لحسن أوزين التحول: ما الذي يمكن أن تقدمه المقاربة الفلسفية؟ ” تخبرنا أعمق المفاهيم الفلسفية شيئا كالآتي: لو أردت لحياتك أن يكون لها معنى، عليك تقبل الحدث، عليك البقاء على مسافة من السلطة، وعليك أن تكون حازما في قرارك. هذه هي القصة التي ترويها الفلسفة لنا دوما، تحت أقنعة كثيرة مختلفة: أن تكون في الاستثناء، في حالة الحدث، أن تحافظ على مسافة من السلطة، وأن تتقبل عواقب الأمور، وأيا تكن صعوبتها.

” آلان باديو قد تبدو لنا القراءة السابقة للمفارقات والالتباسات مجرد تأويل/شر لا بد منه. يسمح لنا بالمزيد من التفكير العميق القادر على اكتشاف السؤال/ التفكير. الذي بإمكانه إلقاء المزيد من الضوء على الحدث الذي أنتجته رواية رسائل المتحول. يضعنا الاختيار والقرار الصعب الذي أقدم عليه الأستاذ الجامعي في الاستجابة لرغبة دفينة في عيش تجربة التحول، أمام حالة من التصدع والتمزق، في الموضوع والفكر. يتخذ هذا القرار الصعب والمؤلم للذهاب بعيدا في معنى التحول المسيج والمأسور داخل بنيات ثقافية واجتماعية ودينية وسياسية قهرية وقمعية، وشديدة التقليد والتكريس لبديهيات الثوابت والهوية والاستقرار. سواء من قبل الدولة أو المجتمع، أو من طرف نخبه اليمينية واليسارية والاسلاموية… ولتجاوز هذا الموات الأبدي، الخاضع للتكرار القهري، يُقبل المُتحول على قرار صعب في محاولته خلق نوع من التمزق و الانقطاع في جسده، وفي الجسد الاجتماعي المألوف المتلبس قوانين الطبيعي، كحتمية معقولة، لا مفر من قدريتها. تذهب الرواية، كشكل فني إبداعي في هذا الاتجاه خاضعة لمنطقها الداخلي وآليات اشتغالها، في خلخلة السائد والموروث الثقافي الاجتماعي، المسكون بالخوف والعداء، في فهم وعيش وحلم التحول، في محدودية سقفه المحكوم بقواعد الاعتيادي المعروفة ضوابطه وقياساته، في علاقاته، و قوانينه الاجتماعية والثقافية والسلطوية والأخلاقية المفعمة بالنفاق. ” كثيرة هي الاسرار التي ستكتشفين، وموجعة هي المفارقات التي ستواجهك، ستكونين وحدك دون سند في هذا العماء القاسي، وستطرحين ألف سؤال وسؤال: لماذا يا بابا؟ لا أجوبة أقدمها لك. كل شيء يعتمد على مدى تقبلك لفكرة التحول نفسها. إما أن تلعنيني وتتبرئين مني، وهذا أكيد، وإما أن تنقبي في طمي النهارات المكرورة والعادية عن لون الطمي الغامق الذي يختزن في مادته أمطارا ورياحا وشموسا وأعاصير وهزات أرضية، كان لا بد منها لكي  يشتغل الكوسموس. تصوري ماذا لو كان العالم كله بلون من طبقة رسوبية واحدة: لا أسرار، لا تناقضات، لا آلام، لا صدمات، كل شيء عادي..؟ كنت ستلعنين هذا الكوكب الممل الرتيب الذي يشبه مواعظ فقهية طاعنة في الضجر.”199  يضعنا المتحول أمام مسافة مرعبة ورهيبة، بعيدا عن المتعارف عليه في العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية. يدخل في علاقة ضدية مفارقة مع هذا الوجود الاعتيادي الممل الرتيب. يستنطق المقموع والصامت والقابع في النفس، في زواياها المعتمة، المانعة لإيقاظ الفكر والعلم والحب والسياسة. لهذا لم يقف عند سقف التحول المهني، والترقية التي سيحصل عليها بعد عودته من أمريكا حاملا شهادة تأهيلية في التواصل. بدا له هذا السقف في التحول الشخصي مقززا، واعتيادي الى حد الغثيان. لذلك اختار وقرر الدخول في علاقة مفارقة مع كل مسوغات هذا التحول المانع للتحول الحقيقي. ” كان من الممكن أن أعود إليك من أمريكا بطلا من ورق، يحمل شهادة جامعية تثبت نجاحه في اختبارات التواصل. سيعترف الجميع بي، وربما رفعوني الى منصب العمادة في جامعة ابن طفيل، لكني اخترت اختبارا آخر، أن أجبر نفسي على الاعتراف بحقي في إخضاع الحرية لأشرس أنواع التناقضات، وأنا واثق أنك ستجدين من ينزل جثتي من حبل المشنقة، ويدفنها كأية مادة انتهت صلاحيتها الوجودية.”200 هكذا يورطنا المتحول بين طيات الانقطاع الذي تفكر فيه، وتنتجه الرواية كإبداع يقاوم الموات الابدي، الذي يرخي ظلاله المقرفة على الواقع الحي، لاجما حركة التطور والتحول والتغيير. ” في التضاريس التي تسكن شراييني، كان الوطن يتلكأ في الولادة. ما الذي تحقق منذ أربعين سنة من الاستقلال؟”