الجزيرة:
2025-12-14@04:18:58 GMT

التفكير في السلم في زمن الحرب

تاريخ النشر: 10th, December 2023 GMT

التفكير في السلم في زمن الحرب

يبدأ الباحث الفرنسي جون بيير فيليو كتابه عن تاريخ غزة بالإهداء إلى أرواح آلاف من المجهولين ممن ماتوا بغزة قبل الأوان، في الوقت الذي كانت لهم حياة يريدون أن يحيوها، مع ذويهم في أمن وسلام.

ويضيف:  

غزة مفترق الحضارات، غزة فضاء ليس نتاجًا للجغرافيا بل متفرعًا عن التاريخ، تاريخ يعتوره العذاب والمأساة لإقليم نزحت إليه غالبية السكّان كي تفرّ من العذاب والمأساة.

ثم يشفع:

ومع ذلك، ففي هذا السجن على العراء، يقبع مصير العالم. ولذلك ينبغي تجديد خيط التاريخ، لما وراء الخراب والأسى؛ ترقبًا لأفق المستقبل، من أجل غزة، ومن أجلنا كلنا؛ لأن مصير العالم هو ما يعتمل بشكل رمزي في هذه القطعة من الأرض.

كذلك يقول فيليو في كتاب له عن غزة- صدر قبل عشر سنوات ونيّف (2012)- لم تُبلِ جِدّته الأيام، كما يقول التعبير العربي القديم، أو لا يزال يحتفظ براهينيّته. مصير العالم يتحدد اليوم فيما يجري في غزة. وينبغي رغم الأسى والدمار- الذي تتعرض له غزة- إيقاد شعلة تنفتح على المستقبل، بالحوار، ومن خلال الحوار الجِدي، من غير أحكام مسبقة، أو وصاية.

يعترف فيليو أن الحوار لم يعد ممكنًا على بلاتوهات التلفزيون في القنوات الغربية. ومع ذلك لا بد من الحديث، في هذا المنعرج التاريخي، الذي ينبئ بالأسوأ، فيقول: "الأزمة في أولياتها، ومُرشّحة لأن تلتهب"

حلّ فيليو في المغرب هذا الأسبوع، وأجرى فيه سلسلة محاضرات في ربوع مدن عدة. تحدث على هامش المحاضرات، في لقاءات جانبية، منها لقاء جمعه بكاتب هذه السطور، والأسى يعتصره لما يجري في غزة، ولما نال أصدقاء كانوا له في غزّة لم يعودوا من الأحياء، عرفهم بها، حيث عاش لفترة، فتحوا له قلوبهم، ونقل عنهم شؤونهم، وشهد عنهم، وأيضًا للتقتيل الذي لا يوفر المدنيين والعُزل، وللدمار الذي يصيب المباني والمساكن.

جون بيير فيليو خبير بقضايا العالم العربي، عاش بسوريا، وأحبها، وعاش بالأردن وتعلق به، وأقام في لبنان لفترة وعرف شؤونه، وتجوَّل في بقية أرجاء العالم العربي. أتقن اللغة العربية، فنفذ إلى تجاويف العالم العربي. يقرأ باللغة العربية، ويتحدث بها لا ليرسخ أحكامًا مسبقة، بل ليفهم، ويُعين على الفهم.

يكتب بالفرنسية والإنجليزية ليمد يده لعالم أحبه كي يريه مواطن الزلل، ومكامن القوة، لشيء يؤمن به، هو المصير المشترك، بين ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط، أو بين فرنسا والعالم العربي.

للكاتب سجلّ من الكتابات الرصينة عن العالم العربي، كتب بعضها بالإنجليزية، تفيد في فهم ما يجري بالعالم العربي، وتحمل رسالة أمل ودعوة للتقارب لعالمين- هما: العالم العربي والغرب- أخلفا، غالبًا، المواعيد التاريخية.

ينبغي أن نُقر أن باحثًا من طينة فيليو ليس ممن يُقبل في بلاتوهات التلفزيونات الغربية، أو يستدرون اهتمام أصحاب القرار، ولو أنه اشتغل لفترة في دواليب خارجية فرنسا، لكان من الأصوات الحكيمة التي يمكن أن تنقل خبرتها لأصحاب القرار في الغرب في هذه الظرفية المضطربة وتنقل رؤيتها للعالم العربي الذي يعيش أزمة وجودية.

يعترف فيليو أن الحوار لم يعد ممكنًا على بلاتوهات التلفزيون في القنوات الغربية. ومع ذلك لا بد من الحديث، في هذا المنعرج التاريخي، الذي ينبئ بالأسوأ، فيقول: "الأزمة في أولياتها، ومُرشّحة لأن تلتهب".

الأمور أسوأ من أن تُرَدّ في تقييم ما يجري إلى الداء الوبيل المتمثل في قاعدة "الكيل بمكيالين"، بل إلى "سيكوزفرنيا" مستشرية في الغرب، وعند من يصنعون الرأي العام، من شريحة ترفض أن ترى ما لا تريد أن تراه، وتَشْخَص أبصارها لترى ما تريد أن تراه.

