لستُ بصدد الكتابة عن الدعم الأمريكي والغربي السافر للكيان الصهيوني؛ فهذا معروف ومعلن؛ لكن لا بد أن أشير إلى البيان المشترك الذي أصدره قادة الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة وفرنسا يوم الاثنين التاسع من أكتوبر 2023، والذي أعربوا فيه عن «دعمهم الكامل والثابت والموحد لدولة إسرائيل» فيما أسموه «في جهودها للدفاع عن نفسها وشعبها ضد مثل هذه الفظائع التي تقوم بها حركة حماس الإرهابية».
وفي الواقع فإنّ أمريكا أرسلت حاملة طائرات ثانية إلى شرق البحر المتوسط هي «يو أس أس أيزنهاور»، «لردع الأعمال العدائية ضد إسرائيل أو أيّ جهود لتوسيع الحرب، في أعقاب الهجوم الذي شنته حماس» حسب تصريح لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكي، وقد انضمت حاملة الطائرات الثانية، ومجموعة السفن الحربية التابعة لها إلى الحاملة «جيرالد فورد» التي جاءت إلى المنطقة، في أعقاب «طوفان الأقصى»، والهدف -كما قال أوستن- يشير إلى «التزام واشنطن الحازم بأمن إسرائيل وتصميمنا على ردع أيّة دولة أو جهة غير حكومية تسعى إلى تصعيد هذه الحرب»؛ والمقصود من كلمة «أية دولة» هي سوريا ولبنان وإيران، فيما المقصود من «أية جهة غير حكومية» بالتأكيد هو حزب الله.
لقد تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن علنًا غير مرة، بتقديم الدعم الكامل لإسرائيل، بما يعني إعطاءها الضوء الأخضر لارتكاب جرائم الإبادة والمجازر التي تُرتكب في غزة، غير آبه بالحكومات العربية والإسلامية؛ لأنّها بلا وزن ولا قيمة؛ وهذا الموقف يحرج حلفاء واشنطن في المنطقة، ويضعهم في وضع حرج جدًا أمام شعوبهم؛ فليس أصعب على الشعوب من أن ترى عجز قياداتها عن الدفاع عنها وعن أشقائهم، بل إنّ الأمر سيقود هذه الحكومات إلى أن توجه سهامها إلى الداخل خدمة للخارج، ويتأكد يومًا بعد يوم أنّ ما قاله ترامب عن بعض هذه الأنظمة هو صحيح، بأنه «لولا الدعم الأمريكي لها، لسقطت بعد أسبوعين فقط».
بلغ العجز الرسمي عن مساندة غزة مداه؛ فلم تستطع الدول العربية أن تساعد غزة وأهلها في شيء، لدرجة أن يصل الأمر بالإعلامي الإسرائيلي إيدي كوهين أن يغرد: «22 دولة عربية لا ثقل، لا هيبة، لا نفوذ. لم يستطيعوا إدخال كيلو رز إلى غزة. قمم فارغة. بيانات واستنكارات شديدة»، كما سبق أن غرّد بأنّ «أمريكا تقف مع إسرائيل بالسلاح، والعرب يقفون مع حماس بالدعاء فقط».
إنّ تغريدات إيدي كوهين وغيره -رغم حقيقتها المؤلمة- إلا أنها تمثل رسالة للجيل العربي الجديد، الذي يعيش العجز العربي الرسمي، هذا العجز سيُنشئ جيلًا عربيًّا جديدًا متمردًا، يرفض الذل ويرفض التبعية، ويبحث عن الكرامة المفقودة، حتى وإن كان عن طريق العنف؛ فطوفان الأقصى له ما بعده فلسطينيًّا وعربيًّا، وقد يلجأ هذا الجيل إلى استخدام اللغة التي تعرفها أمريكا ويعرفها الغرب، رغم التضييق عليهم أمنيًّا واقتصاديًّا، ولكن المعاناة دائمًا عندما تشتد فإنّ المقاومة تشتد وتستنبط طرقًا جديدة للبقاء والاستمرار.
