مدن القناة، قلب مصر النابض، بورسعيد والإسماعيلية والسويس، تكونت مع حفر قناة السويس، ضمت المصريين من الإسكندرية إلى أسوان، جاءوا من الصعيد والوجه البحرى وسيناء، ليشاركوا فى أعمال الحفر، ثم استقروا حولها منخرطين فى أعمال وحِرف تتطلبها الحياة التى خلقها هذا الممر المائى الجديد، فكان ذلك الخليط الذى يعبّر عن مصر وأهلها.
رغم دورها العظيم فى التصدى للعدوان الثلاثى عام 1956، وكسر هيبة إنجلترا وفرنسا، ودورها فى حرب الاستنزاف ونصر أكتوبر المجيد، وما قدمه أبناؤها من تضحيات، ظلت مدن القناة تعانى الظلم والتشويه.
ومع ذكرى انتصار مصر على العدوان الثلاثى فى 23 ديسمبر 1956، يجب أن يعرف شبابنا أن هناك أبطالا فى مصر، غير لاعبى كرة القدم، وممثلى السينما، فأين نحن من أبطال المقاومة الشعبية الذين واجهوا بأجسادهم العارية وإرادتهم الصلبة أعتى الجيوش الاستعمارية؟!
علينا أن نتذكر ونذكِّر بأبطال عاشوا أو ماتوا ولا يعرف شبابنا عنهم شيئـًا، مَن منهم مات؟ وكيف مات؟، مَن منهم لا يزال على قيد الحياة؟ وكيف يعيش؟، بالطبع أمثالهم لا ينتظرون جزاء ولا شكورًا، لكن هل نالوا ما يستحقون؟، أسئلة كثيرة يجب التوقف أمامها طويلا.
هل تعرفون البطل محمد مهران؟، أحد رموز المقاومة التى تشكلت من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، وانطلقت فى بورسعيد لصدِّ العدوان عقب تأميم قناة السويس، لقد كان ضمن قوات الحرس الوطنى المكلفين بالدفاع عن منطقة «مطار الجميل»، الذين تصدوا لعمليات إنزال رجال الـمظلات البريطانيين، وتمكنـــوا من إبادة الكثير منهم، واشتبكوا فى معارك بطولية مع المظليين الإنجليز ليسطِّروا ملحمة عظيمة، ستبقى خالدة فى التاريخ المصرى المعاصر.
بعد وقوعه فى الأسر، رفض البطل الإدلاء بأى معلومات عن زملائه الفدائيين وأماكن اختبائهم، فعقدت له القوات المعتدية محكمة عسكــرية صــورية أصدرت حكمـًا باقتـلاع عينيه لزرعهما لضابط إنجليزى فقد عينيه جراء معارك المقاومة التى شارك فيها مهران!.
نقلوه بطائرة إلى قبرص لإجراء العملية بأحد المستشفيات البريطانية، وقتها ساومــوه على الإدلاء بحديث إذاعى يهاجم فيه الزعيم الراحل عبد الناصر مقابل أن يتركوه، فرفض ليعيش طوال حياته فاقد البصر.
من بين هؤلاء، الراحل العظيم «على زنجير»، هل تذكرون هذا الاسم؟ أو بالأحرى هل تعرفونه؟!، هو أحد أبطال المقاومة شارك وزملاؤه «أحمد هلال وحسين عثمان ومحمد حمد الله وطاهر سعد ومحمد سليمان» فى خطف الضابط الإنجليزى «أنتونى مور هاوس» ابن عمة ملكة بريطانيا، فى عملية فدائية للرد على وحشية العدوان الذى هدم المنازل وقتل النساء والأطفال، وحوَّل بورسعيد إلى ساحة للدماء وانتهاك الأعراض.
