صدمة المعايير وثورة الإنسان في غزة
تاريخ النشر: 20th, November 2023 GMT
حين يبلغ مجتمع حالة من الامتلاء الروحي ويتعالى عما هو معتاد في عالم الأشياء، فإن يمتلك حتما معايير ذهنية وروحية مختلفة تماما عما هو سائد بين عموم البشر سواء في الحكم على الأشياء أو في الحكم على الأحداث، وسواء في النظرة إلى الجغرافيا وسواء في النظرة إلى الزمن.
عملية طوفان الأقصى لم تكن مجرد منازلة عسكرية أو مجرد استعراض لرشاقة قتالية، بل كانت "تجليا" معنويا في لحظة امتلاء روحي بعد فترة غير قصيرة من الإعداد والإمداد وبعد جهد غير قليل في التنشئة والتعبئة.
إن العالم بما يرزح تحته من أثقال الأشياء وبما يخالط نفسه وعقله من الأهواء والأنانية والشهوانية لا يمكنه أن ينظر لما حدث فجر 7 تشرين الأول/ أكتوبر نظرة فهم وتقدير، وذلك لعدم امتلاك المعايير العقلية والروحية المؤهلة لفهم لحظة "التجلي" تلك ولاستيعاب فيضها المعنوي والروحي والأخلاقي والفلسفي.
ينظر العالم المثقل بالأشياء الى غزة على أنها منطقة حرب تقيم فيها مجموعة بشرية متدربة على القتال وتحمل فكرة معادية.. لا يفهم هذا العالم الذي غرق في "التفاهة" والذي يعاني فراغا تحت سطوة اللا معنى؛ كيف "يحيا" أهل غزة، وكيف تكون فلسفة الحياة مختلفة تماما عندهم عن عادة "العيش"، وكيف يخترق مفهوم الزمن في غزة الزمن الدنيوي ليفتح مباشرة ودون توقف على عالم الآخرة.
غزة منشأ لإنسان جديد يقدم عرضا غير مسبوق في فلسفة الحياة سيحتاج عالم الأشياء جهدا غير يسير لمغادرة منطقة "العيش"؛ عله يفهم بعض غزة وعله يمتلك معايير للحكم عما يحدث وعما سيحدث بعيدا عن الأرقام وعن الصورة وعن خراب أصاب الإنسان المتداعي قبل أن يصيب الجدران وخرسانات الإسمنت والحديد.
في عالم الأشياء تُحسبُ المكاسب والخسائر أرقاما وكمياتٍ، وهي عملياتُ إحصاء لما يتبقى أو لما يزول من بعد بقاء الفرد على قيد "العيش"، فالفرد هنا هو المعنيُّ بقبض المكاسب أو دفع الخسائر، وهنا لا وجود لمفهوم التضحية ولا لمعنى الصبر ولا وجود لقيم الإيثار والعطاء والسخاء ولا حضور لفضيلة الإقدام ولا لميزة علوّ الهمة ورفعة النفس.
ولكن معايير الربح والخسارة تختلف كليا في عالم المعنى، فهي معايير خارج الأرقام والكميات، إنها معايير في علاقة بفلسفة الحياة وبمعنى الحضور في الزمن بما هو استمرار يتجاوز الدنيوي إلى الأخروي، حيث يظل الإنسان "حيّا" في فعله الإيجابي سواء استمرت كينونته الجسمانية أو اندثرت في طريق التضحية والفداء والعطاء. إن المساهمين في الدفاع عن الحياة وفي الانتصار للشرف والعزة والكرامة لا يموتون، وهم لا يخسرون مما لا قيمة له، طالما أنهم لم يستسلموا ولم يتآمروا ولم يغدروا ولم يساوموا.
إن الخاسرين في معركة الحياة هم من يخسرون أنفسهم حين يتنازلون عن شرفهم وكرامتهم وحين يقبلون بالمذلة والمهانة، ولن ينعموا بمعنى الحياة حتى وإن استمروا في كينونتهم الجسمانية حيث لا يختلفون مع بقية الكائنات غير العاقلة في خضوعهم لقانون العيش وفي فقدانهم الإرادة والحرية والكرامة.
