الإشارة، إبتداءً، إلى مركزيْ عبدالكريم ميرغني ومحمد عمر بشير وبيت التراث جاءت كمثال وحالة شاخصة لمنازلة غاشمة بين قوى مهزومة ومذعورة نفذ زمانها وبين مصادر وعي جماهيري طاغي ومنداح حتى وسع كل مراتب المجتمع وأطراف البلاد. وما هذه المراكز إلا مشهد ملموس لهذا الوعي يجسد حضوره كل يوم، ومؤشر ثابت يؤكد على نمو صاعد لا يهدأ.

لذلك جاء إستهداف هذه المراكز من جانب هذه القوى تشفياً لغيظها وغليله، وأملاً راودها لطمس معالمها. لكن ماضي شعوبنا وحاضرها أثبت دائماً أنه كلما إستهدفوا فيها مصادر الوعي كلما تمدد الوعي وانجلى، ولأن الوعي متى أنبثق إستحال حجبه، فهو مثل الضُلْ في الحكمة الفوراوية البليغة "ضُل ولا بَندَفن". وذعر هذه القوى ناتج عن إدراكها أن مقتلها كامن في عدم إمتلاكها سلاحاً تنازل به سلاح خصمها، فساحة المعركة هنا هي حقائق العلم وعطاء الثقافة. وهذه معادلة في الصراع الإجتماعي السياسي محسوم أمرها منذ فجر الحركة الوطنية، وتشكل طرفيها من الإنتليجنتسيا الحديثة وطبقتها الوسطى من جهة ومن جهة أخرى رأسمالية ريعية وطائفية دينية مؤدلجة متكئة على حواضن إجتماعية آخذة في التلاشي كقواعد سياسية. وإذا كان العلم وإنتشار التعليم هما، بداهةً، أحد أهم أسباب ضعف هذه الحواضن الإجتماعية، فإن الحقل الثقافي العام، كماعون أوسع لترقية معارف الفرد وكملتقى لمناشط تمس بشكل مباشر قضاياه المعيشية والإجتماعية، يبدو أكثر نفاذاً وأعمق أثراً، خاصةً والشريحة الغالبة من ناشطيه من ذوي التوجه الفاعل والمنتج، وهذا أيضاً ما يضاعف من رعب هذه القوى ويدفعها إلى العنف التشريعي والإداري أو إلى القوة الغاشمة عندما تحين الفرصة كما قد حانت الآن مع حرب الجنرالات. وحرب الجنرالات هذه، في السياق التاريخي للصراع السياسي الإجتماعي السوداني وفي ضوء مقولة غرامشي حول الصراع بين القديم والجديد، هي أبشع إفرازات النظام القديم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. إن الإستهداف المقصود الذي طال هذه المراكز ورصفائها من دور للنشر ومؤسسات ثقافية لا يمكن تفسيره إلا كإفراز نتن لهذه القوى وشركائها وهم يغادرون سلطةً إستأثروا بها وغنيمة تملكوها منذ إستقلال البلاد. كذلك ما يثير رعب وحفيظة هذه القوى هو الطبيعة الخاصة لعمل المركز والنادي والجمعية كمؤسسات منظمة وفاعلة تؤدي دورها ضمن أهداف مدروسة. كما أن نشاط هذه المؤسسات ذو توجّه قاعدي شعبي قائم على الفعالية كبنية تنظيمية وآلية عمل تبتكر وتطور التقاليد الخاصة بها. ومن هنا تكتسب الفعالية خطورتها كشكل تنظيمي يشتغل على مستوى إجتماعي أوسع ومتنوع، وفيه تأليف للأفراد وتمتين للصلات الخاصة، يستقطب الشباب ويستكشف المواهب، ويلتقط الحدث السياسي أو الإجتماعي أو الثقافي ويطرحه للنقاش. وهكذا تصبح الفعالية مكوناً عضوياً ضمن المشروع الخاص لكل مؤسسة ثقافية. هذا الفضاء الثقافي الحر وهذا المستوى من الأداء هو ما دفع بشكل متزايد بقطاعات ناشطة من الشباب بعد ثورة ديسمبر إلى التوجه إلى هذه المؤسسات الثقافية. كل ذلك لفت نظر القوى المضادة وهي تواجه الثورة وشبابها، وعمّق إدراكها بأنها ازاء ثورة وعي بالفعل، وأنها في مواجهة جيل "جديد وفريد" "شطب راس" منظريها وأذهلهم، وخاطبهم بلغة "الرندوك" خاصته، لغة إجترحها مستهجناً وساخراً رداً على لغة مخادعة وفصاحة جوفاء إكتشف زيفها. جيل ظنوا أنهم إستلبوا عقله بحبوب الخرشة والآيس وإصطحبوه في مستنقع فسادهم. لكنهم رأوا هذا الجيل وقد أمسك بزمام قضاياه وطرح القضية الوطنية الكبرى التي تمس مستقبله ومستقبل شعبه، وهي قضية التغيير ومفارقة ماضي معادي لمستقبله ومستقبل بلده. وأخيراً، فإن هذا الإستهداف لمصادر الوعي في الأمة يكشف بجلاء مكانة هذه المراكز والمؤسسات الثقافية كمحور هام وضروري في الحراك الثوري والنشاط السياسي الإجتماعي اليومي أثناء هذه الحرب وبعدها. هذه المراكز والمؤسسات، حتى في أبسط أشكالها في المدن والبلدات والقرى، تصبح منصات ينطلق منها كل نشاط يسهم في وقف الحرب، وكل مبادرة لمواجهة هذه الأزمات المتطاولة التي ترتبت عليها، وكل مجهود ينهض بالروح المعنوية لشعبنا ويدفع عنه مشاعر اليأس والإحباط.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: هذه المراکز هذه القوى

إقرأ أيضاً:

البشت الخليجي والكشري المصري ضمن الترشيحات النهائية لليونسكو للتراث الثقافي غير المادي

تضم القائمة الطويلة ترشيحات متنوعة من جميع أنحاء العالم، بينها رقص كوارتيتو الأرجنتيني، المطبخ الإيطالي، مهرجان ديوالي الهندوسي في الهند، وحمامات السباحة الأيسلندية.

