مرفأ قراءة .. أمثولة «المقاومة» في خطاب رضوى عاشور
تاريخ النشر: 18th, November 2023 GMT
-1-
على مدى الحلقات السابقة اجتهد كاتب هذه السطور، تأثرًا بالأحداث الجارية على أرض فلسطين وغزة بل واستجابة كتابية لها أيضًا، في تتبع صورٍ من المقاومة في الخطاب الإبداعي (بعض أعمال روائي المقاومة الفلسطينية غسان كنفاني وبخاصة روايته الأهم «رجال في الشمس»)، وفي بعض نماذج من الخطاب البصري السينمائي (فيلم «عنتر ولبلب» من كلاسيكيات السينما المصرية)، وفي هذه الحلقة نحاول أن نعرض لنموذج آخر من نماذج تجليات «المقاومة» في الخطاب الإبداعي والنقدي في الثقافة العربية المعاصرة.
سنتخذ من كتابات الروائية والناقدة والمناضلة الراحلة رضوى عاشور نموذجًا لهذا البحث؛ خاصة وأن حياة رضوى عاشور وكفاحها العلمي ونضالها السياسي وإبداعها الأدبي وخطابها النقدي يكاد يتمحور كله حول هذه القيمة؛ قيمة «المقاومة» وتمثيلها أدبيًا وإبداعيًا ودراسيًا، وبحث تجلياتها وأشكالها ودراسة صورها في دراساتها الأدبية والنقدية (الرواية في غرب إفريقيا ودراسة خطاب ما بعد الاستعمار)، ودراسة خطاب غسان كنفاني الروائي والقصصي، «صيادة الذاكرة دراسات في النقد التطبيقي»، وغيرها من الكتب والدراسات.
أما روائيا فقد كانت رواياتها الكبرى كلها تمثيلًا لفكرة المقاومة ونقد ما بعد الاستعمار وتمثيل مأساة النكبة واحتلال الأرض واللجوء (راجع أعمالها المعروفة؛ ثلاثية «غرناطة»، «الطنطورية».. إلخ).
-2-
في كتابها الأخير «لكل المقهورين أجنحة» (دار الشروق 2019) الذي صدر بعد رحيل رضوى عاشور، وقد استقت محررة الكتاب عنوانه من تلك الحكاية «الأمثولة» التي أوردتها رضوى عاشور في النص الذي استهل به الكتاب فصوله ومواده، تقول الحكاية:
(حكاية «لكل أبناء الربّ أجنحة» من الحكايات المشهورة في التراث الشعبي الإفريقي-الأمريكي، وهو تراث زاخر، أنتجه الأفارقة من موقعهم المستجدّ في عالمٍ حُمِلوا إليه قسرًا، ليبدأوا فيه حياتهم على خشبة المزاد، ومنها إلى المزارع للعمل سخرةً تحت تهديد السياط.
يبدأ الراوي الحكاية قائلًا: «في سالف الأيام كان لكل الأفارقة أجنحة، كانوا قادرين على التحليق كالطيور».
ثم يحكي الراوي عن امرأة تعمل في المزرعة ولم تتعافَ بعد من الوضع.
يصرخ وليدها فتجلس لترضعه. يضربها سائق العبيد. تقوم للعمل ولكنها تسقط من شدة الوهن. يضربها من جديد، هكذا حتى تتطلع المرأة لشيخ إفريقي من العبيد، وتقول له بلغة لا يفهمها سادة المزرعة: «هل حان الوقت يا والدي؟» فيجيب: «حان الوقت يا ابنتي». فإذا بالمرأة تطير بصغيرها، وقد نبتت لها أجنحة.
يتكرر المشهد مع عبد آخر، وحين ينتبه سيد المزرعة ونائبه وسائق العبيد إلى أن الرجل المُعَمِّر هو مصدر الكلمات التي تجعل العبيد تطير يهجمون عليه لقتله، ولكن الشيخ يضحك ويوجه كلامه بصوت جهوري لكل عبيد المزرعة. «وأثناء حديثه كانوا يتذكرون كل الأشياء التي نسوها، ويستحضرون ما كان لهم من قوة فقدوها. ثم نهضوا جميعا معًا، العبيد الجدد والعبيد القدامى. رفع الشيخ يديه فقفزوا جميعا في الهواء، وهم يهتفون في صوت واحد. وفي لحظة كانوا يحلقون كسربٍ من الطيور... الرجال يصفقون والنساء يغنين والأطفال يضحكون... ولم يكونوا خائفين».
-3-
تعقب رضوى عاشور على هذه الحكاية الرمزية «العميقة» بقولها:
(ليست هذه مجرد حكاية أنتجتها المخيّلة الجماعية للعبيد الأفارقة، فيما عُرِف لاحقًا باسم الولايات المتحدة الأمريكية، تُصوِّر واقعهم، وتكسر طوقه، وتوسِّع عبر الخيال حدود عالمهم، فتعيد لهم الثقة في قدراتهم الإنسانية، ولكنها أيضًا حكاية نموذجية تلتقط قانونًا من قوانين النضال الشعبي من أجل التحرر، حيث «الذاكرة» شرط من شروط هذه الفعل التحرري. أتابع تفاصيل الانتفاضة الفلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطين المحتلة منذ عام 1948، أعود لهذه الحكاية. أتمتم: لكل المقهورين في الأرض أجنحة).
