في مجموعة القاص الغزي الراحل مهند يونس، لا نعثر بسهولة على غزة المدينة والناس ولا على أسئلة الهوية الوطنية أو شعارات التصدي للاحتلال، كما اعتدنا رؤيتها في السرد الفلسطيني التقليدي، يقول مهند في حوار مع أصدقاء: لقد كُتب الكثير بهذه الطريقة، وعلينا نحن الأدباء الشبان، البحث عن صوتنا الخاص وسط كل هذه الأصوات الجماعية المكررة، وهذا ليس تنصلا من الانتماء للقضية والهوية بل هو بحث مشروع وطبيعي عن مقاربات وجودية أخرى للوطن، بمساندة من لغة عالية التأمل، يحفر السارد الذي مات منتحرا قبل عدة سنوات صوره في عالم غير مرئي، ويتعامل مع معطياته بمزيد من الغرائبية لغة ومضامين، مهند من جيل فلسطيني خاص، تجاهل وبشجاعة ميراث القصة الفلسطينية، وذهب إلى مناطق لم يجرؤ على طرقها أحد، كانت قصة غزة وإن كنا لا نحبذ تقسيم القص الفلسطيني مناطقيا، ترزح تحت إرث إبداعي راسخ تماما كما هو الوضع في الضفة والـ 48، وكان مجرد النظر من نافذة مختلفة إلى العالم يشبه خروجا عن عادات العائلة في المأكل والملبس، وطقوس الأعياد، تستحق غزة بكل حضورها المختلف وجغرافيتها العجيبة وتناقضات حياتها وغنى تاريخها الأدبي أن ُيدرس أدبها مرتبطا بسياقها الذي يختلف بوضوح عن سياق باقي مناطق فلسطين كالضفة أو فلسطين 48، في كتابه القصصي الذي صدر عام 1918 يتجول مهند مع الموت، يسائله ويترصد له ويفكك آلياته، والموت هنا ليس الموت الغزاوي المعتاد قصفا بصاروخ احتلالي أم رفضا من قبل الاحتلال لعلاج مريض بالسرطان بالقدس، أم اغتيالا لقادة من طائرات الاحتلال، الموت في هذا الكتاب واسع الأبعاد، وربما يكون موتا داخليا، غريب الحضور وفيه من المصادفات والتناقضات ما يكفي مهندا ليصوغ منه قصة قصيرة.

عاش مهند ثلاث حروب شرسة سنوات 1908 و1914 و1918 أذاقت فيها إسرائيل الويلات لقطاع غزة بنايات وأطفالا وعائلات، أصداء ويلات هذه الحروب، أحدثت فعلها داخل مضامين قصص مهند، لكن فعل التأثير هذا تجاوز إغواءات المباشرة في نقل الشعور والتركيز على الحنين ونزعات الأسئلة العادية و التحسر والغضب والشكوى، ذهب مهند إلى الموت الذي خبره قادما من محتل غاصب، فككه وذوبه في بوتقة تأملاته وهواجسه الوجودية العليا، لينتج منه سؤال الموت الكبير، فجاءت قصص الموت في الكتابة محولة من واقع أليم وفجائعي، إلى واقع فني سردي مواز وخال من الصراخ والدم الواضح.

