هوامش ومتون :أحلامنا القديمة
تاريخ النشر: 11th, October 2023 GMT
عندما اندلعت حرب أكتوبر عام 1973م كنت في الثانية عشرة من عمري، وليس من الممكن نسيان تلك الأجواء الحماسية، التي غمرتني، كسائر أبناء جيلي، كوننا عشنا في بيئة كانت وما زالت شغلها الشاغل القضية الفلسطينية، فهي تأكل وتشرب مع أبنائها، وتتقاسم معهم الزاد، ليس بالمعنى المجازي، بل الواقعي، فقد كنّا نقتطع جزءا من مصروفنا المدرسي اليومي لشراء طوابع بريدية تدعم اللاجئين الفلسطينيين وكفاحهم لتحرير الأرض المقدّسة، ونقوم بلصق تلك الطوابع على ظهور دفاترنا، وكلّما كان عدد الطوابع أكثر، نتباهى بشكل أكبر، وحين يبلغ الحماس ذروته ويحصل تصعيد في الاعتداءات الإسرائيلية على أصحاب الأرض في الأرض المحتلة، كنا نخرج من المدارس في مسيرات تنديد واستنكار تحمل لافتات كتب عليها «فلسطين عربية فلتسقط الصهيونية»، وتصدح حناجرنا بهتافات تدعو لتحريرها، ولم نكتفِ بخروجنا من الفصول، فقد كنّا نتوجّه للمدارس المجاورة، داعين طلّابها للخروج معنا في تلك المسيرة، فإن لم تستجب الإدارة نُحدث فوضى، ويبدأ الفصل الثاني من الفوضى المتمثّل بقذف نوافذ الفصول الدراسية بما أوتينا من حجارة نلتقطها من طرق غير معبّدة، هاتفين بأعلى صوتنا:
«لو تطلعونهم، لو نكسّر الجام»، والجام تعني بالعامية العراقية: الزجاج، فتذعن إدارات المدارس لطلبنا وتفتح أبوابها، ليخرج طلابها، وتكبر المسيرة التي تظلّ تدور في الشوارع، وسط تأييد أهالينا، وشعورهم بالفخر.
وحين انطلقت شرارة حرب أكتوبر، في السادس منه، كان لا بدّ أن تكون الشغل الشاغل لنا، فانتعشت الآمال بعد أن تحطّمت بعد نكسة الخامس من يونيو 1967م، بحرب الأيّام الستة، التي خرج العرب منها منكسرين، وقد ذهب الشاعر نزار قباني في قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» إلى أقصى درجات الانكسار بقوله:
جلودنا ميتة الإحساس
أرواحنا تشكو من الإفلاس
أيامنا تدور بين الزار والشطرنج والنعاس
هل نحن «خير أمة قد أخرجت للناس»؟
لكنّ حرب أكتوبر التي بدأت بهجوم استهدف خط بارليف، وعبور قناة السويس، أعادت الحماس إلى النفوس مجدّدا، إلى النفوس التي شاخ فيها الأمل، وصار النصر على الدخلاء وشيكا.
يومها كنت أخطّ حروف بداياتي الأولى في كرّاستي المدرسيّة، وأحيانا أتجرّأ فأبعث تلك الكلمات إلى صحيفة أسبوعيّة تعطف على الناشئة، بنشر محاولاتهم، في زاوية مخصّصة لهم، اسمها (الراصد)، ووسط تلك الأجواء الحماسيّة، كتبت نصا عن حلمنا بتحرير فلسطين، وعودة اللاجئين لديارهم من المخيّمات، وهممتُ بإرساله إلى الصحيفة، عبر مكتب البريد، وهذه هي الوسيلة التي كانت متاحة لنا، نحن الذين كنا نعيش على هوامش الساحة الثقافية، ولم نخض بعد غمارها مع الخائضين، ولأن الانتصارات كانت تتوالى على الجبهتين المصرية والسورية، قلت: ماذا لو تحرّرت فلسطين، وعاد اللاجئون إليها، هل سيجد المحرّر ضرورة لنشر النص؟ يومها كانت أحلامنا كبيرة، لا يحدّها سقف، ورأيت من الواجب عليّ التأنّي في إرسال ما كتبت، خصوصا أننا كنا ننتظر نشرها على الأقل بعد مرور شهر على الإرسال!!
هكذا كان شعورنا بأن النصر قريب، وتحرير فلسطين صار - بنظرنا - وشيكا، وفجأة توقّف إطلاق النار وانتهت الحرب، وعاد الجنود إلى مواقعهم خائبين، وانكسر الحلم، ولم أبعث النص للنشر،
ولم تتحرّر فلسطين!
