سليمان المجيني
ماذا تنتظر؟
سَبَحْنا كثيرا في هذه الحياة، سبحنا لدرجة أن قوانا أصبحت منهكة وعقولنا تزمها المحن وتتربص بها العقبات؛ فهي لا تجد معينا ولا صاحبا ولا رفيقا، كل أولئك أصبحوا تحت التراب، تخنقني العبرات، تأخذني بعيدا نحو الأفق الذي بات غامضا، ومسجًى كرفاقي بين جفنات القبور أعاني القهر والضيم.
ورغم أنْ لا سبيل للتهاون والارتخاء، إلا أنَّ غُصَّة تنهش ما تبقى من إحساسٍ وضمير نحو أمةٍ سلاحها الموت، لكن ما يجري يتواطأُ مع مجريات الأمور، الأمور العادية التي نعيشها يوما إثر يوم؛ فلا دعوة للجهاد ولا حناجر تقتفي أثره، لا نستطيع سوى ابتلاع ريقنا في كل جانحة وجائحة هي تشغلنا لفترة من الزمن ثم نرى أنفسنا محاطين بالخوف، محاصرين بكل أنواع الذل، ونحاول طمس معالمنا بالسير تحت جدران الظل.
طلب الحياة
أمة الموت تطلب الحياة وتقامر في زحزحة مآسيها عل موت الفلسطينيين، هل تستطيع المقاومة قلب الطاولة؟ وهل ينقلب ميزان القوى نحونا؟ لا، أقصد نحو المقاومة لأننا -بكل بساطة- لم نقاوم سوى أحزاننا، في حين هم قاوموا شيئا برجماتيًّا موجودا يحاربهم في كل التفاتة عين، وفي كل دموع أطفال غزة، وفي كل صرخة أم، ومناجاة شيخ كبير، شيء يهدد حياتهم ويشدهم للموت.
هل نستطيع الحياة بعد موتهم؟ هل نحن أحياء فعلا؟ سؤالان في غاية الغموض لا يمكن الإجابة عنهما إلا بتبلد الشعور، وتجاهل العاطفة، ووهن الإدراك، يبدو أن الإحساس تجمد عند مشاهدة الموت وقسوته، وتناسى القلب حدته وشدة وقعه على النفس؛ فخارت القوى وضعفت الأجسام حيث لا تكاد تحمل نفسها إلى صلاة راتبة ودعاء يتيم.
أشعر أنَّ السكوت جبن والاستكانة قهر، وما وراء ذلك قمعٌ وكبت، ولكن ماذا يجب أن نفعل؟ هل الموت يستحق ما تستحقه الحياة؟ وهل الموت حياة في الأساس، أم هو نوم أبدي؟ وهل سندركه قبل التنكيل بنا وخوار القوى في أماكننا، هل سنلحق به في فلسطين؟ والسؤال الأكثر إلحاحا: هل نستطيع أخذ المبادرة؟
نحن يا أصدقاء نطلب الحياة، ونحاول أن نتنمَّق في ألبستنا من الثوب الطويل إلى الأحذية وغطاء الرأس ثم الملابس الداخلية التي يجب أن تكون من النوع الفلاني حتى لا تتأثر أجسادنا؛ فلا يخدشنا ناموس الليل ولا تؤذينا ذبابة النهار، ونحرص على شراء أفضل أنواع أغطية الفراش لنغطي بها أنفسنا في الصيف الحارق تحت برودة مكيفات الهواء، والشتاء البارد تحت دفء صوفها.
ماذا عنكم؟
ماذا عنكم؟ لا تقولوا شيئا، لدينا كل الإحصائيات وما زلنا ننتظر الكثير حتى نشحذ هممنا؛ فهي بحاجة إلى البارود حتى تستفيق، والبارود هو رائحة الأموات، نريد هذه الرائحة أن تصل إلينا، في وقوفنا أمام المرآة نصلح بها هيئاتنا عند ذهابنا لأعمالنا، وفي كل مشوار نذهب به في سياراتنا الفارهة، وفي كل تبضُّع نشتري مواد تجميل وتنظيف لبيوتنا حتى تبرق، نحتاج أن نرى الأشلاء وهي تسد طريقنا، نحتاج أن تضيق بها حياتنا حتى نستشعر محنتكم بشكل أكثر قبولا، وفي أقوى صيغة وأعظم استساغة.
نحتاج أن تقنعونا أكثر بمأساتنا، أن تخرجوا بسالتنا التي نُكِئت، وقوتنا التي كُمدت؛ فأعداد موتاكم ما زال صغيراً، ألا تعرفون التاريخ؟ لقد قدمت الجزائر ملايين الشهداء من أجل الحرية، ولم يحرك أحدنا شنبه، ثم أصبحت "فرنسا" القاتلة ملتقى المحبين ووجهة الحالمين منا، بل هي صديقة يحاصرها الغرور وتلفّها النظرة المتعالية.
ننتظر أفولا أكبر، رائحةً للموت تعبر إلى آفاقنا للتحرك قليلا، نريد أن تكسروا كبرياءنا، تحطموا قيودنا، نريد أن نشعر أن الموت كشرب الماء، وقضم التفاح، وأن تكبحوا جماحنا، وأن تردوا عنا سيرنا خلف جدران الظل.
لم يبقَ سوى الموت
مضى الكثير وما بقي أجدر بالإشارة، كيف نستطيع اللحاق بالفلسطيني؟ وكيف نكفر عن يأسِنا بخلاصهم؟ نحو حريتهم المكبوتة بين جدران السجون وفوهات المدافع، كيف نموت وفي يدنا غصن زيتون لم يزرع بعد؟ إنها معادلة صعبة، ومطلب قل أن نناله نحن، إنه من حقكم أنتم فقط، كما الموت الشريف.
بَقِي أن نخجل من ذواتنا، نحن المسلمون نحب الحياة، تأكد هذا الأمر عندي؛ فبدل أن نبحث عن طرق الشهادة بحثنا بكل قوانا وثقافاتنا عن كيف نستطيع مقاطعة الماركات التي نعتقد أنها يهودية المنبت؟ حتى أثناء انتشار الموت هناك نبحث نحن عن عيشنا وحياتنا (هو غيض من فيض)، وأنا أؤمن بشيء لا يتناغم مع كثيرين، فاليهود جاءوا معنا للعيش بأمان وسلام كما يتحدث علماؤهم ومؤرخوهم، المشكلة هي أمريكا وليست هذه الدولة الصغيرة النابتة في أراضينا، أمريكا والصهاينة في إسرائيل والمعسكر الغربي هم أسباب قوتها وجبروتها، في حين لو عاشت بإمكانياتها لسوف تكون هناك نظرة أخرى.
مَضَى الكثير، ولم يبقَ سوى الموت يحرك أذنابنا كلما أوينا إلى الفراش نتذكر فلسطين، نريد أن نبادر لكنْ ثمة شيء يقمعنا، وكلما نهضنا من نومنا تذكرنا فلسطين، نبحث في هواتفنا عن خبر مفرح يدخل السرور في قلوبنا ويلطمنا بمخدر يبقى معنا طوال اليوم حتى نسمع خبرا آخر على غير ما نهوى ونريد، هكذا نعيش بهذا الهامش من الأمل نبتغي حلا لقضايانا بمزاجات لا بحلول على الأرض، ثم بدعاء لا تؤازره قوة، نفقأ عينا وندمي أذنا ونحن في بيوتنا، ونصفق لكم كثيرا، ونتوشح شالكم، نظن أن بهذا سنكون معكم، كل شيء يشدنا إلى القاع أيها الأحباء، وبقينا نمشي فوق جدار الظل.
طُعنت العروبة بخاصرتها منذ أن أرغمنا الاستعمار على اتفاقيات صاغرة مذلة نعتقد أنها انتصار لقوتنا ومطالب بعضنا، أعطي كل واحد أرضا ليحكمها حسب ما يرونه لا كما نراه، وهي لطمة أخرى مع تلك الاتفاقيات، ألا يعلمون حكمائنا أن التفرقة ضعف وأن القوة والهيبة في الاجتماع، في التآلف والتحالف؟
ولكن لا ينفعنا اللطم اليوم، علينا استنفار سلاحنا والتدرب على مجابهة مصيرنا ومواجهة هوان الأمة وخنوعها، مواجهته بكل صرامة وجِدّة في سبيل إرجاع ما تم كسره، ومراجعة التاريخ جيدا لنأخذ منه العبر، ماذا ننتظر؟ علينا أن نمضي سويا نحو جدار الشروق، جدار الشمس، نبتغي يوما عمليا ناهضا واضح المعالم، أما إذا تلقفنا ما نريد، وأمعنّا فيه جيدا فسنعترض كل معيق ونخترق المدى ونبحث عن حلم كل فلسطيني ثم كل عربي، وليحدث من ورائنا ما يحدث.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
العربية لغة الحياة
#العربية_لغة_الحياة
د. #هاشم_غرايبه
هنالك اعتقاد شائع أن التشكيل في اللغة العربية جاء به “أبو الأسود الدؤلي” ثم طوره “الفراهيدي” الى شكله الحالي، ما جاءا به فعلياً هو رسم الحركة فوق نهاية الحرف، أما الحركات فهي موجودة أصلا منذ نشأة اللغة ذاتها، لكن لأن اللغة كانت في معظم استعمالاتها سماعية، بسبب قلة من يعرفون القراءة والكتابة، فلم تكن الحاجة ماسة لكتابة هذه الحركات على أواخر الكلمات، مثلما أن التنقيط لم يكن معروفا أيضا، بل كانت تعرف كلها بالسليقة، ولأن اللغة منطقية، فلم يكن يخطيء (يلحن) فيها أحد، إذ كان يظهر نشوزه فيصحح فورا.
رغم أن هنالك العديد من الميزات للغة العربية عن سائر اللغات الأخرى، إلا أن أميزها هي أنها لغة معربة، فيما جميع اللغات مبنية، أي أن الحركة على آخر الكلمة تحدد وظيفتها، فالمعرب صفة الحيوية، وبحسب موقعها تكون هذه الحركة، سواء كانت مرفوعة أومنصوبة أو مجرورة أو ساكنة.
كما أنه مع ثبات اللفظة، فإن تبديل الحركات على كل حرف نحصل على معنى مغاير، مثلا من الحروف الثلاثة (ق د ر)، بإمكاننا من هذا الجذر الواحد صنع ستة ألفاظ مستقلة متباينة في المعنى: فالقَدَرَ هو الأمر المكتوب من الله، والقَدْرُ هو المكانة والقيمة، والقِدْرُ هي وعاء الطهي، وقدَّرَ بمعنى حسَبَ، وقَدِرَ بمعنى تمكن، وقدَرَ بمعنى منع أو أنقص.
والميزة التي أعطت قيمة مضافة للعربية هي أن هذه الحركات جاءت مكملة لحروف الحركة (حروف العلة) وهي الألف والواو والياء، فالفتحة هي عبارة عن نصف المَدّةِ في حرف الألف، والضمة هي كذلك نصف واو، والكسرة هي نصف الياء، أما السكون فهي اللا حركة.
فائدة هذه الحركات أنها ضاعفت فاعلية الحروف من غير أن تزيد في عددها، ويمكن كتابة كلمات ذات حروف كثيرة من غير فصل هذه الحروف بحروف علة كما في اللغات الأخرى، والتي لا يمكن فيها لفظ الكلمة إلا إن كان الحرف متبوع بحرف من حروف الحركة، ولو أخذنا مثلا للتوضيح كلمة: (مُسْتَنْبَت) والتي تلفظ من غير مشقة رغم أنها من ستة حروف ليس بينها حرف علة واحد، فلو لفظناها بحروف اللغة الإنجليزية (mostanbat) فإننا نحتاج للزيادة على الحروف الستة الأصلية ثلاثة حروف علة.
هذه الحركات لا تقتصر دلالاتها على النفع اللغوي، بل تأتي في سياق منطقي مع الحياة، فتفسر سماتها، وتتوافق مع معطياتها الواقعية، وكل حركة تعطي المعنى المراد بلا لبس ولا غموض.
فالضمة شكلا جاءت من الواو لفظا، لكن الرفع معنى يأتي من السمو والعلو مقاما وتأثيرا.
فالرفع سمة الفاعل لأنه هو المؤثر صاحب الفعل والإرادة، فحق له أن يكون مرفوع القامة، وهو منطق الحضارة الإنسانية أيضاً.
والمبتدأ يجب أن يكون معرّفا لا نكرة وبادئا في الإخبار متبوعا لا تابعاً، والخبر الذي يترافق معه دوما لا يغادره ولا ينفصل عنه، لأنه حكم، والحكم لا يكون على نكرة، بل يحكم على ماهو معرف، وهذا هو منطق العدل، لذلك استوجب رفع المبتدأ والخبر، لأن كليهما في موقع المبادرة.
والفعل المضارع هو فعل قائم وأداء حاضر مستمر، لم ينتهي فعله بعد، فهو حركة مؤثرة في غيره، فاعلة في إحداث التغيير، فجاء مرفوعا في الأصل، إلا ان تسبقة أداة نصب أو جزم فتشكمه، فعندها لا يحق له أن يبقى مرفوعا.
أما النصب فجاء بالفتح، وهي مَدّةٌ قصيرة، لذلك جاءت على شكل ألف صغيرة مائلة الى شكل أقرب الى الإستواء، لذلك فالنصب ميلٌ الى الإستواء أي استقبال الفعل وتقبل نتيجته، وهذه سمة المفعول به الراضخ لما يحل به.
أما الجر فعلامته الكسرة، أي الإنكسار والخضوع، فمهما كان الإسم عظيما، إن جَرّهُ حرفُ جرٍّ كسرَ عَظَمته، وإن أُضيف الى نكرةٍ زادَهُ ذلك انكساراً وذلةً، لذلك جاءت الكسرة تحت الكلمة دلالة على التبعية وتعبيراً عن الدونية.
ويبقى السكون وعلامته دائرة مغلقة صغيرة تمثل فما مطبقا، دلالة الصمت وغياب التأثير، فشتّان بين رفع الفعل المضارع: (يقولُ) وبين (لم يقلْ) فجزمه أفقده حرف الحركة (و) فجعله ساكنا بعد أن كان يضج بالفعل والتأثير.