الكتاب الصادر عام 1918 عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمَّان، والذي لُفِت النظر إليه من قبل (جائزة الكاتب الشاب) في مؤسسة عبد المحسن القطان، أحدث هزة إبداعية لطيفة في فلسطين، فهذا صوت شاب من غزة، يلفت الانتباه بقوة إلى مقترحاته الجمالية الجديدة، الكتاب السردي يضم تقريبا 30 قصة قصيرة، مكتوبة معظمها بضمير المتكلم، يشتغل فيها القاص الموهوب على تعاسة وحدة الكائن البشري، ووحشته في عالم بارد ومتوحش، ففي قصة كوب من مطر، كانت هناك سيدة مسنة تأتي إلى الراوي، الذي أظنه هو القاص نفسه، لتشتري الدواء من مسكنات وأدوية ضغط وسكري، ثم انقطعت فجأة العجوز عن المجيء، وصار الراوي يشتاق لها، وشعر كأنها جدته، حتى أنه لم يشطب اسمها من دفتر الديون، وزار الراوي مرة أحد أبناء العجوز وأعاد له الأدوية معتذرا ومُبلغا إياه أن أمه العجوز ماتت، ظل الكيس في الدرج من السنة الماضية يكتب القاص (لكن المطر عاد وأعاد لي الذكرى، وبالأمس ذهبت إلى المقبرة، أمضيت طول النهار هناك، تعرفت على قبرها بصعوبة، ليس من عادتي زيارة القبور، ولا أدري لم أفعل ذلك مع امرأة غريبة، لكني وصلت القبر ومعي كيس الأدوية، كان هناك كرسي ولم يكن هناك حارس، وجلست هناك طول اليوم صباحا ومساء وعشاء بذرت لها حبوب الضغط والسكري والنقرس، و كل بموعده، لم أسكب الماء لها، فقد الدنيا تمطر).

وعن تجربة مهند يونس السردية الجديدة تكتب لجنة التحكيم في جائزة عبد المحسن القطان على غلاف الكتاب: (تميزت المجموعة بمقاربتها لثيمة الموت عبر الغوص في سرديات الفرد والجماعة في حيز سياسي معدوم الأفق، حيث تلامس المجموعة السريالية من جهة وأسلوب قصة النثر من جهة أخرى، وهي تتمتع بلغة فنية واضحة تتوجها حبكة قصصية غرائبية غالبا ما تبدو مبتكرة وبخاصة على مستوى البحث الذهني، وحتى حين تبدو مباشرة تتحول إلى أداة مساعدة في عوالم أكثر تحليقا، موهبة القص واضحة والسرد أنيق محكم ومقتصد ومفعم بالإحساس العالي، مع تأمل وجودي عميق، وانتباه لعنصر الزمن بمعنييه الفلسفي والسردي).

من زمن طويل وأنا أحدس بأن الأدب الجاد والعميق والمختلف في فلسطين سيأتي من منطقتين اثنتين هما غزة ومناطق الـ 48 فهما زخم حياتيّ شاسع وأسئلة مركبة وتعقيدات جغرافية واجتماعية، وتحديات مربكة، في الـ 48 هناك مبدعون جادون ومثابرون يشتغلون على سؤال الهوية بأسلوب جمالي فائق، أبرزهم علاء حليلحل ومجد كيال، في غزة كان يمكن لحركة التحديث الشبابية هذه التي قادها المرحوم مهند يونس، أن تتحول إلى تيار لكن صاحبها ومفجرها انتحر فجأة وكأنه اعتبر أن الانتحار نفسه أيضا هو خروج عن القواعد. هل سيأتي شخص آخر ليكمل مسيرة تحديث السرد في فلسطين؟ للأسف لا أحد بعد مهند بعد غيابه الطويل استطاع أن يقنعنا بأن ثمة رحلة تحديث أخرى انطلقت، فتبقى مجموعة هذا السارد الغزي الحساس مثار إعجاب وحسرة في آن.

وهذه قصة قصيرة من المجموعة وقد تُرجمِت إلى لغات عدة وهي تلخص المنحى الوجودي في قصص المجموعة:

عائلة مؤقتة

(في طريق العودة إلى المنزل، هربًا من نصف محاضرة، سحبت نفسي خارجًا منها كالهارب من ساحة قتل، كانت بانتظاري سيارة أجرة، فوّت عدة سيارات قبل أن أركبها، لا أعلم لماذا استقللتها، وكان في المقعد الأمامي بجانب السائق رجل خمسيني، يبدو أبًا مثاليًا بحلة وشعر أشهب يساعدانه على لعب ذلك الدور بحرفّية. تقدمت السيارة عدة أمتار، لتركب إلى جانبي سيدة أربعينية، ولا أعلم لماذا اعتقدت أنها زوجة ذلك الرجل، لكن حبًا لكل النساء بأن يكنَّ أمهاتي، جعلني أعتقد أنها إحدى أُمهاتي. وبعد مسافة قصيرة، ركبت إلى جانبها، طالبة جامعية، لم يكن أحد من أصدقائي السيئين معي، ليعّلقوا عليها، لذلك وجدتها أقرب ما تكون لأخت لي، ربما من زوجة سريّة لأبي. استأذن السائق منّا لمشوار قصير، لُيِقل أحد الأطفال من الروضة في الطريق. أطفأ محرك سيارته أمام روضة الأطفال، لكن صوت الراديو لا زال موجودًا، نقلت نظري إلى جانبي، كان الصمت سائدًا، كذلك الصمت الذي يخيّم حول مائدة غداء عائلية مملة. جاء يتقافز لاهثًا، ربما في الخامسة من عمره، أجلسته الفتاة العشرينية في حضنها، فرحةً به، كأنما ترى طفلًا لأول مرة، كنت أنظر لهما وهما يضحكان لبعضهما البعض، فلمحتني لكنها لم تتوقف عن الابتسام. أنا ممتن جدًا لكوني أحد أفراد تلك العائلة المؤقتة. كان الرّكاب ينزلون في محطات مختلفة تباعًا، وشيئًا فشيئًا كانت عائلتي الجديدة تتفكك وتتلاشى، لم أعلم في أي محطة أنزل، كنت الراكب الأخير، وعندما نزلت، أدركت أنني بلا بيت).

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

برلمانية: هناك اهتمام كبير من جانب الحكومة من أجل الاستثمار خلال الفترة القادمة

قالت ميرفت الكسان ، عضو لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب أن هناك اهتماما كبيرا من جانب الحكومة من أجل الإستثمار خلال الفترة القادمة.

وأكدت الكسان فى تصريحات خاصة لـ"صدى البلد" أن مصر تستهدف ضخ استثمارات فى القطاع الخاص، وأن يكون هناك شراكة مع القطاع الخاص فى مجالات الزراعة والتصنيع و المواد الغذائية.

نائب الشيوخ: تراجع التضخم رسالة ثقة ودفعة مهمة لجذب الاستثمارمحافظة قنا: نعد خريطة استثمارية واضحة خالية من المعوقاترئيس الوزراء: إقبال الشركات العالمية على الاستثمار في مصر دليل السير على الطريق الصحيحمحافظ بورسعيد يشيد بقرار إنشاء شركة النادي المصري للاستثمار الرياضي| شاهد

وكان قد أكد رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، أن الرئيس عبدالفتاح السيسي وجه الحكومة بضرورة إطلاق حزمة كاملة من التيسيرات لجميع القطاعات في الدولة ووضع رؤية متكاملة بصورة كبيرة لعدد من القرارات من شأنها تساعد الاقتصاد المصري في النمو بشكل أسرع .. مشيرًا إلى أن الحكومة تبذل مع كافة الجهات المعنية، وبناء على توجيهات رئيس الجمهورية، جهد كبير في الخروج بأفكار كثيرة في هذا الأمر؛ في حين سيتم عرضها على السيد الرئيس، بحيث يتم رؤيتها تتحقق خلال الفترة القادمة.

وأشار مدبولي - خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده الأربعاء، عقب اجتماع الحكومة بمقر مجلس الوزراء بالعاصمة الجديدة - إلى التقارير الذي نشرته وكالة "فيتش" الدولية والخاص بالتصنيف الائتماني للاقتصاد المصري، موضحًا أن هذه المؤسسة الدولية المهمة التي تتابع اقتصاديات الدولة، قامت خلال تقريرها الاخير برفع للمرة الثانية توقعاتها لنمو الاقتصاد المصري خلال شهرين من 4.9 إلى 5.2 للعام المالي الحالي بناء علي الأداء الجيد جدا للاقتصاد خلال الربع الاول من العام .

