حرب الجزيرة أداة ضغط أم واقعا جديدا يتشكل
تاريخ النشر: 20th, December 2023 GMT
أن العقل السياسي في السودان بعد ثورة ديسمبر التي تمر ذكراها الخامسة هذه الأيام مازال في حالة من الجمود المصنوع من الرغائب المتناقضة، لا هو قادر أن يجيب على الأسئلة التي تطرحها الأحداث المتصاعدة يوميا، و لا قادر أن يقدم مشاريعا سياسية تخلق حوارا وطنيا جادا يهدف لتقديم حلول لأزمته التي تزداد عمقا يوما بعد يوم.
هذا الأسبوع أقدمت ميليشيا الدعم على خطوة لم تكن متوقعة أن تهاجم منطقة فيها ملايين من النازحين من الخرطوم، لكي تؤكد الميليشيا أن حربها مع المواطن و ليست مع الجيش و الفلول و الكيزان كما تدعي، و الغريب أصرت على الفعل رغم تحذير العديد من المنظمات منها الأمم المتحدة و منظمات حقوقية و دول، لكنها لم تنصاع لتحذيراتهم و انجزت ما تريد، لكي تجعل ردة الفعل عند المواطن أكثر من أن تكون عند الجيش، لآن المواطن هو المتأثر الأول من الحرب. هناك الذين بادروا بالنزوح مرة أخرى إلي سنار و غيرها من المناطق الأخرى، و بقى المستنفرين لكي يدافعوا عن منازلهم و ممتلكاتهم، رغم أن الميليشيا في طريقها إلي مدني قد تعدت على ممتلكات المواطنين في عدد من القرى، و خاصة في تمبول و رفاعة واب حراز و حنتوب و غيرها. و بالتالي تكون قد دفعت أبناء كل هذه المناطق أن يستجيبوا إلي نداء الاستنفار الذي كان قد أعلنه القائد العام للجيش، و ليس في الجزيرة وحدها، بل في كل مدن السودان حتى يستطيعوا حماية منازلهم و ممتلكاتهم و أعراضهم من هذه البربرية و الهمجية. هذا هو التحول الذي سوف يفرزه استهداف الميليشيا لود مدني في الأيام القادمة.
إذا كانت الميليشيا تعتقد أن هجومها على ود مدني؛ عبارة فقط عن أداة ضغط لتحقيق أهداف تصبوا إليها، و لم تحدد للشعب ماهية الأهداف، و وقعت في حالة اشتباك نفسي مع المواطنين الذين كانت قد روعتهم من قبل في الخرطوم، و الذاكرة الشعبة سوف تستدعي كل الذي حصل في الخرطوم و الجنينة و ارمته و زالنجي و نيالا و العديد من القرى و المدن التي استهدفتها الميليشيا في كردفان، و مارست فيها السلب و النهب و السرقة و الاغتصاب و القتل للمواطنين. أن الميليشيا قد حفرت بافعالها أثارا غائرة في الذاكرة الشعبية لن تتمحي، و أيضا سوف تلتصق بها صفات سالبة طوال التاريخ. و في نفس الوقت سوف تدفع العديد من الشباب أن يفكرو جديا أن يلبوا نداء الاستنفار في كل منطقة من مناطق السودان. الأمر الذي يؤجل أي حل سياسي إذا كانت هناك دعوة له. فالحرب و إفرازاتها ليس بالسهل محو الذاكرة الشعبية من فظائعها و ألامها، و أثارها النفسية.
أن قرار الميليشيا لمهاجمة إلجزيرة، و خاصة مدينة ود مدني، قد صحبها عمل إعلامي كبير من قبل عناصر الميليشيا و الذين يساندونها و يقفون معها في خندق واحد، كان الهدف من هذا العمل الإعلامي غرس روح الإحباط عند المواطن و زعزعت ثقته في الجيش الذي هتف له الناس في العديد من مناطق السودان عندما تمر متحركاته شعب واحد جيش واحد، و محاولة لإظهار أن الجيش ليس بالقوة التي يعتقدونها، و هناك إرباك في قيادته، و بدأت تخرج بوسترات أن هناك اجتماع لهيئة القيادة في وادي سيدنا، و خرج تصريح سابق للعميد أبو هاجة الذي كان قد اعلن فيه انقلاب مجموعة بكراوي، باعتباره محاولة انقلابية جديدة فاشلة، للتأكيد أن هناك خلافا في قيادة الجيش، و كمية من بوسترات التحريض. كل ذلك كان مصاحبا للعملية العسكرية، و لكنها لم تؤتي آكلها. بسبب تاريخ فظائع الميليشيا. و عدم الثقة فيها، فهي بنفسها تعقد الموقف أكثر.
أن الغريب في الأمر: رغم حركة الأحداث المتصاعدة يوميا، إلا أن هناك غيابا كاملا للقوى السياسية، و بعض الحراك يصنع من خلال مجهودات فردية من قبل سياسيين. أن المجتمع منقسم إلي نفسه أغلبية الشعب تقف مع الجيش و هناك قوى الحرية و التغيير المركزي لها حراك يهدف إلي خلق جبهة مدنية عريضة " تقدم" و تتهم الاسلاميين هم وراء كل الحراك الدائر، و الرافض لوقف الحرب. و هذه أيضا مقولة لا يصبها الحق لآن؛ ليس الواقفين مع الجيش فقط هم الإسلاميين، هناك مجموعات أخرى ليس لها علاقة بالإسلاميين، و لكنها تقف موقفا واضحا، أن الميليشيا يجب أن تذهب إلي مزبلة التاريخ غير مأسوفا عليها. كانت مرحلة الميليشيا خطأ في تاريخ السودان السياسي صنعته الإنقاذ، و تصحيح الخطأ يعتبر واحدا من شعارات الثورة، تفكيك دولة الحزب إلي مصلحة التعددية السياسية. و إذا كان هناك عناصر في الميليشيا يريدون ممارسة العمل السياسي، عليهم بتأسيس حزب سياسي، و ليس ميليشيا مسلحة. أما القوى السياسية الأخرى غائبة تماما عن المسرح السياسي، هؤلاء منتظرين الحل يأتي من الآخرين لكي يصعدوا على سلم المحاصصات. أن من يعتقد أن الحرب سوف لن تخلق واقعا جديدا يكونوا غير مدركين للتغيير الذي يحدث في المجتمع بسبب الحرب، و غير مدركين لدور الشباب الذين استجابوا لحق الوطن في محمل السلاح دفاعا عن المجتمع، هؤلاء هم الذين سوف يحدثون واقع التغيير الجديد في البلاد. و أن الحرب و مأساتها هي التي سوف تدفع لخلق قيادات جديدة قد استوعبت الدرس تماما، و ما هو المطلوب من أجل السلام و النهضة. نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: العدید من
إقرأ أيضاً:
مولد السيد البدوي.. حينما صار الدين أداة في يد السلطة
في مشهدٍ يبعث على الأسى أكثر مما يثير الدهشة، تحوّل مولد السيد البدوي في طنطا إلى عرضٍ فجّ من الممارسات والطقوس الغريبة التي لا تمت إلى الإسلام بصلة؛ مشاهد من التبرك بالقبور، والرقص، والتمايل، والنداءات التي تتجاوز حدود التوحيد، كلّها تتم تحت رعاية رسمية وبمباركة واضحة من رموز السلطة الدينية التابعة للنظام، وعلى رأسهم علي جمعة وأسامة الأزهري، اللذان يتصدران المشهد لتبرير هذه الممارسات وإضفاء طابع "الشرعية" عليها.
لكن الحقيقة الصارخة أن هذه الطقوس لم يأتِ بها الإسلام مطلقا، ولم تُستند إلى آية من القرآن أو حديث من السنة، بل جاءت من خليطٍ من الخرافة والموروث الشعبي الذي تسلّل إلى الوعي العام في غياب العلم والعقل والدين الصحيح.
منذ أن جاء عبد الفتاح السيسي إلى الحكم بعد انقلاب 2013، وهو يشن حملة منظمة لهدم الثوابت الدينية تحت شعار خادع اسمه "تجديد الخطاب الديني"؛ شعارٌ براّق يخفي خلفه مشروعا متكاملا لتفريغ الإسلام من مضمونه الحقيقي، إن ما جرى في مولد السيد البدوي ليس سوى نتيجة مباشرة لهذا المشروع السلطوي الخطير الذي يسعى لتشويه الإسلام باسم "الإصلاح"، وإحلال الطقوس الميتة محل الإيمان الحي، وتبديل الوعي الديني بالاستعراض الشعبي، وتغذية الجهل بدلا من العلموتحويله إلى إسلامٍ رسمي مطيع للسلطة، يُستخدم لتبرير القمع، وتغييب الوعي، وتجميل القبح السياسي والاجتماعي.
لقد فتح السيسي الأبواب على مصراعيها لأمثال سعد الدين الهلالي وعلي جمعة وأسامة الأزهري، ليحتلوا المنابر والإعلام، يقدّمون فتاوى مُعلّبة حسب مقاس السلطة، ويدعموا الانحرافات العقدية تحت مسمى "التسامح" و"الصوفية المعتدلة"، بينما تم إقصاء العلماء الحقيقيين، وإغلاق البرامج الإسلامية التي كانت تعلّم الناس دينهم الصحيح.
تحت مسمى "محاربة التطرف"، جرى تجريف الدين من مضمونه، وتم إقصاء القرآن والسنة من توجيه الوعي الجمعي. وفي المقابل، أُطلقت يد الأجهزة الأمنية لتختار من يتحدث باسم الدين، ومن يُمنع، ومن يُسجن، ومن يُلمّع في الإعلام.
إن ما جرى في مولد السيد البدوي ليس سوى نتيجة مباشرة لهذا المشروع السلطوي الخطير الذي يسعى لتشويه الإسلام باسم "الإصلاح"، وإحلال الطقوس الميتة محل الإيمان الحي، وتبديل الوعي الديني بالاستعراض الشعبي، وتغذية الجهل بدلا من العلم.
لقد تم تجهيل شريحة واسعة من الشعب المصري، واستغلال بساطتهم الدينية وارتباطهم العاطفي بالتراث، لتثبيت دعائم سلطةٍ تخشى وعي الناس، وتخاف أن يعود الدين إلى مكانه الطبيعي كقوة تحرر وعدل ومحاسبة.
الحق يُقال: ما يحدث اليوم ليس دينا، بل دين السلطة، بلا علم.. دينٌ يُصفّق فيه "العلماء الرسميون" أمام كاميرات التلفاز، بينما يدفن فيه وعي الأمة في أضرحة الأولياء.