هذه التمتمة «التميمة» التي رددتها رضوى عاشور تكاد تصبح المفتاح الأساسي لفهم اختيارات رضوى عاشور في موضوعاتها التي تصدت لبحثها ودراستها في أطروحاتها الجامعية أو في بحوثها ودراساتها النقدية، وكذلك لفهم وتفسير موضوعات رواياتها الكبرى التي حازت انتشارًا واسعًا ومقروئية عالية جدا، ما زالت حتى وقتنا هذا، ورغم رحيلها منذ سنوات.
-4-
جاءت تسمية روايتها الضخمة «الطَّنْطورِيَّة» (التي صدرت عن دار الشروق للمرة الأولى عام) نسبة إلى قرية الطَّنْطورَة وهي قرية على الساحل الفلسطيني على بعد أربعة وعشرين كيلومترا جنوب حيفا.
تحكي رضوى عاشور أنه في ليلة الثاني والعشرين إلى الثالث والعشرين من مايو 1948 (ليلة السبت إلى الأحد) هاجمت العصابات الصهيونية القرية ضمن مخططها للاستيلاء على ما تبقى من قرى عربية على الساحل.
كانت هناك مقاومة عنيفة.
انتهت المعركة باستيلاء الصهاينة على الطَّنْطورَة والإعدام الجماعي لما يقرب من مائتين من رجال القرية فكانت مذبحة بحجم مذبحة دير ياسين، وعشرات المذابح الأخرى التي شهدها الساحل الفلسطيني والجليل الأعلى عامي 1947-1948.
بعدها حملوا من تبقى من الأهالي، النساء والأطفال في شاحنات إلى قرية الفريديس المجاورة، ومنها إلى الخليل، أما الرجال الذين لم يقتلوا فحملوهم إلى سجن في زخرون يعقوف وهي مستوطنة قريبة ومنها إلى معتقلات جماعية للأسرى.
هذه الواقعة التي قالت عنها رضوى عاشور: إنها وإن كانت لا تستغرق إلا فصلًا واحدا هو الفصل السابع من فصول روايتها، فإنها تكاد تمثل منطلق الرواية ومركز الثقل في أحداثها التي تتناول مصير ومسار رقية الطَّنْطورِيَّة وأسرتها من تلك اللحظة إلى وقت كتابة الرواية، مرورًا بتجربة اللجوء إلى لبنان.
وعلى هذا، فقد جددت رضوى عاشور تجربتها المميزة في استلهام التاريخ القريب (كما استلهمت التاريخ البعيد في أحداث روايتها «غرناطة» لتعيد كتابة سردية المأساة الفلسطينية، النكبة والتهجير واللجوء والتشريد في المنافي.. إلخ.
ورضوى عاشور من كتاب الرواية الذين يؤمنون بأن الرواية عمومًا هي النوع الأدبي الأكثر اشتباكًا بالواقع التاريخي، لها ما لباقي الفنون من قدرة على ربط الخاص بالعام، والفكرة المجردة بالحياة التي تستعصي على التجريد، ودمج التسجيلي بالمُتَخَيّل، في إطار بنية متكاملة تحيل إلى معنى كليٍّ، يخلخله نسيجٌ لا تخضع عناصره جميعا لذلك المعنى، بل تنفلت مـن أسـره لتولِّد بدلًا من المعنى الواحد القاطع، معاني مفتوحة على المتعدد من التأويلات.
-5-
إن «الطنطورة» و«قيسارية» و«عين غزال» و«صفورية» و«حيفا» و«صيدا» و«بيروت».. وغيرها مما يرد في الرواية من أماكن، هي تاريخ وجغرافيا، أما الشخصيات فكلها متخيلة.
هذه الشخصيات المتخيلة التي تجسدت على الورق وضمن شبكة أحداث السرد في الرواية تجلت في أسماء «رقيّة ووصال وصادق وحسن وأبو الصادق وأبو الأمين».. وعشرات الشخصيات الأخرى كأي شخصيات روائية تقول عنها رضوى عاشور: جاءتني كالعفاريت، لكنها عفاريت غريبة لأنها خلافًا للعفاريت، مجبولة بطين التاريخ والجغرافيا والوقائع. طبعا قرأت كثيرًا لأعزز معارفي عن التاريخ الفلسطيني: النكبة ومخيمات اللاجئين في لبنان والحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، ومذابح صبرا وشاتيلا. استمعت إلى شهادات مسجلة. تطلعت مطولا في الصور والخرائط وحسبت المسافات بين قرية وقرية... إلخ.
في هذه الرواية بالتحديد عايشت رضوى عاشور كل أحداثها سواء منها المرجعي أو المتخيل للدرجة التي تكتب فيها نصا وطوال فترة الكتابة علقت بالقرب مني خريطة كبيرة مفصّلة لفلسطين تظهر أصغر القرى وخطوط الطرق والسكة الحديد... نعم هناك جهد توثيقي لا غنى عنه. ولكن الجغرافيا والتاريخ الشفهي والمكتوب لا يحلّ المشاكل الروائية. المشاكل المعتادة، والمشاكل الخاصة بنص يتناول واقعًا قاسيًا.
