رافدان أساسيان لاكتساب المعرفة.
يقول المستكشف «ريتشارد فرانسيس بيرتون»، عن السَّفر، إنَّه «من أكثر اللحظات سعادة في حياة الإنسان، هو الانطلاق في رحلة بعيدة نَحْوَ أراضٍ مجهولة. فأن ينفضَ المرء عَنْه بجهدٍ جبَّار قيود العادة، وثقل الرتابة الشديد، وعباءة الهموم والاهتمامات، وعبوديَّة المنزل، إنَّما يجعله أكثر غبطة من ذي قَبل.
تتدفق الدِّماء في دَوْرة سريعة كالدَّوْرة الدمويَّة لدى الأطفال. وتضخ الإثارة قوَّة عجيبة في العضلات. ويفضي الإحساس المفاجئ بالحُريَّة زخمًا على النشاط الفكري. وينبلج فجر جديد للحياة؛ ويبدو العالَم المُشرق للعَيْن في غاية الجَمال مجددًا، وتبتهج الروح بوجْهِ الطبيعة البهيَّة… «. على المستوى الشخصي، وكما تراكمت ثقافتي من قراءاتي لمئات الكُتب الَّتي تحتويها مكتبتي الخاصَّة، نمَتْ كذلك معارفي من برنامج التطواف لعشرات البلدان ومُدُن العالَم في آسيا وإفريقيا وأوروبا… فالقراءة والسَّفر عنوانان مُهمَّان لاكتساب المعرفة، وتوسيع الثقافة وتعميق الخبرات والتجارب، والتحليق في فضاء الحياة، بَيْنَ أحضان الثقافات وأُفق الفكر العالَمي في شموليَّته، والعالَم الواسع المنفتح، بشعوبه وأعراقه وأديانه وعلومه وتاريخه ومَدنيَّته وطبيعته الغنيَّة بالجَمال والفتنة. في السَّفر يجد الإنسان المُتعة ويكتشف الحياة، ويرى التمدُّن والحداثة ويعيش صخب المُدُن، ويطَّلع على أسباب التقدُّم. في المطارات والأسواق والفنادق ومحطَّات النقل والمعالم السِّياحيَّة والصروح الحضاريَّة… يغوص بَيْنَ مئات البَشَر الَّذين يعبِّرون عن العولمة في مشهد صادق على العالَميَّة الإنسانيَّة والترابط والانفتاح الاقتصادي والثقافي، ومَن يفتح حوارًا مع عيِّنة من النَّاس سيكتشف الكثير، عن تعدُّد المقاصد والمشارب والتوجُّهات ودوافعها، والسحنات والمستويات والانتماءات إلى شرق وغرب، جنوب وشمال، رجال ونساء، شيوخ وفتية وأطفال، علماء وبسطاء، تجارًا وموظفين، باحثين عن عمل، ومستكشفين وسيَّاحًا ومهاجرين، وبائسين يفتشون عن الفرص، مرضى يستثمرون ما تبقى لَهُم من أيَّام لِتحقيقِ ما حرمته مِنْهم الظروف والأيَّام، وأصحَّاء يتدفَّقون نشاطًا وسعادة وحيويَّة، طالبَيْنَ للعِلم والمعرفة والصحَّة… صور ومشاهد، تساؤلات وملاحظات ترفد الإنسان بحصيلة معرفيَّة تجعله أكثر قدرة على التفكير وأعمق وعيًا وأقدر على التعامل مع الحياة وانفتاحًا على العالَم وتحاورًا مع الآخر. وفي السَّفر ـ كما قيل ـ سبع فوائد «تفريج الهموم، طلب الرزق، طلب العِلم النافع، تحصيل الآداب، صحبة كرام النَّاس، استجابة الدعاء، وأخيرًا الخبرة في النَّاس». وفي سلسلة مفاجآت السَّفر، الَّتي تبهج النَّفْس والهدايا الَّتي تشرح القلب، تلقيتُ عرضًا أو مبادرة من أفراد أُسرتي ـ زوجتي وأبنائي الأعزاء ـ في الرُّبع الأخير من هذا العام، لزيارة