هل تعرفون الراحلة العظيمة زينب الكفراوى؟!، أول فتاة تنضم إلى المقاومة الشعبية فى «حرب السويس»، بدأت نضالها بجمع التبرعات لتسليح الجيش، وتوزيع المنشورات لحثِّ المواطنين على مقاومة الاحتلال، كانت وزميلاتها الطالبات فى مدرسة المعلمين يذهبن لمعسكر «الحرس الوطنى»، لتلقى التدريب على القتال، يتدربن فى السابعة صباحـًا ثم يتوجهن إلى معهد المعلمات للدراسة فى الثامنة.
لم يَهَبْن الرصاص، ولا أصوات الطائرات، ولا دوىّ الانفجارات، حملن السلاح فى سن الخامسة عشرة، دفاعـًا عن تراب هذا الوطن.
حقيقة، ما أحوجنا هذه الأيام لاستلهام روح البطولة والفداء، وأن ندرك أننا قادرون على تجاوز التحديات.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: نصر أكتوبر الإسماعيلية السويس بورسعيد قناة السويس الجيش المصري مدن القناة جمال عبد الناصر الطيران المصري حرب الاستنزاف العدوان الثلاثي العدوان الثلاثي على مصر محمد السيسي عيد النصر
إقرأ أيضاً:
المقاومة بين ضغط العدو وصمت القريب
أحمد الفقيه العجيلي
تبدو المفارقة في المشهد العربي اليوم لافتة: فبعض الأنظمة تبدو أكثر تشددًا تجاه حركات المقاومة مما هي عليه القوى الكبرى نفسها. ولا يرتبط الأمر بخلاف سياسي محدود؛ بل بتراكم تاريخي وتعقيدات تتداخل فيها هواجس الأمن الداخلي، وتحولات الإقليم، ومحاولات إعادة بناء الأولويات بعيدًا عن القضية الفلسطينية.
حركات المقاومة- وفي مقدمتها حماس- تمثل نموذجًا حساسًا لدى عدد من الأنظمة. فهي قوى شعبية تمتلك خطابًا مؤثرًا، وحضورًا ميدانيًا متماسكًا، وقدرة على الاستمرار رغم الظروف القاسية.
هذا النموذج يُثير مخاوف متوارثة من انتقال "عدوى القوة الشعبية" إلى الداخل، كما حدث حين ألهبت ثورات الخمسينيات مشاعر الشعوب العربية، أو عندما فجّرت انتفاضة 1987 موجة تعاطف وضغط شعبي هزّت المنطقة بأكملها. لذلك تصبح هذه الحركات هدفًا مزدوجًا: تُحارَب من الاحتلال لأنه يراها خصمًا مباشرًا، وتتحفظ عليها بعض الأنظمة لأنها تمثل نمطًا لا ترغب في رؤيته يتكرر.
الأحداث الأخيرة كشفت هذه المعادلة بوضوح؛ فبعد طرح "خطة ترامب"، التي تكشف عن ثغرة قاتلة: غياب الضمانات الحقيقية لوقف الخروقات الإسرائيلية. هذه الخطة لم تُبنَ على أساس موازين قوى متكافئة أو حقوق ثابتة؛ بل اعتمدت في جوهرها على أجندة أمريكية- إسرائيلية تهدف إلى تصفية المقاومة ونزع سلاحها أولًا، دون إلزام الاحتلال بضوابط ردع فعالة لوقف الاستيطان أو الاغتيالات أو التعدي على المقدسات.
وبالتالي تجعل تركيزها كله على مطالبة المقاومة بالتنازل، دون وضع آليات عقابية لإلزام الطرف الإسرائيلي.
والأدهى، أن دور الوسطاء العرب والدوليين يظل في الغالب ضعيفًا وغير فعّال عند وقوع الخروقات الإسرائيلية الكبرى؛ فبدلًا من ممارسة ضغط حقيقي لفرض عقوبة على العدو، تقتصر ردود فعلهم غالبًا على بيانات حذرة أو متابعة للمشهد، ما يضعهم في موقع "المراقب" بدلًا من "الضامن الفعّال". هذا الضعف في آليات الضمان يرسخ الانطباع بأن أي تسوية تُطرح، هي بالأساس إطار قابل للتلاعب من قبل الاحتلال، يتيح له استخدام الوقت لصالحه للمزيد من القضم والتمدد.