197 يعني هذا أن قرار المتحول يزيل عنا بجرأة  ورقة التوت القيمية والثقافية والأخلاقية، التي نتستر وراءها، بدعوى الهوية والقيم والخطوط الحمر التي يُجرّم التفكير فيها، أو بالأحرى الإقدام عليها، والعمل على تخطيها. لذلك نلاحظ أن كل هذه السلط القهرية تدخل في علاقة تناقض متفاوت الحدة والشدة والقوة، مع الحدث الذي أنتجه الاختيار الحر المرعب للمتحول، في تأزيم التحول، وتأزيم الفكر المتشدق أو المهتم والمعني بمسألة التحول. علاقة مفارقة تأخذ شكلها الأقصى المتجسد في حرية الفرد في اختياراته وقرارته. كما لو أننا إزاء حدث استثنائي يخلخل ويمزق مفارقة العلاقة بين الاعتيادي المألوف والاستثناء المجسد للرضة والانقطاع. تدعونا الرواية الى تحمل عبء ومعاناة ألم التحول الأقرب الى البتر النفسي/الجسدي لأنساق ثقافية ورمزية، اجتماعية وقيمية ودينية اكتسبت قيمة العضوية الحية فيما يشكلنا جسديا وروحيا. الى درجة يصعب القبول ببترها والتخلص من طبيعتها الورمية الخبيثة( هكذا هي مثلا الأبوية بنزعتها المركزية الذكورية)، التي تحول بيننا وبين الحياة في تدفق شلالاتها الهادرة المتدفقة، بالمسرات والافراح والتحولات النوعية، التي تعلي من شأن قيمة الانسان، في عيش مشروعه الوجودي، في خلق القطائع، وإضاءة المسافات المرعبة التي ينتجها الحدث، كتناقض وبديل لما هو سائد ومعروف ومألوف. لهذا ترفع الرواية من قيمة الاستثناء بآليات الحب التي تحضنه. والمتمثلة في مجموعة من الأصدقاء وحدتهم عذابات آلام مخاضات التحول. دون أن ننسى التجلي الفني والجمالي لقيمة هذا الحب في علاقته بجميلة ، و ديونيز إشراق. ” آه يا ديونيزوس العظيمة، أنت حصان طروادة الذي تختبئ فيه أسراري لكي تقتحم أسوار المدينة”199 لم يكن أصدقاء الأستاذ المغاربة وعلى رأسهم بشير حمراوي بقادرين على فهم قرار التحول. لأن سقف رؤيتهم محدود، وأفقهم لا يتجاوز عملية إعادة الإنتاج. لهذا تصرف بشير تبعا لنمطية الاعتيادي المألوف المعبر عن القهر الابوي السلطوي، بنزعته الذكورية. فكان صعبا عليه وعي المسافة التي أنتجها المتحول. لأنها مفارقة في علاقتها لما يحكم ويؤسس مرجعية ورؤية بشير ومن معه. إنها علاقة ضد العلاقة. هذا هو السؤال الفلسفي العميق الذي تثيره وتفكر فيه الرواية( وليس بالضرورة الكاتب) كمشكلة فلسفية حقيقية، تؤسس لوضع فلسفي جدير بهذا الاسم. والصعوبة نفسها في قبول وتقبل والاعتراف بالحدث، بحق الاخر في اختلافه وحريته الفردية، يمكن أن يعيشها الكثير من القراء المنمطين والمطبعين اجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا…، الذين لا يتسع عقلهم لأكثر من فكرة الوفاء الزائف للفضيلة والأخلاق، والهوية والاستقرار… يخشون التمزق والقطائع، وعيش الحدث الاستثنائي الذي لا يشبهه شيء. إنه العلاقة الضدية التي تأخذ شكل المفارقة الى حد التناقض مع ما هو سائد ومسيطر. وهنا يكمن بعدها الفلسفي العميق في طرح مفهوم التحول. كمسافة جهنمية بأهوالها المرعبة، يصعب عبورها بالنسبة لعقلية السلطة والمعرفة والأعراف والقوانين…، التي تعمل على إيقاف التفكير. هذا ما يسميه آلان باديو بالفلسفة، أوالتفكير الفلسفي الذي يتولد من الشرخ والتمزق والانقطاع، بوصفه مفارقات لما هو اعتيادي. فقرار التحول تصعيد للفكر النقدي تجاه المألوف الذي يحد مما يمكن أن يؤسس للفن، للإبداع، للحدث بالمعنى الفلسفي المعبر عن الاستثناء. أي، كل ما يعري أشكال الجبن والخوف والفوبيا المرضية التي تولدها الحقارات، في الأفكار، في الرؤى، في الانفعالات والمشاعر والعواطف. لذلك صعد المتحول من الانتهاكات والتمزقات، وهو يخوض حسابا عسيرا مع الذات في ترددها، في جبنها، في حقاراتها عندما تعرضت صديقته تالا المومس للعنف الذكوري الشرس. ” هل هذا هو التحول؟ تساءلت، لكن في أعماقي، كنت ما أزال أحمل حقارات الآخرين، إنها عاهرة وتستحق القتل… خجلت من نفسي، إنها امرأة تقاسمني الإيجار، وتحترم خصوصياتي، وهذا هو المهم.”202  هو يعرف شراسة المعركة التي يخوضها مع الذات. لأن من لا ينتصر على ذاته في التغيير والتحول لا ينتصر على أي شيء آخر. التحول اقتدار على وعي الاختيار، وامتلاك القرار الصارم في الخلق الجديد لما هو غير موجود. كما أنه وعي وفكر يقظ له قدرة  إرادة عبور المسافة بين القمع والحرية، بين التأويل القبلي للجنس والجندر، والحرية والعدالة والمساواة. وبين السلطة والحقائق النابعة من القطيعة و الحدث/التحول، وأيضا  بشكل أساسي بين الحب/الرواية والموت. حيث تعطي الرواية للقطيعة قيمتها، وللحدث وزنه واعتباره، في التأسيس لشيء لم يكن موجودا. وهذا ما يجعله استثناء في وجه القواعد والأعراف والتصورات والمعتقدات الاعتيادية المألوفة، التي أخذت بعدا طبيعيا كقدر محتوم يصعب تحويله أو تغييره. لم يعد التحول في نظر المتحول لعبة فنية مجردة، أو فرجة مسرحية خارج الذات والكينونة والجسد، والفكر اليقظ. على الإبداع والفن أن يحتكم الى منطق قوانينه الداخلية، وآليات اشتغاله الذاتية، في التكون والتطور، كسيرورة مستقلة في تحقيق وإنجاز حقائقها، بعيدا عن أي قهر خارجي، أو وصاية تسربت الى الذات كشيء طبيعي مفارق للتاريخ البشري. هكذا يكون التحول الحقيقي الجذري، الذي يستلزم استجابة معرفية، فكرية وإبداعية، تجاه غير مألوف. وهذا يعني التفكير بتحول الحياة. هذا هو التجلي الفني والجمالي للقطيعة والحدث الاستثنائي الذي سعت الرواية الى تحقيقه. واستفزاز وعي وفكر القارئ، وهو يواجه رعب خوفه، و عسر قبوله للتمزق والانتهاكات والشروخ المؤلمة التي تحدثها الرواية في سجلاته النفسية الثقافية والفكرية والقيمية الأخلاقية، التي تشربها مع حليب الطفولة.  وهي سجلات قابعة في أعماقه كشفرة نفسية للاشعور الثقافي الجمعي الموروث. تحاول الرواية إزاحة هذه التصلبات المانعة لتحقق الانقطاع، من خلال شكلها الإبداعي الفني. الذي تستثمر في بنائه قيمة الحب التي جمعت المتحول بديونيز إشراق وجميلة فاميلا وإميليو. ” هذا هو الفرق، في التحول الحقيقي لا مجال للخوف، متعة الانتقال الحيوي المصيري تنسف كل خوف، لكن في التحول الزائف، نصبح خائفين من صوتنا، من مشيتنا، من حركاتنا، من تفكيرنا، من هواجسنا، من جسدنا، من هذا الالتباس التراجيدي بين الرغبة الذكورية والمشاعر الأنثوية.”204   ومتعة الرواية وجماليتها الشاهقة أنها قاومت كإبداع، وفن، الموت. ربما هذا هو التحدي الذي اشتغلت عليه. وتحكمت في نسج خيوطه العنكبوتية الرؤية السردية مسنودة بذخيرة ثقافية فكرية. فمن يحسن الانصات لرسائل المتحول، في ظلالها وهشاشتها، في نبضها الحي وقوتها الكبيرة، وفي تشبثها بالحياة ومقاومة الموت، يتعلم ما الذي ينبغي فعله وقوله إزاء التحول والتغيير الحقيقيين.  الموقف صعب أمام القارئ لكن لا مفر من تعلم عبور المسافات، والانخراط في الحدث، و الانتصار لقرار واختيار التحول بوصفه شكلا إبداعيا لمقاومة الموت. “من يستطيع أن يواجه ذاته عارية من كل قناع، من كل حماية؟ من يستطيع أن يدخل مع داخليته الحميمة في حرب على المكشوف؟ من يستطيع أن يقف في الخارج وحيدا كشجرة مفردة تعصف بأغصانها الرياح والهوج؟ بمعنى آخر- وهنا نلتقي بسؤال كانط مرة أخرى- من يجرؤ على الخروج من قصوره العقلي الذي أبقاه فيه الزمن المتطاول، والكاهن، والشرطي، والأب…؟” * الهامش عبدالحميد شوقي” رسائل المتحول” (دار خطوط وظلال الطبعة الأولى 2023) *هاشم صالح: مخاضات الحداثة التنويرية( دار الطليعة ط1س2008ص234)