ولكي نفهم اللغة التي تعرفها أمريكا، فيجدر بنا أن نعود إلى تاريخ الثالث والعشرين من أكتوبر 1983، أي قبل أربعين سنة من الآن، عندما ضربت شاحنتان مفخختان مبنيَيْن في بيروت، كانا يؤويان جنودًا أمريكيين وفرنسيين من القوة متعددة الجنسيات في لبنان، فأسفر الهجوم عن مقتل 307 أشخاص، منهم 241 أمريكيًّا و58 عسكريًّا فرنسيًّا وستة مدنيين ومهاجمين، واعتبر الحادث الأكبر من حيث عدد القتلى في يوم واحد لقوات مشاة البحرية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، فيما سجلت تلك الانفجارات، أسوأ خسارة عسكرية فرنسية منذ نهاية الحرب الجزائرية.
بعد العملية نصح وزير الدفاع الأمريكي كاسبار واينبرغر، الإدارة الأمريكية، بعدم تمركز مشاة البحرية الأمريكية في لبنان، وأوصى تقريرٌ صادر عن لجنة الدفاع الأمريكية بأن يقوم مجلس الأمن القومي بالتحقيق والبحث في طرق بديلة للوصول إلى الأهداف الأمريكية في لبنان؛ لأنه مع تباطؤ التقدم نحو الحلول الدبلوماسية، يستمر أمن قاعدة القوات الأمريكية متعددة الجنسيات بـ «التدهور»، في وقت هدّدت فيه المجموعة التي نفذت العملية أنّ «الأرض سترتجف» ما لم تنسحب القوات الأمريكية والقوات متعددة الجنسيات بحلول رأس السنة الجديدة. وفعلا أمرت الإدارة الأمريكية قوات «المارينز» بالانسحاب من لبنان، وهي تجر أذيال الخيبة والهزيمة والعار، وذلك في السابع من فبراير 1984، وكان الانسحاب الكامل في 26 من الشهر نفسه. وممّا أذكره جيدًا أني كنتُ أخطو خطواتي الأولى في عالم تحرير الأخبار في الإذاعة وقتئذ، فكان تعليق الزميل المحرر حمد بن رشيد آل جمعة «بأنّ الأمريكيين دقوها شردة» (أي هربوا)، وعلق التعليق في ذهني حتى هذه اللحظة؛ لأنّه لم يكن مجرد تعليق عابر، بقدر ما كان تعليقًا يعبّر عن اللغة التي تصلح لأمريكا في أيّ وقت وفي أيّ مكان. ولنا في فيتنام وأفغانستان مثلا؛ فرغم مرور نصف قرن على نهاية حرب فيتنام، فإنّ آثارها لا تزال باقية، كما يقول تقرير نشره موقع «ستريبز» الأمريكي بمناسبة مرور خمسين عامًا على الانسحاب الأمريكي من فيتنام، فقد أثارت الحرب خلافًا سياسيًّا كبيرًا في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أنّ خسائرها البشرية قُدّرت بـ 58 ألف قتيل، و304 آلاف جريح، وقد خرجت القوات الأمريكية بهزيمة مذلة وخسائر مادية وبشرية هائلة، ممّا خلّف صدمة كبرى في الداخل الأمريكي، جعلها بمثابة وصمة عار في تاريخ الجيش الأمريكي. وغير التدمير الذي تحدثه القوات الأمريكية في كلّ مكان، وغير قتل الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، لم تنتصر أمريكا انتصارًا عسكريًّا وإنما نجحت في خلق الفوضى فقط، وكانت حروبها كلها خاسرة وكارثية على البشر والحجر، وهذا ما شاهدناه في العراق وكذلك في أفغانستان، التي انتهت بانسحاب فوضوي للجيش الأمريكي عام 2021، بعد قتال استمر عشرين عامًا.
هؤلاء لا يعرفون إلا لغة القوة، ولو أنهم عوملوا بها في سوريا والعراق وفي أيّ مكان، هل كنا سنرى هذا التأييد للكيان الإسرائيلي على حساب العرب والمسلمين؟! وهل كنا سنرى احتلال دولة مثل العراق واستباحة سوريا؟! وذلك يقودنا إلى سؤال آخر وهو المهم: هل كان لأمريكا أن تنجح في استباحة الأمة لو لم يتعاون العرب معها؟!
وإذا كانت أمريكا نجحت في الماضي في فرض هيمنتها على الحكومات العربية، بفضل عضلاتها، فإنّ هناك عقلاء من الأمريكان يرون المسألة من منظور آخر، إذ حذّر دبلوماسيون أمريكيون، البيت الأبيض من أنّ بلادهم تفقد ثقة العالم العربي؛ بسبب الدعم النشط للعملية الإسرائيلية في قطاع غزة، وذلك من خلال برقية أرسلت من سفارة الولايات المتحدة في مسقط، إلى مجلس الأمن القومي الأمريكي ووكالة المخابرات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي. وبحسب ما نشرت “سي إن إن”، فإنّ البرقية كتبها ثاني أعلى شخص في السفارة الأمريكية في مسقط، مسلطًا الضوء على الغضب المتزايد ضد الولايات المتحدة في المنطقة.