وقال إن الوكالة الدولية أرجعت هذه الزيادة المتوقعة نتيجة زيادة الاستثمارات وزيادة الصادرات وتحسن المؤشرات الكلية للاقتصاد المصري والقطاع الخارجي وتوافر العملة الأجنبية واستقرار سعر العملات بالإضافة إلى توقعاتها بارتفاع إيرادات قناة السويس بصورة تدريجية خلال الفترة المقبلة وبالتالي أبقت المؤسسة تصنيف مصر عند المستوي B مع نظرة مستقبلية مستقرة .

وأضاف أن مؤسسة "فيتش" الدولية توقعت أن يحافظ الجنيه المصري على أدائه القوي أمام سلة العملات الأجنبية.. مشيرًا إلى أن كل هذه المؤشرات تعد مهمة جدا؛ للوقوف أمامها كونها تؤكد ما تقوله الحكومة بوضوح شديد دومًا من أن النمو الذي يحدث في الاقتصاد المصري قائم على إنتاجيه حقيقية وقطاعات رئيسية تعمل بغض النظر عن الظروف الموسمية او الصفقات أو الأموال الساخنة، هذا إضافة إلى إعلان البنك المركزي عن زيادة جديدة في الاحتياطي من العملة النقدية الأجنبية؛ والتي تبلغ 50 مليارا و216 مليون دولار بالمقارنة بالشهر الماضي بزيادة بلغت 145 مليون دولار خلال شهر .

وأوضح مدبولي أنه يلتقى - بصفة دورية - بمحافظ البنك المركزي على مدار الأسبوع حيث يوجد تنسيق كامل بين الحكومة والبنك المركزي في كل الإجراءات التي يتم التحرك خلالها بهدف تخفيض معدلات التضخم؛ وهو ما يؤدي لانخفاض تدريجي في أسعار الفائدة ويتيح فرصة أكبر للقطاع الخاص والمواطنين من الاستفادة من التسهيلات الائتمانية.. مشيرًا إلى أن الرقم الخاص بالتضخم لشهر نوفمبر أوضح انخفاض التضخم بشكل ملحوظ وأزال التخوفات من استمرار صعود التضخم حتي الشهر الماضي، لافتا إلى أن السبب الرئيسي لانخفاض التضخم هو انخفاض أسعار الخضروات والمواد الغذائية الأساسية على الرغم من ارتفاع أسعار وسائل النقل نتيجة ارتفاع أسعار الوقود؛ مما يثبت أن الإجراءات الحكومية كانت مناسبة وفي توقيت مثالي للوصول إلى النسبة الحالية من التضخم وصولًا إلى نهاية العام الجاري.

وأشار رئيس الوزراء إلى أن التضخم وصل - في المدن المصرية - إلى 12.3 مقارنة للشهر الماضي البالغ 12.5، وأن التضخم السنوي لإجمالي الجمهورية هو 10 %؛ وهو ما توقعته الحكومة للوصول إلى هذا الرقم بنهاية العام الجاري؛ وهو ما يؤكد أن الإدارة المشتركة لإدارة هذا الملف بين الحكومة والبنك المركزي تسير بشكل جيد . 

طباعة شارك الحكومة استثمارات القطاع الخاص الزراعة التصنيع

مقالات مشابهة

  • زحمة سير خانقة عند أوتوستراد ومداخل البترون.. ماذا يجري هناك؟
  • ترامب ينعي الضحايا الأمريكان في حادث سوريا.. و يهدد: سيكون هناك رد على داعش
  • مصطفى بكري: هناك رموز ستختفي والحكومة ستتغير بعد الانتخابات.. فيديو
  • الإنجاز الأعظم / مهند أبو فلاح
  • «أسبوع أبوظبي المالي».. مبادرات وشراكات عالمية ترسم مستقبل الابتكار المالي
  • فوائد واسعة لـالبابونج.. هل هناك أضرار في حال تناوله يوميا؟
  • قراءة في كتاب «وكأنني لازلت هناك» للدكتور صبري ربيحات
  • رسالة إلى العالم الآخر
  • برلمانية: هناك اهتمام كبير من جانب الحكومة من أجل الاستثمار خلال الفترة القادمة
  • الأمطار الغزيرة تغمر عشرات الخيام في خان يونس