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: هذا هو

إقرأ أيضاً:

ما هو “مشروع إستير” الخطير الذي تبناه ترامب؟ وما علاقته بحماس؟

#سواليف

في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بعد مرور عام كامل على #الإبادة_الجماعية التي تنفذها #إسرائيل في قطاع #غزة بدعم من الولايات المتحدة، والتي أودت بحياة أكثر من 53.000 فلسطيني، أصدرت مؤسسة “هيريتيج فاونديشن” (Heritage Foundation) ومقرها #واشنطن، ورقة سياسية بعنوان ” #مشروع_إستير: إستراتيجية وطنية لمكافحة معاداة السامية”.

هذه المؤسّسة الفكرية المحافظة هي الجهة ذاتها التي تقف خلف “مشروع 2025″، وهو خُطة لإحكام السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة، ولبناء ما قد يكون أكثر نماذج الديستوبيا اليمينية تطرفًا على الإطلاق.

أما “الإستراتيجية الوطنية” التي يقترحها “مشروع إستير” المسمى نسبةً إلى الملكة التوراتية التي يُنسب إليها إنقاذ اليهود من الإبادة في فارس القديمة، فهي في جوهرها تتلخص في تجريم المعارضة للإبادة الجماعية الحالية التي تنفذها إسرائيل، والقضاء على حرية التعبير والتفكير، إلى جانب العديد من الحقوق الأخرى.

مقالات ذات صلة انفجار الأزمة بين الجيش وحكومة نتنياهو 2025/05/20

أوّل “خلاصة رئيسية” وردت في التقرير تنصّ على أن “الحركة المؤيدة لفلسطين في #أميركا، والتي تتسم بالعداء الشديد لإسرائيل والصهيونية والولايات المتحدة، هي جزء من شبكة دعم عالمية لحماس (HSN)”.

ولا يهم أن هذه “الشبكة العالمية لدعم حماس” لا وجود لها فعليًا – تمامًا كما لا وجود لما يُسمى بـ”المنظمات الداعمة لحماس” (HSOs) التي زعمت المؤسسة وجودها. ومن بين تلك “المنظّمات” المزعومة منظمات يهودية أميركية بارزة مثل “صوت اليهود من أجل السلام” (Jewish Voice for Peace).

أما “الخلاصة الرئيسية” الثانية في التقرير فتدّعي أن هذه الشبكة “تتلقى الدعم من نشطاء وممولين ملتزمين بتدمير الرأسمالية والديمقراطية”- وهي مفارقة لغوية لافتة، بالنظر إلى أن هذه المؤسسة نفسها تسعى في الواقع إلى تقويض ما تبقى من ديمقراطية في الولايات المتحدة.

عبارة “الرأسمالية والديمقراطية”، تتكرر ما لا يقل عن خمس مرات في التقرير، رغم أنه ليس واضحًا تمامًا ما علاقة حركة حماس بالرأسمالية، باستثناء أنها تحكم منطقة فلسطينية خضعت لما يزيد عن 19 شهرًا للتدمير العسكري الممول أميركيًا. ومن منظور صناعة الأسلحة، فإن الإبادة الجماعية تمثل أبهى تجليات الرأسماليّة.

وبحسب منطق “مشروع إستير” القائم على الإبادة، فإنّ الاحتجاج على المذبحة الجماعية للفلسطينيين، يُعد معاداة للسامية، ومن هنا جاءت الدعوة إلى تنفيذ الإستراتيجية الوطنية المقترحة التي تهدف إلى “اقتلاع تأثير شبكة دعم حماس من مجتمعنا”.

نُشر تقرير مؤسسة “هيريتيج” في أكتوبر/ تشرين الأول، في عهد إدارة الرئيس جو بايدن، والتي وصفتها المؤسسة بأنها “معادية لإسرائيل بشكل واضح”، رغم تورّطها الكامل والفاضح في الإبادة الجارية في غزة. وقد تضمّن التقرير عددًا كبيرًا من المقترحات لـ”مكافحة آفة معاداة السامية في الولايات المتحدة، عندما تكون الإدارة المتعاونة في البيت الأبيض”.

وبعد سبعة أشهر، تُظهر تحليلات نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” أن إدارة الرئيس دونالد ترامب -منذ تنصيبه في يناير/ كانون الثاني- تبنّت سياسات تعكس أكثر من نصف مقترحات “مشروع إستير”. من بينها التهديد بحرمان الجامعات الأميركية من تمويل فدرالي ضخم في حال رفضت قمع المقاومة لعمليات الإبادة، بالإضافة إلى مساعٍ لترحيل المقيمين الشرعيين في الولايات المتحدة فقط لأنهم عبّروا عن تضامنهم مع الفلسطينيين.

علاوة على اتهام الجامعات الأميركية بأنها مخترقة من قبل “شبكة دعم حماس”، وبترويج “خطابات مناهضة للصهيونية في الجامعات والمدارس الثانوية والابتدائية، غالبًا تحت مظلة أو من خلال مفاهيم مثل التنوع والعدالة والشمول (DEI) وأيديولوجيات ماركسية مشابهة”، يدّعي مؤلفو “مشروع إستير” أن هذه الشبكة والمنظمات التابعة لها “أتقنت استخدام البيئة الإعلامية الليبرالية في أميركا، وهي بارعة في لفت الانتباه إلى أي تظاهرة، مهما كانت صغيرة، على مستوى جميع الشبكات الإعلامية في البلاد”.

ليس هذا كل شيء: “فشبكة دعم حماس والمنظمات التابعة لها قامت باستخدام واسع وغير خاضع للرقابة لمنصات التواصل الاجتماعي مثل تيك توك، ضمن البيئة الرقمية الكاملة، لبث دعاية معادية للسامية”، وفقاً لما ورد في التقرير.

وفي هذا السياق، تقدم الورقة السياسية مجموعة كبيرة من التوصيات لكيفية القضاء على الحركة المؤيدة لفلسطين داخل الولايات المتحدة، وكذلك على المواقف الإنسانية والأخلاقية عمومًا: من تطهير المؤسسات التعليمية من الموظفين الداعمين لما يسمى بمنظمات دعم حماس، إلى تخويف المحتجين المحتملين من الانتماء إليها، وصولًا إلى حظر “المحتوى المعادي للسامية” على وسائل التواصل، والذي يعني في قاموس مؤسسة “هيريتيج” ببساطة المحتوى المناهض للإبادة الجماعية.

ومع كل هذه الضجة التي أثارها “مشروع إستير” حول التهديد الوجودي المزعوم الذي تمثله شبكة دعم حماس، تبين – وفقًا لمقال نُشر في ديسمبر/ كانون الأول في صحيفة The Forward- أنَّ “أيَّ منظمات يهودية كبرى لم تُشارك في صياغة المشروع، أو أن أيًّا منها أيدته علنًا منذ صدوره”.

وقد ذكرت الصحيفة، التي تستهدف اليهود الأميركيين، أن مؤسسة “هيريتيج” “كافحت للحصول على دعم اليهود لخطة مكافحة معاداة السامية، والتي يبدو أنها صيغت من قبل عدة مجموعات إنجيلية مسيحية”، وأن “مشروع إستير” يركز حصريًا على منتقدي إسرائيل من اليسار، متجاهلًا تمامًا مشكلة معاداة السامية الحقيقية القادمة من جماعات تفوّق البيض والتيارات اليمينية المتطرفة.

وفي الوقت نفسه، حذر قادة يهود أميركيون بارزون -في رسالة مفتوحة نُشرت هذا الشهر- من أن “عددًا من الجهات” في الولايات المتحدة “يستخدمون الادعاء بحماية اليهود ذريعةً لتقويض التعليم العالي، والإجراءات القضائية، والفصل بين السلطات، وحرية التعبير والصحافة”.

وإذا كانت إدارة ترامب تبدو اليوم وكأنها تتبنى “مشروع إستير” وتدفعه قدمًا، فإن ذلك ليس بدافع القلق الحقيقي من معاداة السامية، بل في إطار خطة قومية مسيحية بيضاء تستخدم الصهيونية واتهامات معاداة السامية لتحقيق أهداف متطرفة خاصة بها. ولسوء الحظ، فإن هذا المشروع ليس إلا بداية لمخطط أكثر تعقيدًا.

مقالات مشابهة

  • رواية حارة الصوفي.. التأريخ بين قبعة الاستعمار وطربوش الهُوية
  • ما هو “مشروع إستير” الخطير الذي تبناه ترامب؟ وما علاقته بحماس؟
  • Australia Has A ‘pokies’ Betting Problem, But Is Definitely Change Coming?
  • أوزين: إن تعثر ملتمس الرقابة فإن غالبية المغاربة سحبوا ثقتهم منها وينتظرون التغيير في أول فرصة
  • الديوان العام للمحاسبة يشارك في “ملتقى المراجعة الداخلية” بوزارة المالية
  • Ooredoo ترعى منتدى التحول الرقمي الجزائري”رقمنة”
  • “أطباء بلا حدود”: الجحيم الذي يُقاسيه أهالي غزة يتفاقم كل دقيقة
  • “الماس والفضة والبلاتين واللؤلؤ الطبيعي” .. استكمال الاستعدادات لمعرض الذهب العالمي الـ 23
  • تحت عنوان “طموحنا أبعد”.. برنامج التحول الوطني يُطلق تقرير إنجازاته حتى نهاية 2024
  • غسان حسن محمد.. شاعر التهويدة التي لم تُنِم. والوليد الذي لم تمنحه الحياة فرصة البكاء