أتساءل: كم مذبحة يمكن لنص روائي واحد أن يحتمل؟ كم كارثة يمكن للقارئ أن يتحمل؟ قد تخنقه الوقائع فيهرب. لا أسهل من هروب القارئ. يُغلق الكتاب وينصرف إلى أمر آخر. هل أحاول التخفيف عنه قليلا، أُضحكه؟ أسليه؟ وكيف أضحكه، وأنا أحكي له حكاية حزينة؟
هذه الحالة الفريدة وهي تحت وطأة الكتابة تجعلها لا تفتعل الضحك أبدا، تترك أصابعها تتحرك على أزرار «الكيبورد»، تترك لخبرتها بالبشر أن توجد تفاصيلَ حياةٍ لهذه الشخصية أو تلك. نعم، إنها تكتشف وبتلقائية أن الناس تضحك وتأتي أفعالا مُضحكة، وتفرح وتتزوج وتنجب وتغني من قلب قلبها حتى وهي تحت وطأة النكبات، هكذا البشر، وهكذا أيضًا قوة الحياة. تسميها بلا حرج: مقاومة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ة التی
إقرأ أيضاً:
خطاب منتظر للدالاي لاما قد يثير غضب الصين
من المنتظر أن يلقي الزعيم الروحي للتبت، الدالاي لاما، خطابا خلال أيام بحلول عيد ميلاده الـ90 أمام تجمع كبير من رجال دين بوذيين، في وقت ينتظر فيه أتباعه الإعلان عمن سيخلفه، في خطوة قد تثير غضب الصين.
وسيبلغ الدالاي لاما الـ14 سن الـ90 يوم الأحد المقبل، وقال من قبل إنه سيتشاور مع كبار الرهبان البوذيين وآخرين في ذلك التوقيت للإفصاح عن مؤشرات محتملة عمن سيخلفه بعد وفاته.
وتعتبر بكين الدالاي لاما، الذي غادر التبت في 1959 بعد فشل انتفاضة على حكم الصين، انفصاليا وتقول إنها هي من ستختار من سيخلفه. وقال الدالاي لاما إن خليفته سيكون شخصا ولد خارج الصين وحث أتباعه على رفض أي شخصية تختارها بكين.
وقال الدالاي لاما لحشد من أتباعه اليوم الاثنين وهم يدعون له بطول العمر "ما تبقى من حياتي سأهبه لنفع الآخرين قدر المستطاع". مضيفا أنه "سيكون هناك نوع من إطار العمل الذي يمكننا أن نتحدث عنه بشأن استمرارية مؤسسة الدالاي لاما"، دون أن يذكر المزيد من التفاصيل.
وقالت الصين في مارس/ آذار إن الدالاي لاما في منفى سياسي "ولا يحق له تمثيل شعب التبت بأي شكل". وأضافت أنها منفتحة على مناقشة مستقبله إذا اعترف بأن التبت وتايوان جزآن من الصين وهو أمر رفضته حكومة التبت في المنفى.
والدالاي لاما هو لقب معناه "المعلم الروحي ذو الحكمة العميقة كالمحيط"، أما اسم الدالاي لاما الـ14 فهو تينزن غياتسو المولود في السادس من يوليو/تموز 1935، ويعيش حاليا في المنفى في مدينة دهارماسالا، شمال الهند منذ عام 1959.
وكانت التبت منطقة ودولة سابقة في آسيا الوسطى وموطن الشعب التبتي حتى 7 أكتوبر/تشرين الأول 1950 بعد انتصار الجيش الصيني على الجيش التبتي وضم التبت إلى الإدارة الصينية، وبعد انتفاضة شعبية على الحكم الصيني تم نفي الدالاي لاما إلى الهند حيث أسس حكومة في المنفى تقول بحقها في السيادة على التبت بحدود تطلق عليها "التبت التاريخية".
إعلانويتم اختيار الدلاي لاما في عملية روحية قد تستغرق عدة سنوات، تبدأ بعد وفاة الدالاي لاما حيث يُعتقد أنه سيعاد تجسيده في طفل جديد، ويتم إرسال فرق من الرهبان إلى أنحاء التبت للبحث عنه وفق اختبارات روحية، وبعد التأكد من هوية الطفل يعلن رسميا أنه الدالاي لاما الجديد وينقل إلى دير خاص حيث يتم تعيين أحد كبار الرهبان للإشراف عليه وتدريبه وتولي مسؤولية الشؤون الدينية والتعليمية.
وحاليا هناك توتر سياسي حول هذه العملية، خاصة بسبب تدخل الحكومة الصينية ومحاولتها فرض مرشحها الخاص، حيث ترى أن تعيين خليفة للدالاي لاما خارج سيطرتها أمر يهدد شرعيتها في إقليم التبت الذي باتت تعتبره جزءا لا يتجزأ من أراضيها منذ ضمه إليها.