التاريخ القريب يدل على أن أي تسوية لا تنطلق من الإرادة الفلسطينية تتحول إلى إطار قابل للتلاعب. حدث ذلك في كامب ديفيد، وفي أوسلو، ويتكرر اليوم مع خطة ترامب. فالاحتلال يملك القدرة على إعادة تفسير البنود واستخدام الوقت لصالحه، بينما تكتفي الأطراف العربية المعنية بمتابعة المشهد أكثر مما تُسهم في تشكيله.
ويبقى السؤال: هل يمكن لمثل هذه الخطط أن تنجح؟ التجربة تشير إلى أن نجاحها يتطلب قبولًا فلسطينيًا واسعًا، وهو ما لم يتحقق، خصوصًا أن الخطة بُنيت على منطق أحادي يجعل "الحل" أقرب إلى إعادة ترتيب الاحتلال بلغة سياسية ناعمة. وهكذا تبقى المقاومة- رغم اختلاف تقييم أدائها- الطرف الوحيد الذي يتحرك على قاعدة الفعل لا البيانات.
بحسب ما أتابعه من قراءات وتحليلات، فإن فرص نجاح أي خطة لا تُلزم الاحتلال بقواعد واضحة وتضمن الحد الأدنى من الحقوق، ستظل ضعيفة. فالخطة التي تستند على الضغط على المقاومة دون ردع الاحتلال، تشبه محاولة بناء بيتٍ على أرض رخوة؛ أول هبّة ريح تكشف هشاشته.
ولعل العدو يدرك- قبل غيره- أن كسر حماس ليس سهلًا؛ فالمقاومة التي صمدت تحت الحصار، وتحت النار، وتحت كل حملات التشويه، ليست مجرد تنظيم؛ إنها حالة وعي تشكّلت عبر عقود من الجراح والأمل. وهذا ما يجعل بعض الأنظمة أكثر حذرًا… وربما أكثر عداءً.
في الجوهر، الموقف المتشدد تجاه المقاومة لا يرتبط بقيم سياسية بقدر ما يرتبط برغبة عدد من الأنظمة في طيّ صفحة الصراع، أو على الأقل تحييده عن حساباتها الجديدة. لكن وجود مقاومة فاعلة يعيد تذكير الجميع بأن الملف لم يُغلق، وأن أي ترتيب لا يأخذ حقوق الفلسطينيين بجدية لن يعيش طويلًا.
لهذا تبدو المفارقة مفهومة: تُنتقد المقاومة لأنها ترفض التكيف مع المعادلات الجديدة، ولأن استمرارها يربك خطاب “الاستقرار بأي ثمن”. أما الاحتلال، فاعتاد أن يجد من يخفف عنه عبء الانتقاد، حتى وهو يمضي في خروقاته يومًا بعد يوم.
ولذلك، كلما اشتد الهجوم على حماس… ازددتُ يقينًا أن ما يؤلم خصومها ليس فعلها، بل ثباتها.
وما يزعجهم ليس قوتها، بل قدرتها على النجاة. وما يخيفهم ليس خطابها؛ بل الأمل الذي تبقيه حيًا في قلوب الناس.
هذه الصورة ليست تحليلًا سياسيًا بقدر ما هي قراءة واقعية لمشهد يتكرر عبر العقود: حين يتراجع الصوت الرسمي، تظل القوى الشعبية- مهما اختلفت التقديرات حولها- هي الكف التي تمنع سقوط القضية بالكامل.
في النهاية.. يظل الثابت أن من يحمل البندقية ومن يرفض الانحناء هو الأكثر استهدافًا. أما من يفاوض بلا أوراق قوة، أو يساير الرياح حيثما هبّت، فلن يكون موضع قلق لأي أحد.