهم». بات كل واحد منا يُعيد التفكير في الأماكن التي يذهب إليها، يُفكّر بعدد المرات التي يخرج فيها لنزهة، وقود السيارة الذي سينفقه، والضريبة التي تصعد على ظهر مشترياته، لدرجة أنّ أحدنا قد يسأل «فيما لو كانت حياته طبيعية على هذا النحو؟».
من الأكيد أننا لسنا وحدنا، تقول نابوليوني بأنّ «العالم مُبتلى بالتضخم» إلا أنّ ما يُصعب الأمر هو أفول نجم الطبقة الوسطى التي تُعلي قيم التعليم والمعرفة، لنغدو فجأة مهووسين بالمشاهير وقصصهم التافهة، «لمزيد من الغرق في أحلام اليقظة وإنكار الواقع»!
لم تخبُ قوة اللقطة البصرية في الفيلم، فقد عكست بؤس الشوارع والبيوت بأثاثها المتواضع، والعوائل الضاغطة، وتخلي الحبيبات. إلا أننا نتّفق بصورة كبيرة مع ما ذهب إليه الكاتب أحمد كامل الذي حلل تصريح أداء بطل العمل محمد فراج، باعتباره شخصية بسيطة وغير مركبة، «لم تتمكن من استبصار الصراعات التي دفعت الشخصية إلى هذا التظاهر». لم ينجح المخرج في تعميق ألم الشخصيات ودوافعها الأكثر ديناميكية، كما أنّ مسحة التعاطف بينها وبين ذويها بدت ساذجة. يرى كامل أنّ مرد ذلك يعود إلى «ضعف مستوى الكتابة» الذي ألقى بظلاله على التفاصيل الصغيرة، رغم توفر القصّة والحبكة التي تنهض عليها المفارقات. إلا أنّ مشهد الركض الجماعي في نهاية الفيلم وخلع معالم العمى، كانت لاستبصار أمل مُخبأ، وكأن كل واحد منهم يتمثل كلمة «فوي» الإسبانية والتي تعني «أنا قادم»، ويستخدمها اللاعبون لتفادي الاصطدام. لقطة عميقة للانفلات من كل شيء، تاركين وراء ظهورهم حياة كاملة من الخيبات.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إلا أن
إقرأ أيضاً:
عودة النازحين السوريين بعد عام على سقوط الأسد: الفرحة لا تُخفي مرارة الواقع
تحلّ اليوم، في 8 كانون الأول/ ديسمبر، الذكرى الأولى لسقوط نظام بشار الأسد لتسلط الضوء على تجربة السوريين الذين عاشوا سنوات النزوح، وتكشف أن الطريق للعودة إلى البلاد لا يزال طويلًا ومفتوحًا على أسئلة صعبة.
أجرت "يورونيوز" مقابلات مع سوريين عادوا إلى بلادهم وآخرين لا يزالون خارجها، لتتضح صورة متشعبة للواقع. بعضهم يتحدث عن فرحة العودة بعد سنوات من اللجوء، لكنهم يصطدمون بغياب الخدمات وفرص العمل وارتفاع كلفة إعادة الإعمار. في المقابل، يرى آخرون أن الأمن ما يزال هشاً، وأن الانقسامات الطائفية والتهديدات تجعل العودة خياراً غير واقعي.
قمر صباغ (من حلب)، نزحت إلى تركيا خلال السنوات الأولى من الحرب. بالنسبة لها، سقوط النظام كان أشبه بحلم تحقق بعد سلسلة طويلة من الألم. تصفه بأنه لحظة استعادت فيها كرامة الناس، لحظة دفعت لنيلها سنوات من القهر والخسارات، لكنّها تدرك أيضاً أن الواقع ليس ورديًا.
قمر عادت الى سوريا بعد سنوات من النزوح، تحمل شوقا لبلدها، لكنها تعود ايضا بحذر مما قد تواجهه. تتحدث عن شعور بالغربة في مدينة عاشت فيها طفولتها وشبابها. الشوارع كما هي، إلا أن روح المدينة تغيّرت. البلد مرهق، والسكان منهكون، والأسعار خانقة. تقول إن الأمان ليس فقط غياب القصف، بل شعور داخلي بالطمأنينة، وهذا الشعور غائب، فالخوف من الغد يتحول إلى جزء من الحياة اليومية.
تصف قمر سوريا بأنها بلد يعيش أزمة وراء أخرى: الكهرباء، الماء، العمل. ومع ذلك، هناك ما يبقي الناس متمسكين بها: الخير، والحب العميق للأرض، والإصرار غير المعلن على البقاء رغم الخسارات.
ولا تخفي قمر ارتباكها في قدرتها على التأقلم: فمن تركيا إلى سوريا، لا تزال تشعر أنها لا تنسجم مع نمط الحياة داخل البلاد ولا مع الناس الذين مكثوا طوال السنوات الماضية. تسأل نفسها مرارًا كيف استطاعوا العيش والصمت طوال تلك المدة؟
من تجربة قمر إلى شهادة ربيع الزهوري (من مدينة القصير)، حيث تغلب المشاعر الاحتفالية على مخاوف الواقع. بالنسبة له، فإن سقوط النظام فتح باب الحديث عن سوريا بوصفها وطنًا يمكن أن يجتمع فيه الناس مجددًا بعد سنوات من القهر.