حتى بعض الجامعات الغربية، أو كبريات الجامعات الأميركيّة لم تسلم من نوع من الماكرثية، أو هذا الشعور الذي يشكل عنصرًا من الثقافة السياسية الأميركية: التجني والعار Blame and shame .

ومع ذلك في هذا الظرف الذي يعتريه الغبش، فلا بديل عن الحوار، يتوجب مد الجسور؛ لأن مصير ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط متداخل، ولأن فرنسا الأنوار كانت شريكًا في النهضة العربية، ويؤمن بعض من المتشبعين بقيمها، بمصير مشترك.

طبعًا ليس الحوار هيّنًا، ويكاد أن يكون مستعصيًا في الغرب في الظرفية الراهنة. ولكنه ضروري؛ لأن المنطقة ستدخل سياقًا حرجًا، أو بتعبير فيليو: الأزمة في أولياتها، وهي بالكاد بدأت.

بغض النظر عما أتاحه لقاء جمع فيليو مع ثُلة من الباحثين في الرباط، فالحاجة ملحة إلى حوار مع عقلاء الضفة الأخرى.

من المشروع أن تُعبّر الجماهير في العالم العربي، وفي العالم عما يساورها من غضب جراء العدوان الذي تتعرّض له غزة، ولكن صاحب القرار ينبغي ألا يستسلم للعاطفة، كما يجب أن يُغلّب العقل.

لكن صاحب القرار أو السياسي عمومًا، منغمر في الحدث الآني، وليس لديه مسافة مما يجري؛ ولذلك الحوار الممكن هو مع أصحاب الرُؤى، من يتخذون مسافة من الأحداث، ويزاوجون مع المعرفة الإيمانَ بمصير مشترك.

لا حاجة إلى القول؛ إن العالم لا يُختزل في صورة جاهزة، لأبيض وأسود، أو لـ "نحن خيرون" و"آخرون أشرار". الأمور أعقد من ذلك، وأثبت أحرار العالم، انصياعهم للحق.

ليس من السهل التفكير في السّلم زمن الحرب. ولكنه الأمر الضروري، لتجنّب لعنة المواعيد التاريخية المُخلفة، من خلال حوار يُجرى مع هؤلاء الذين يسميهم التعبير الفرنسي بحاملي التأميل (وهو غير الأمل) Porteurs d’espérance .

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: العالم العربی ومع ذلک ما یجری فی هذا

إقرأ أيضاً:

توازن الرعب التكنولوجي.. حين تتحول الرقائق إلى سلاح يغيّر شكل العالم

لم تعد الحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين مجرد سجالات حول ضريبة أو معاملة تجارية.

ما نشهده الآن، وبأسرع مما توقّع حتى أكثر الخبراء تشاؤمًا، هو دخول العالم في طور جديد يمكن تسميته بلا مبالغة «توازن الرعب التكنولوجي».

مرحلة لم يعد فيها السؤال، من يملك التكنولوجيا؟ بل، من يستطيع حرمان الآخر منها دون أن ينهار داخليًا؟

الشرارة الأخيرة جاءت من بكين، التي لم تنتظر سوى 48 ساعة بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضريبة السيليكون على مبيعات الرقائق للصين، لتردّ بكين بضربة بيروقراطية قاسية تُفشل عمليًا الصفقة الأميركية مع إنفيديا.

خطوة صينية ليست عابرة على الإطلاق، إنها إعلان رسمي بأن الصين لم تعد تلعب دور المُستقبِل لقرارات واشنطن، بل دور المُخرب المحسوب لمنطق القوة الأميركية في التكنولوجيا.

واشنطن كانت تراهن على مشتري مضطر والصين ألغت افتراض اللعبة.. فالفلسفة الأميركية وراء بيع رقائق الجيل الأقدم للصين كانت بسيطة: سنعطيكم تكنولوجيا الأمس، ونأخذ منكم أموال الغد، ونُبقيكم معتمدين علينا.

كانت خطة تُفترض أنها بلا خسائر: واشنطن تبيع، وبكين تشتري، وأي تأخير أو مشكلات لوجستية ستدفع الصين للقبول بالصفقة مهما كانت شروطها.

لكن الصين فعلت ما يُغير قواعد اللعبة: أعلنت أنها ليست راغبة في الشراء أصلاً!!

ووضعَت نظامًا يجعل كل شركة صينية مطالبة بتقديم تبرير رسمي يثبت بالأدلة أن منتجات هواوي عاجزة بالكامل عن تقديم البديل قبل السماح بشراء رقاقة أميركية.

وبهذا، حوّلت بكين التجارة إلى أداة سيادة تخضع بالكامل لقرار الدولة، لا لمعادلة السوق.

والنتيجة المنطقية؟ إنفيديا تواجه خطر خسارة 12 مليار دولار من إيراداتها، وواشنطن تواجه الحقيقة: الصين لم تعد زبونًا أسيرًا للجودة الأميركية.

إن جوهر القصة هو التحول من حرب على الرقائق إلى حرب على قواعد اللعبة، وأعمق ما يحدث هنا ليس إجراءات بيروقراطية، بل تفكيك تدريجي للاحتكار الأميركي في ثلاث ركائز:

1. احتكار تصميم الرقائق (Nvidia)

2. احتكار أدوات التصنيع (ASML والتحالف الغربي)

3. احتكار معايير المعرفة والبحث.

والرد الصيني الأخير يكشف أن بكين أصبحت قادرة على تعطيل سلسلة التوريد العالمية، لا مجرد التكيف معها، إنها خطوة تعكس انتقال الصين من خانة المطارد إلى خانة القادر على قلب الطاولة، بل هي نقطة التحول التي تسبق عادةً ولادة نظام عالمي جديد.

الحرب هنا ليست تجارية، إنها تنافس بين نموذجين للحضارة:

نموذج أميركي يعتمد على الابتكار الخاص والتسارع التقني عبر رأس المال، ونموذج صيني يعتمد على الدولة الصناعية، والتخطيط، ووفورات الحجم، والتحرك بسرعة على مستوى الاقتصاد الكلي.

وفي هذه اللحظة بالذات، يبدو النموذج الصيني أكثر قدرة على تغيير قواعد اللعبة بسرعة، قطعاً أميركا قوية في إنتاج التكنولوجيا، لكن الصين أصبحت قوية في إدارة تدفق التكنولوجيا، وهي مهارة لا تقل أهمية.

لكن ماذا تعني هذه الحرب لنا في العالم العربي؟

المنطقة العربية، ومصر تحديدًا، تقف أمام مأزق لم يُناقش بما يكفي: فإذا تفككت سلاسل التوريد بين أميركا والصين، وإذا دخل العالم في مرحلة حدائق مسوّرة تكنولوجية كما حدث في الحرب الباردة النووية، فإن الاقتصادات النامية ستدفع الثمن الأكبر، حيث أن الرقائق، وحوسبة الذكاء الاصطناعي، والطاقة، والاتصالات، ستصبح دوليًا أدوات مساومة أكثر منها أدوات تنمية، وهنا تصبح السيادة الرقمية جزءًا من الأمن القومي، وليست رفاهية، كما يصبح تنويع مصادر التكنولوجيا ضرورة استراتيجية تمامًا كما هو تنويع مصادر الغذاء أو الطاقة.

إنه عالم يدخل مرحلة جديدة بلا ضوابط ففي الستينيات، كان توازن الرعب النووي يحكم اللعبة العالمية، أما اليوم، يتشكل توازن الرعب التكنولوجي الذي سيحدد شكل الاقتصاد والسياسة والحدود نفسها.

الولايات المتحدة لا تستطيع أن توقف الصين، والصين لا تستطيع أن تلغي الولايات المتحدة، وإنما يستطيع كل طرف تعطيل حياة الآخر، هذه هي الحقيقة الكبرى التي لم يعد يمكن تجاهلها.

والسؤال الذي يجب أن نطرحه، نحن العرب، بعيدًا عن صخب الرقائق والضرائب: كيف نحمي اقتصاداتنا حين تتحول التكنولوجيا إلى سلاح؟ وهل نستطيع أن نجد لأنفسنا مكانًا في هذا النظام قبل أن تُغلق الأبواب نهائيًا؟

اقرأ أيضاً«معلومات الوزراء» و«بحوث الإلكترونيات» يوقعان بروتوكول تعاون لدعم البحث العلمي

اتفاق أمريكي صيني مرتقب يُخفض الرسوم الجمركية إلى 47%.. تفاصيل

مقالات مشابهة

  • د. هويدا مصطفى: العالم العربي "مستهلك" وليس "صانعاً" للأدوات الرقمية
  • إسرائيل اليوم: هؤلاء قادة حماس الذي ما زالوا في غزة
  • باسم يوسف ينتقد الصورة الإعلامية المغلوطة عن ليبيا والوطن العربي
  • طارق الشناوي: عمار الشريعي أحد أهم الموهوبين الذين ظهروا في العالم العربي
  • التفكير في الطلاق.. الإفتاء تحذر الزوجين من اعتباره حلا لـ5 أسباب
  • حروب الشيطنة إنقاذ لسمعة الكيان الصهيوني
  • خلال المنتدى العربي للأسرة.. أيمن عقيل يطرح حلولاً لحماية الأطفال من تحديات العالم الرقمي
  • مدبولي: استضافة الجمعية العامة للشراكة بين الأكاديميات لأول مرة فى العالم العربي هنا فى مصر حدث تاريخي
  • توازن الرعب التكنولوجي.. حين تتحول الرقائق إلى سلاح يغيّر شكل العالم
  • مراكش تستضيف برنامج الحوار الإسلامي الإفريقي العربي بمشاركة ليبية