إن كثيرين لا يفهمون كيف يُقْدم المقاوم على عدوه بكل تلك الشجاعة في معركة غير متكافئة القدرات المادية وغير متناسبة في الجغرافيا وفي حجم الدعم الدولي، لا يفهمون كيف يستقبل المقاوم الموت مبتسما وكيف يودع أحباءه دون عويل، لا يفهمون أن ذاك المقاوم ينتمي إلى عالم المعنى رغم أنه يقيم على أرض ويتحرك في زمن ويمشي في الناس، ولكن الأرض عنده ليست مجرد جغرافيا، إنها أمه التي تحضنه وهي التي تمده بالشوق للحياة فيها وبها، فلا فرق عنده بين أن يحيا عليها أو أن يحيا فيها فلن تُفقده أي قوة باطشة عشقه لتلك الأرض ولن يقدر أحد على إخراجه منها حتى وهو يقدّم جسده ثمنا في طريق تحريرها. إن المقاوم ممتلئ بيقين دافئ لا ينازعه خوف ولا شك ولا تردد، إنه يقين الانتصار في معناه الوجودي الفلسفي يتجاوز معه مفهوم الغلبة المادية يحققها الأكثر بطشا والأقدر على الفتك والهدم والتدمير.
معايير اللذة في عالم الأشياء هي معايير مرتبطة بالحواس حيث الاتصال الحسي المباشر بالأشياء، فاللذة عند "الأشيائيين" إنما هي لذة حسية ناتجة عن ملامسة مادية للأشياء تتحقق بعدها المتعة في معناها الشهواني الغرائزي.
أما "المعنويون" وإذ يباشرون عالم الأشياء فإنهم يتجاوزونه إلى ما هو أرقى وأنقى، وإنهم يجدون اللذة بذائقتهم الرفيعة وبوجدانهم اللطيف وبروحهم المتحررة المنجذبة إلى عوالم الكمالات والجمال والحرية والحب، إنهم يمسّون لذة لا مادية بغير حواسهم، إنما يجدون تلك اللذة في سعادتهم وراحتهم النفسية وفي تحررهم من القلق والتوتر والخوف والمذلة والأنانية والندامة والحسد والغلّ.
تلك اللذة لا يفهمها ولا يجدها من تخشّبت أرواحهم ومن صدئت قلوبهم ومن اهتاجت غرائزهم فلا تغريهم الملذات المادية يخوضون لأجلها خصومات تافهة وصراعات منحطة بطرائق حيوانية خسيسة، فلا تعنيهم قيم الصدق والإيثار والتعفف ولا يتأثرون بكونهم يفتقدون الشهامة والشجاعة والكرامة، بل إنهم يسخرون ممن يحدثهم في الرجولة والكرامة والصدق.
اللذة اللا مادية تلهم أصحابها القوة والعزم وتضفي، عليهم وقارا ومهابة، أما اللذة المادية فإنها تحول أصحابها إلى كائنات غرائزية تلهث خلف شهوات لا تحقق لأصحابها إشباعا ولا يقنعون منها بمقدار، إنهم كمن يكرع من بِرْكة مالحة كلما امتلأت بطنه ازداد ظمأ.
twitter.com/bahriarfaoui1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه معايير غزة غزة المقاومة معايير المعنويات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی عالم
إقرأ أيضاً:
صدمة في واشنطن من مواجهات البحر الأحمر وسط توقّعات بإقالة قادة الأسطول الأمريكي
الثورة /متابعات
دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تبنّي «تكتيكات الحوثيين» ضمن المناهج التعليمية في الأكاديمية العسكرية «ويست بوينت».
وتأتي هذه التصريحات في خضم تصاعد العمليات التي تنفذها قوات المسلحة اليمنية في البحر الأحمر، مما وضع الأسطول الأمريكي أمام واقع ميداني جديد يتطلب إعادة صياغة الاستراتيجيات الدفاعية والهجومية.
وقال ترامب إن “الوقت حان لفهم تكتيكات العدو الذي لا يملك حاملات طائرات ولا قواعد منتشرة حول العالم، لكنه قادر على شلّ حركة سفننا الحربية بصواريخ دقيقة وطائرات بدون طيار منخفضة التكلفة”، مؤكداً على ضرورة إعادة تقييم الاستراتيجيات الدفاعية والهجومية للولايات المتحدة، لا سيما في مجال تطوير الصواريخ والمسيرات.