المغرب العربي وإسبانيا والبرتغال، لحظتها أحسسْتُ بفيض من الفرح يحتضنني، وغمرة من النشاط والحماسة تتسرب إلى جسدي، فمَن سوف أصحبهم في هذا التطواف هُمْ أغلى ما أملك في هذه الحياة، والبلد المقترح (المغرب العربي)، الَّذي زرته قَبل سنوات، فعشقت مُدُنه، الَّتي تُشكِّل الواحدة مِنْها خصوصيَّة وتنوُّعًا مختلفًا عن الأخرى، والتطواف بَيْنَها يشعر السَّائح وكأنَّه يزور عددًا من الدوَل لا واحدة، وآثاره وعمارته الشامخة الغنيَّة بالإبداع الإنساني، تعرض وتوثّق لدوَل وإمارات وثقافات وأنظمة سياسيَّة وعواصم توالت وتأسَّست وأقامت هنا في أصقاع المغرب وحواضره، وطبيعته المتنوِّعة بَيْنَ صحراء وجنان وجبال وسهول وأنهار وبحار ومُدُن نشطة وقرى آسرة، وشَعبه المضياف بروحه الأنيقة وأسلوب تعامله الراقي، جميعها محفِّزات لتكرار زيارته مرَّات، ولا غرابة أن تجذبَ المغرب المفكِّرين والفلاسفة والمثقفين والعلماء والمتقاعدين من هذا العالَم الفسيح ليقيموا فيها ويتَّخذوها وطنًا وسكنًا ومقرًّا لَهُم، ففيها كُلُّ ما يتوقون إليه من طمأنينة وتعايش وتنوُّع وجَمال وترفيه واستجمام وسحر الماضي وروح العصر. ولو أنَّني سئلت: أيُّ بلد تحبُّ الإقامة فيه بعد عُمان؟ لكانت إجابتي دُونَ تردُّد المغرب؛ كونها تمزج روح الثقافة الإسلاميَّة بحداثة أوروبا وعصرنتها وجَمال إفريقيا وسحرها الأخَّاذ، وأخيرًا فهي مركز من مراكز الدَّولة الإسلاميَّة في ماضيها وحاضرها، وجزء أساسي من خريطة وطننا العربي الكبير، فإذا كانت المغرب تُمثِّل أقصى امتداد له غربًا، فعُمان الَّتي تستقبل شمس الصباح في كُلِّ يوم قَبل أيِّ دَولة عربيَّة كانت وما زالت حارسة لأمْنِه ماضيًا وحاضرًا. في المغرب تمتزج الثقافات واللُّغات والأعراق، وكُلُّ ما يمُتُّ إلى الأصالة والمعاصرة من قِيَم ورؤى ومدارس ومناهج. ساعتها تذكَّرتُ تلك المقولة الَّتي شاركنا بها صديق في مجموعة واتساب ولا أعلَمُ إن كانت له أو لغيره: (إن لَمْ يكن لدَيْك حلم تقطع المحيطات من أجْله فأنتَ لَمْ تشعر بلذة الحياة بعد، دع الشغف يرحل بك إلى محطَّات جديدة وكأنَّك طفل يرى الأشياء لأوَّل مرَّة). نعم إنَّه الشغف إلى السَّفر والتطواف بَيْنَ محطَّات جديدة تُعيدنا إلى مرحلة الشَّباب وروحه المفعمة باقتحام المخاطر واكتشاف الجديد. والمحطَّة الثانية «الأندلس»، الَّتي وثَّقت تفاصيل تطوافي بَيْنَ إماراتها وحواضرها ومُدُنها ـ المزدهرة بشمس الإسلام ونور الرسالة المحمديَّة لقرون طويلة لا تزال إضاءاته وإسهاماته جليَّة حاضرة في فنون العمارة وصفحات الأدب والعلوم والمعرفة ومناهج التعليم ـ. في كتابي «الأندلس تطواف بَيْنَ زمنين»، وهي منطقة من العالَم يودُّ المرء أن لا يفارقَها، ومتى ما أتيحت له الفرص، أن يستثمرَ زياراتها مرَّة ومرَّات، فمَن يتجوَّل في قصر الحمراء، ويصلِّي في جامع قرطبة، ويتريض على شاطئ الوادي الكبير ويتنفس هواء إشبيليَّة ويعيش أمكنة تتضوَّع من عبير زهورها قصص وذكريات وروح ابن عباد وابن عمار والرميكية… لا يملك من أمْرِه شيئًا إلَّا أن يرتبطَ بها ارتباطًا يصبح أشبَه بالعشق الَّذي لا شفاء منه… فيما محطَّتنا الثالثة، البرتغال، وهي إمبراطوريَّة ظهرت في مطالع القرن الخامس عشر، فغربت شمسها بعد أن أفسدت في الأرض وقهرت الشعوب والأوطان ونهبت الثروات، فخضعت واستكانت أخيرًا للضعف والانكماش وانتهى دَوْرها الاستعماري لتسلِّمَ الراية لِمَن انتصر في معركة الصراع، جريًا واستسلامًا لقانون الحياة والتاريخ والزمن، وكان للعُمانيِّين شرف طرد البرتغاليِّين وتطهير البلاد العربيَّة وشرق إفريقيا من أطماعهم وهيمنتهم وشرورهم وبلائهم، فلَمْ يَعُدْ لَهُمْ من بعد ذلك الانتصار العُماني الساحق من مكان على أرض البسيطة إلَّا ما لَهُم من حقٍّ داخل حدود بلادهم فقط، وهي وإن أفلَت شمسها قَبل قرون طويلة، وحلَّت محلَّها قوى عديدة، ولكن ظلَّت الصروح والآداب والآثار شاهدةً، وتطوُّرات العصر وتحوُّلاته ماثلة تقدّم البرتغال في طبيعة ساحرة، ومعمار فاتن وتجربة سياسيَّة أعادت للإنسان دَوْره في المشاركة في مظاهر الحياة المختلفة… الطيران العُماني ـ للأسف ـ أوقف رحلاته إلى «الدار البيضاء»، مع أنَّ المغرب وجهة سياحيَّة مُهمَّة للعُمانيِّين والخليجيِّين، فلَمْ يكنْ لدَيْنا من خيار إلَّا البحث عن طيران آخر، فكان الأقرب والأنسب سعرًا وتوقيتًا وتحقيقًا لبرنامج تطوافنا إلى «الدار البيضاء»، والعودة من «مدريد»، طيران «الاتِّحاد»، الَّذي استغرقت رحلته من «أبوظبي»، إلى العاصمة المغربيَّة ما يقارب السبع ساعات.. «يتبع».
سعود بن علي الحارثي
Saud2002h@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية:
العال م
إقرأ أيضاً:
الأمم المتحدة: أهالي غزة يستحقون أكثر من البقاء على قيد الحياة
غزة (الاتحاد)
أخبار ذات صلة

موافقة فلسطينية لاتفاق مع ويتكوف على «إطار عام» لوقف إطلاق النار

لبنان.. «يونيفيل» ترفض التدخل بنشاط جنودها
اعتبرت سيغريد كاغ، موفدة الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط، أن «فلسطينيي قطاع غزة الذين ينزلقون أكثر فأكثر إلى الهاوية، يستحقون أكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة».
وقالت كاغ أمام مجلس الأمن الدولي أمس: إن «مدنيي غزة فقدوا أي أمل، بدل أن يقولوا: إلى اللقاء، إلى الغد، يقول فلسطينيو غزة اليوم: نلقاكم في الجنة، فالموت هو رفيقهم، لا الحياة ولا الأمل، سكان غزة يستحقون أكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة، إنهم يستحقون مستقبلاً نابضاً بالحياة».
وفي السياق، قالت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، أمس، إن نحو 250 ألف فلسطيني في قطاع غزة يعانون الجوع الشديد ضمن المرحلة الخامسة من انعدام الأمن الغذائي، وهي أخطر مراحل الجوع، فيما يواجه نحو 950 ألف شخص خطر المجاعة ضمن المرحلتين الرابعة والخامسة.
وأضافت «الأونروا» في بيان لها، أن سكان غزة يفتقرون إلى أدنى مقومات التغذية، مؤكدة أن سوء التغذية بات منتشراً على نطاق واسع، ويطول مئات الآلاف من الأطفال والأمهات والرضع والنساء الحوامل، وسط نقص حاد في الإمدادات الغذائية والمساعدات الإنسانية.
وأشارت الوكالة إلى أن نحو 70 ألف طفل يعانون سوء تغذية الحاد، مما ينذر بعواقب صحية خطيرة قد تكون طويلة الأمد، في ظل انهيار النظام الصحي وصعوبة وصول المساعدات.
بدورها، قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسف»، إن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أسفرت عن مقتل وإصابة أكثر من 50 ألف طفل فلسطيني منذ 7 أكتوبر 2023.
وذكر إدوارد بيجبيدر المدير الإقليمي لـ«اليونيسف» في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في بيان: «خلال 72 ساعة الأسبوع الماضي، قدمت صور من هجومين مروعين ارتكبتهما إسرائيل بغزة، دليلاً إضافياً على التكلفة الباهظة لهذه الحرب الشرسة على الأطفال».
وأضاف: «يوم الجمعة، شاهدنا مقاطع فيديو لجثث أطفال محترقة ومقطعة الأوصال من عائلة النجار يتم انتشالها من تحت أنقاض منزلهم في خان يونس».