يتنافس البشت الخليجي، طبق الكشري المصري، والشعر الموسيقي اليمني ضمن 68 ترشيحًا تنتظر موافقة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) لإضافتها إلى قائمة التراث الثقافي غير المادي.

وتضم القائمة الطويلة ترشيحات متنوعة من جميع أنحاء العالم، بينها رقص كوارتيتو الأرجنتيني، المطبخ الإيطالي، مهرجان ديوالي الهندوسي في الهند، وحمامات السباحة الأيسلندية. وتدرس اليونسكو هذه الترشيحات خلال اجتماعها في العاصمة الهندية نيودلهي من الثلاثاء إلى الخميس، بمشاركة 78 دولة.

والبشت الخليجي هو عباءة تقليدية يرتديها الرجال في دول الخليج، تتميز بعدم وجود أكمام لها، مع فتحتين لإخراج اليدين، ويعد جزءًا مهمًا من الهوية الثقافية للمنطقة. واكتسب البشت شهرة عالمية بعد نهائي كأس العالم لكرة القدم 2022، عندما ألبس أمير قطر الشيخ تميم آل ثاني قائد منتخب الأرجنتين، ليونيل ميسي، البشت قبيل رفعه كأس العالم عقب الفوز على فرنسا.

ويُذكر أن الحكومة السعودية ألزمت مسؤوليها الكبار، بمن فيهم الوزراء، بارتداء البشت أثناء الدخول إلى مقرات العمل والخروج منها وحضور المناسبات الرسمية خلال العام الماضي.

أما الكشري المصري، فهو طبق شعبي واسع الانتشار يتكون من المعكرونة، الأرز، العدس، والبصل المقلي، مغطى بصلصة طماطم حارة، ويُضاف إليه عصير الثوم والخل المعروف بـ"الدقّة المصرية". ويؤكل عادة ساخنًا، وهو من الثقافة الغذائية الشعبية في مصر.

ويعبر الشعر الموسيقي اليمني عن تراث الريف اليمني الغني، ويتميز بوصف دقيق للطبيعة والحياة اليومية، ويتفرع إلى مدارس موسيقية متعددة أبرزها "الغناء الصنعاني" نسبة إلى العاصمة صنعاء.

Related اليونسكو تُصدر موافقة مبدئية على إدراج المطبخ الإيطالي في التراث غير المادي نيكاراغوا تنسحب من اليونسكو احتجاجًا على منح جائزة حرية الصحافة لصحيفة معارضةإسرائيل ترحب بالخطوة.. الولايات المتحدة تعلن انسحابها من منظمة اليونسكو

وتتضمن الترشيحات الموسيقية الأخرى مزمار القربة البلغارية، رقصة السون الكوبية، اليودل السويسري التقليدي لرعاة الماشية في جبال الألب، وموسيقى "الهاي لايف" الغانية بإيقاعاتها السريعة.

وأكد وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكار، في كلمة له أمام الوفود المشاركة، أن الاعتراف بالتراث الثقافي غير المادي له آثار تتجاوز القرار الفوري، مشيرًا إلى أن هذه الأعمال لا تثير الفخر الثقافي فحسب، بل تؤثر أيضًا على حياة الناس وسبل عيشهم.

وتشمل الترشيحات الأخرى فن المنمنمات الأفغاني، تقاليد السيرك التشيلية، نسج الساري البنغلاديشي، وحمامات السباحة الأيسلندية، إضافة إلى المطبخ الإيطالي، ونبيذ "لا كومانداريا" القبرصي الذي يعود إنتاجه إلى ما قبل 8 آلاف عام.

ويُعقد الاجتماع داخل أسوار الحصن الأحمر في دلهي، أحد مواقع التراث العالمي للأمم المتحدة، والذي يُعد رمزًا لإبداع حكام المغول في القرن السابع عشر، ويستضيف الخطاب السنوي لرئيس الوزراء الهندي في عيد الاستقلال.

وقد أظهرت دراسة نُشرت في سبتمبر الماضي أن تلوث الهواء في المدينة يسبب تحول جدران الحصن الرملي إلى اللون الأسود باستمرار.

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة

مقالات مشابهة

  • ألكسو تهنئ قطر والدول العربية لإدراج البشت على قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو
  • الأردن يحتفل بإدراج شجرة الزيتون “المهراس” على قائمة التراث الثقافي
  • خالد أبو بكر: تسجيل الكشري بقائمة التراث الثقافي يعكس مكانة الإرث المصري وتجدده
  • الوفد المصري يحتفل بتسجيل الكشري في قوائم التراث الثقافي غير المادي
  • الكشري المصري في اليونسكو.. إدراج الأكلة الشعبية بقائمة التراث الثقافي غير المادي 2025
  • عاجل- اليونسكو تضيف "الكشري المصري" إلى قائمة التراث الثقافي غير المادي لعام 2025
  • اليونسكو تدرج ”الكشري المصري” على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لعام 2025
  • اليونسكو يدرج ”الكشري المصري” ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي
  • الكشري المصري يتصدر ترشيحات اليونسكو للتراث الثقافي
  • البشت الخليجي والكشري المصري ضمن الترشيحات النهائية لليونسكو للتراث الثقافي غير المادي