تصريحات ترامب تأتي في ظل صدمة داخل أروقة القرار الأمريكي، بعد المواجهات غير المسبوقة في البحر الأحمر، والتي دفعت إدارة ترامب في وقت سابق إلى سحب قطع بحرية من المنطقة، رغم الحملة العسكرية الواسعة التي خاضتها واشنطن ضد قوات صنعاء، واستُخدم فيها أحدث العتاد العسكري.
وكان نائب الرئيس الأمريكي دي جي فانس قد حذّر قبل أيام من تلاشي النفوذ الأمريكي حول العالم، مشيراً إلى أن تغير طبيعة الحروب وتقدّم خصوم الولايات المتحدة في مجال “الحرب غير المتكافئة”، يشكّل تهديداً استراتيجياً خطيراً.
وتُظهر هذه التصريحات أن واشنطن، التي لطالما تصدرت المشهد العسكري العالمي لعقود، تعيش اليوم واحدة من أصعب لحظاتها، في ظل فشلها في حسم المعركة في البحر الأحمر، حيث فاجأت القوات اليمنية العالم بقدراتها التقنية والتنظيمية، وبتكتيكات فرضت واقعاً عسكرياً جديداً على القوى الكبرى.
ويرى مراقبون أن دعوة ترامب لاعتماد “منهج الحوثيين” كمادة دراسية في أهم مؤسسة عسكرية أمريكية لا تعني تمجيد خصم، بل تعكس اعترافاً صريحاً بقوة خصم نجح في إحداث نقلة نوعية في ميدان المواجهة، وفرض معادلة جديدة تتجاوز المعايير التقليدية للتفوق العسكري.
إلى ذلك بدأ قادة في الأسطول الأمريكي، وعلى رأسهم أفراد من طاقم حاملة الطائرات «يو إس إس هاري ترومان»، بالإدلاء بشهاداتهم حول طبيعة المواجهات التي خاضوها في البحر الأحمر ضد القوات اليمنية. ويأتي ذلك وسط تسريبات عن نية وزارة الدفاع الأمريكية إجراء إقالات جماعية بحق قادة الأسطول عقب ما وُصف بـ»الهزيمة الميدانية الصادمة».
وكان أبرز من قدّم إفادته قائد المدمرة «يو إس إس ستوكديل»، جاكوب بيكلهايمر، الذي أقرّ بصراحة بأن حجم الهجمات التي تعرض لها الأسطول فاق كل التوقعات، مشيراً إلى أن وابل الصواريخ والطائرات المسيّرة التي أطلقتها القوات اليمنية لا يمكن مجاراته، في ظل عجز تكنولوجي أمريكي واضح عن صدّ الهجمات المركّبة.
وبحسب ما نقله موقع « بيزنس انسايدر» الأمريكي فإن من وصفهم بـ»الحوثيين» يطلقون وابلا من الصواريخ والمسيرات بما يجعل من الصعب مضاهاته .. وكان جاكوب يتحدث عن هجوم فقط تعرضت له مدمرته من أصل عشرات الهجمات..
وقال جاكوب أنه رغم إدراكهم بتعرضهم لإطلاق نار في اليمن، إلا أنها المرة الأولى التي تتسارع فيها دقات قلبه خلال الهجوم الذي وقع أواخر سبتمبر الماضي في إشارة إلى وصول الهجمات مستوى لم يكن يتوقعه وربما شعوره باحتمال إغراق المدمرة وموت البحارة.
و»ستوكديل» تعد واحدة من البوارج التي نشرتها القوات الأمريكية في البحر الأحمر وكانت ابرز الاجنحة الحامية لحاملات الطائرات «يو اس هاري ترومان»..
وتأتي تصريحات جاكوب مع إنهاء الولايات المتحدة سحب الاسطول من البحر الأحمر وسط ترتيبات لإقالة قادة الاسطول الأمريكي نظير إخفاقه في البحر الأحمر ..
وستوكديل واحدة من عدة بوارج شاركت الاسطول «ترومان» وكادت تقع بكارثة مع تعرض حاملة الطائرات لهجمات قاتلة خسرت خلالها مقاتلين من نوع اف -18، التي تتولى حمايتها في اقل من أسبوع.