واليوم بعد مرور كلّ تلك السنوات ينتعش الحلم مجدّدا مع الملحمة التي يدوّنها أبطال غزة، «فهذا زمان فلسطين» كما يقول الشاعر حميد سعيد:
«كل الذين يثورون ينتسبون إليها
وكل الذين يموتون أو يولدون.. بهم من شمائلها حالة
وجهها يسكن الفرح البشري
كما يسكن اللحظة البائسة
وجهها يملأ الماء واليابسة»
لعل الأيام القادمة تعيدها لنا ثانية أحلامنا القديمة التي رسمناها على كرّاساتنا، فـ(ما ضاع حقّ وراءه مطالب) كما يقول المثل العربي.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
من تحرير حلب إلى دمشق.. لماذا كانت لدير الزور قصة مختلفة؟
قبل أكثر من عام، ومع انطلاق معركة ردع العدوان حيث أطاحت قوات المعارضة بالرئيس المخلوع بشار الأسد ونظامه من المدن السورية تباعا، بدا المشهد وكأنه يسير نحو نهاية متوقعة.
المدن تتحرر واحدة تلو الأخرى على يد قوات ردع العدوان، بدءا من حلب وصولا إلى دمشق.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2دبابة إسرائيلية تدهس طفلا بغزة وتمزق جسده إلى نصفينlist 2 of 2سوريون: لا قيصر بعد قيصرend of listولكن دير الزور، المدينة الشرقية الإستراتيجية، كان لها قصة مختلفة تماما تخللتها مفاجآت وانعكاسات إنسانية مؤلمة يرويها مراسل "سوريا الآن" بكر الطه.
الفرات المُقسَّم.. دير الزور بين مناطق متفرقة وسكان ينتظرون اكتمال التحرير pic.twitter.com/Ba1FsefbhA
— SyriaNow – سوريا الآن (@AJSyriaNow) December 10, 2025
انسحاب مفاجئ واستغلال الفراغففي السادس من كانون الأول/ديسمبر 2024، وقبل يومين فقط من إعلان تحرير دمشق، انسحبت قوات نظام بشار ومليشياته من دير الزور بطريقة أثارت الدهشة، تاركة فراغا أمنيا وعسكريا.
وبحسب تقرير مراسل منصة "سويا الآن" أن هذا الفراغ سرعان ما استغلته قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، التي بادرت إلى السيطرة على أجزاء واسعة من المحافظة، في خطوة اعتبرها الأهالي إقصاء لهم عن مشهد التحرير.
ورفض أهالي دير الزور وجود "قسد" في مناطقهم، فخرجوا في مظاهرات حاشدة داعين قوات ردع العدوان للدخول والسيطرة، لكن الاحتجاجات قوبلت بالرصاص الحي، ليسقط قتلى مدنيون في مشاهد أعادت إلى الأذهان ممارسات نظام الأسد.
وقبل انسحابها من المدينة في ليلة العاشر من كانون الثاني/يناير 2024، أي بعد يومين من إعلان تحرير سوريا، أقدمت "قسد" على سرقة معدات عسكرية وأجهزة اتصال.
???? دير الزور.. المدينة التي قسمها النهر والسلاح!
نهر الفرات.. لم يعد شريان حياة دير الزور، بل تحوّل إلى حاجز يفصل الأهل عن بعضهم والمدينة عن وحدتها.
بينما تسيطر قوات الدولة السورية والجيش العربي السوري على الضفة الغربية (الشامية)، وتسيطر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على الضفة… pic.twitter.com/AopsHWnI0S
— المفكرx (@almfkrx) December 10, 2025
تغييرات في خريطة السيطرةانسحاب النظام ترافق مع توسع "قسد" في السيطرة، حيث ضمت سبع قرى إستراتيجية (حطلة، مراط، الحسينية، خشام، مظلوم وغيرها) إلى نفوذها.
إعلانواليوم، يعيش سكان دير الزور بين مهجرين ينتظرون العودة إلى منازلهم، ومقيمين يترقبون يوما تتحرر فيه كامل ضفاف الفرات وتكتمل خارطة التحرير كباقي المحافظات، في حين تظل ذكريات ديسمبر شاهدة على مرحلة اتسمت بالتحرير الممزوج بالخذلان.
قسد تعلن استحداث مجلس مدينة جديد للقرى السبع شمال دير الزور
أعلن ما يُسمّى «مجلس الشعوب» التابع لميليشيات #قسد في محافظة دير الزور، اليوم، عن استحداث مجلس مدينة جديد يُعنى بإدارة القرى السبع الواقعة شمال المحافظة.
وبحسب الإعلان، يأتي تشكيل المجلس ضمن ما تصفه قسد بإعادة تنظيم… pic.twitter.com/VgX8AZkVJQ
— عامر هويدي (@DeryNews) December 10, 2025