وإذا كان عقلاء أمريكا يحذرون من فقد ثقة المواطنين العرب لبلادهم، فإنّ الحكومات العربية كذلك هي في مأزق أخلاقي وتاريخي، وهي تخسر من رصيدها الداخلي يومًا بعد يوم، وهذا المأزق سيقود الشباب إلى التمرد ليس عاجلًا ولكنه آتٍ لا محالة، وعندها سيقصد الشباب أو من يمثلهم المصالح الغربية في كلّ مكان، و«سيدقوها شردة»؛ لأنّ هذه هي اللغة التي يفهمها الغرب وتفهمها أمريكا تمامًا، وهي لغة الشعوب الحية في كلّ زمان، وهذا ما أشارت إليه برقية السفارة ضمنًا؛ لأنّ موات الشعوب العربية لن يستمر طويلًا، بعدما شاهدوا احتلال العراق، وتدمير سوريا وليبيا، وتقسيم السودان، والجرائم الصهيونية على الفلسطينيين. كلّ تلك الأحداث تتراكم في الوجدان الجمعي الشعبي العربي، وعندما تنفجر ستأكل الأخضر واليابس، فلم يعد للقمم والبيانات الجوفاء قيمة، ولا يتفاعل معها الناس؛ فلا القمم ولا البيانات تساوي قيمة روح واحدة أزهقت، ولا تساوي قيمة رصاصةٍ واحدةٍ تُقدّم للفلسطينيين للدفاع عن أنفسهم؛ فهذه الرصاصة هي أبلغ من مائة قمّة ومن مائة بيان إنشائي، ولا عزاء لمَن يفتخر بتقديم الأكفان للفلسطينيين.
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القوات الأمریکیة الولایات المتحدة الأمریکیة فی اللغة التی
إقرأ أيضاً:
محادثات مباشرة بين أمريكا وحماس بشأن وقف إطلاق النار في غزة وإدخال المساعدات
آخر تحديث: 12 ماي 2025 - 11:11 ص بغداد/ شبكة أخبار العراق- أكد مسؤول فلسطيني كبير مطلع أن محادثات مباشرة تجري بين الإدارة الأمريكية وحركة حماس بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة وإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر، في حين أعلن الجيش الإسرائيلي أنه سيوسع حربه على القطاع.وصرح قيادي في «حماس» بأن مسؤولين في الحركة أجروا مباحثات مباشرة مع الولايات المتحدة في الدوحة، وتم إحراز «بعض التقدم» بشأن إدخال مساعدات إلى غزة ومفاوضات وقف إطلاق النار. وقال القيادي، وهو عضو في المكتب السياسي لحماس: «تجري منذ عدة أيام محادثات مباشرة بين قيادة حماس والولايات المتحدة في الدوحة بشأن وقف إطلاق النار في غزة وتبادل الأسرى وإدخال المساعدات، وتم إحراز بعض التقدم»، لافتاً إلى أن «الساعات المقبلة حاسمة».وفي ضوء هذه المحادثات، أعلنت حماس أنها ستطلق سراح الأسيرالذي يحمل الجنسية الأمريكية عيدان إلكسندر.وكرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الآونة الأخيرة تعهده بالمساعدة في إيصال الغذاء إلى الفلسطينيين في غزة. وذكر مبعوث واشنطن إلى إسرائيل، الجمعة، أن آلية تدعمها الولايات المتحدة لإيصال المساعدات إلى القطاع ستدخل حيز التنفيذ قريباً. وكانت الولايات المتحدة أجرت في وقت سابق محادثات مع «حماس» بشأن إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين المحتجزين في غزة.وقطعت إسرائيل منذ الثاني من مارس جميع الإمدادات عن سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، ونفدت تقريباً جميع المواد الغذائية المخزنة خلال وقف إطلاق النار في بداية العام. وفي 18 مارس، أنهت إسرائيل فعلياً اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في يناير مع «حماس»، واستأنفت حملتها العسكرية في غزة.