ربيع خرج من القصير إلى لبنان في الرابعة عشرة من عمره عبر "فتحة الموت" المشهورة، إنّ خبر سقوط النظام شكّل نقطة تحول، فقرّر العودة مع عائلته رغم أن ما ينتظرهم لم يكن سهلًا. كان أول ما واجهوه هو بيت الطفولة المدمّر. الموارد محدودة، والعمل شبه معدوم، لكنهم بدأوا من الصفر: ثلاثة أشهر بين لبنان وسوريا حتى أعادوا بناء المنزل.
في القصير، الناس يحتفلون بذكرى 8 كانون الأول/ديسمبر بوصفها "عيد التحرير". وفق شهادته، أُقيم ماراثون لذوي الإعاقة يوم السبت، وامتلأت الساحات بالناس الذين شعروا من جديد بمعنى الانتماء، وكلمة "سوري" أصبحت مصدر فخر لنا.
رغم ذلك، لا يخفي ربيع المشكلات اليومية: نقص فرص العمل عمّق أزمة العائدين، والخدمات تكاد تكون غائبة، من الاقتصاد إلى الصحة والتعليم. ويشير إلى أن كثيرًا من الناس سكنوا خيمًا لعجزهم عن ترميم بيوتهم، هناك صعوبة التأقلم مع الانتقال من بلد آخر إلى الوطن، وتكاليف إعادة الإعمار كبيرة جداً حتى على مستوى المنازل
المسألة الأمنية أيضًا ليست محسومة، إذ يشير إلى أن الأمن لم يترسخ بعد، وإن بعض الأحداث والفتن تقع، لكنه يرى أن عدم العودة إلى سوريا لن يسمح لها بالنهضة. ويكشف أنه عاد وهو "مطلوب" بسبب تهم غير صحيحة وضعها النظام السابق، واستغرق شهورًا لإزالتها قبل أن يبدأ حياته من جديد.
وأضاف: "نستطيع كشعب سوري أن ننهض من تحت الركام ونبني هذا الوطن من جديد".
في مقابل الشهادات التي تراوحت بين فرحة العودة وصعوبات التأقلم، تظهر تجربة فتاة سورية نزحت إلى دولة أوروبية وفضّلت عدم الكشف عن اسمها، لتضع الذكرى الأولى لسقوط الأسد في سياق مختلف: سياق إعادة التفكير بمعنى التغيير نفسه.
تصف الذكرى الأولى لسقوط الأسد بأنها ليست حدثًا عابرًا بل حالة عاشت معها شهورًا من الرهبة والفرح والذهول. بالنسبة لها، لم يكن ما سقط مجرد نظام، بل رمزٌ للطغيان الذي رافق السوريين جيلًا بعد جيل، وفرض ثقله على تفاصيل حياتهم وأحلامهم لسنوات.
لكن الشعور بالانتصار – كما تقول – لا يعني أننا وصلنا إلى الحرية. خمسون عامًا من الحكم الأمني والعنف وتمزيق المجتمع لا تختفي بسقوط شخص، والمرحلة الانتقالية تحتاج إلى عمل مماثل في صعوبته لما عاناه السوريون، مع شفافية وشجاعة وواقع سياسي لا تراه متوفرًا حتى الآن.
أما العودة فتصفها بأكثر الملفات إيلامًا وتعقيدًا، المشهد مختلف من مكان لآخر: هناك من عاد، وهناك من اضطر للمغادرة بعد سقوط الأسد. هذا التفاوت يعكس واقعًا طائفيًا رسخته سنوات من التحريض والاستغلال، وتغييرات في موازين القوة لم تفتح الباب أمام "سوريا لكل السوريين".
تستشهد بمجازر الساحل والسويداء، وتقول إن رسائل التهديد والانتهاكات وخطف النساء تُبقي الأقليات في دائرة الخوف. والمدينة التي تنحدر منها، السويداء، مفروضة عليها عزلة خانقة تشبه الحصار، ما يجعل العودة بالنسبة لعائلتها غير ممكنة. فقد اضطرت عائلتها للهرب مرتين خلال مجزرة السويداء، مثلما اضطرت هي نفسها سابقًا للفرار من نظام الأسد.
وبالنسبة لها، لا تبدو الذكرى مناسبة للاحتفال فقط، بل لحظة لتذكر المغيبين قسرًا وعائلات المفقودين، وهي مناسبة أيضاً لتفحص ما تغيّر وما لم يتغير، وللتذكير أننا أمام بداية طريق، لا نهايته.
بعد مرور عام على سقوط الأسد، تبدو تجارب السوريين مختلفة، وقد فرض ذلك واقع الحرب والتهجير والدمار، وإن كانت العودة بالنسبة إلى الكثيرين خياراً مطروحاً، لا تزال تحديات الأمن والعدالة والخدمات وفرص العمل في صلب تفكير اي نازح.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة