عبد الله البرغوثي.. أمير الظل الفلسطيني الذي جاء على آلة الزمن
تاريخ النشر: 29th, December 2023 GMT
مجددا، نحن أمام رواية فلسطينية شقت طريقها متسللة من شقوق زنزانة مظلمة لتروي للعالم قصة أسير لعب دورا كبيرا في مسيرة نضال شعبه من أجل الحرية، فعاقبته إسرائيل بحكم بالسجن الانفرادي لبضع "آلاف" من السنوات.
ولئن كانت الرواية جاءت للرد على استفهام مشحون بالعواطف من بنت لأبيها الذي تركها في السيارة لحظة اعتقاله ولم تره بعد ذلك، تسأله فيه: "من أنت؟ ولماذا أنت؟"، فقد أجابت الرواية ليس فقط عن هذين السؤالين، ولكنها أجابت أيضا عن سؤالين نسألهما جميعا: كيف وصلنا إلى هنا؟ وإلى أين نذهب؟
نحن هنا في حضرة الأسير القسامي المهندس عبد الله البرغوثي القابع في زنزانة انفرادية في معتقل رامون جنوب فلسطين المحتلة منذ العام 2003، وعنوانها الذي نشرت به بعد تسريبها عام 2013 هي "أمير الظل: مهندس على الطريق"، وهو يوضح فيها أنه سكت عن كشف كثير من القصص والحقائق حتى لا يتمكن جهاز المخابرات الإسرائيلي من معرفة المقاومين الذين لم ينالوا الشهادة، أو يتعرضوا للأسر، وللمحافظة على أسرار المقاومة.
تفاصيل الرواية كما قلنا تقودنا إلى فهم اللحظة التي نقف فيها في غزة حاليا، بعد سنوات من النضال الدؤوب لتجاوز العقبات، وتعلم ما يحتاجه الأمر، وهو في هذا السياق يروي سير الشهداء، وكيف قام بانتقاء وتدريب عناصر كتائب القسام على إنتاج الأسلحة والمتفجرات واستخدامها بكفاءة، وخبرته في هذا السياق أوصلته إلى قناعة ملفتة وهي: أن زراعة العقيدة صعبة جدًا، لكن اقتلاع تلك العقيدة بعد أن زرعت أصعب ألف مرة بل يكاد يكون مستحيلاً.
يتحدث البرغوثي في الكتاب عن برنامجه التدريبي الذي قام خلاله بانتقاء أفضل شباب كتائب القسام الذين يملكون القدرة على التعلم وعلى القيادة أيضًا، فيقول: "فكنا ندرب ونعد عددًا من قادة القسام، ليكونوا قادة المرحلة القادمة، حتى لا يكون هناك فراغ ونقص إذا ما استشهد قائد، خاصة أن القبضة الأمنية من أجهزة السلطة الفلسطينية ومن قوات الشاباك الصهيوني قوية وشديدة جدًا".
فتحت خبرات البرغوثي في مجال الهندسة الميكانيكية والإلكترونية، آفاقًا جديدة للابتكار وإنتاج أفكار لحل المشكلات التي تواجهها كتائب القسام، حتى أن صديقه أيمن حلاوة سأله يومًا: "هل أنت تنتمي لهذا العالم؛ أم لعالم المستقبل؟ قل لي بربك هل أتيت إلى نابلس عبر آلة الزمن.. ألم تأتِ هنا من عام 2050 أو من عام 2100؟".
ثار ذلك التساؤل في ذهن أيمن عندما رأى عبد الله ينجح في تطوير الوسائل الإلكترونية لخداع جهاز المخابرات الإسرائيلي، وينتج أجهزة كهربائية، ويتمكن من تفجير عبوات ناسفة عن بُعد.
انطلق عبد الله في مرحلة جديدة من حياته بعد أن دنس شارون المسجد الأقصى؛ فاشتعلت الانتفاضة الثانية؛ فعقد العزم على أن يبدأ المقاومة بالصلاة في المسجد الأقصى؛ لكن عسكر الاحتلال منعوه، وضربوه بأعقاب البنادق حتى سقط مضرجًا بالدماء
المعركة اختارته!لماذا سار عبد الله في هذا الطريق؟
يرد على ذلك قائلا: " المعارك تختارنا ولا نختارها"؛ وقد اختارته معركة القدس ليصبح مهندس المقاومة، وليقوم بدور مهم في تدريب كوادر القسام الذين اعتبروه شيخهم، وبذلك قاد ثورة العقول ضد الاحتلال، وعلم القساميين أن يصبحوا مهندسين وعلماء وقادة.
كان يمكن أن يعيش حياة وادعة لا تخلو من رغد، فهو كفء علميا درس وعاش في كوريا التي كانت في أوجها كنمر آسيوي، وأتقن لغتها إضافة إلى اللغة الإنجليزية، كما أثبت كفاءة في مجال الأعمال في كوريا والأردن بل وفي نابلس التي دخلها بتأشيرة زيارة دون حق في الإقامة. كما أنه شاب يتمتع بقوة جسدية، يمارس الرياضة ولا سيما "الجودو" منذ نشأته الأولى في الكويت، كما كانت له زوجة كورية محبة. كان يمكن ببساطة أن يعيش أبعد ما يكون عن "القضية".
الروح والغضب والحبولكن ساقته عواطفه وأقداره إلى اتجاه آخر. لم تنجب زوجته الكورية، فلما فكر في الزواج بأخرى بعد عودته إلى الأردن، اختارت الطلاق، فشعر بالحزن لفراقها وعاف فكرة الزواج مجددا، ولكن أمه أصرت عليه، فوضع شروطا يصعب أن تتوفر في فتاة، لكن أمه وجدت من تنطبق عليها الشروط، وطلبت منه الذهاب لفلسطين لرؤيتها، فأطاعها إرضاءً لها.
قبل أن يذهب لرؤية العروس زار القدس، وصلى في المسجد الأقصى؛ فعادت له روحه، وعادت الحياة تدب بجسده من جديد.. لقد أصبح حيًا، وعادت له ذاكرته وحبه لفلسطين.
في القدس شعر بالرغبة في الحياة؛ وفي المسجد الأقصى شارك في الصلاة على الشهيد يحيى عياش، وسمع أحدهم يقول جملة أصبحت محور حياته القادمة: "الانتقام الانتقام يا كتائب القسام".
يقول عبد الله: غضبت وعشقت وصليت، وذقت لأول مرة الحب؛ فلقد أحببت القدس وقبة الصخرة المشرفة من أول نظرة.. وأحببت يحيى عياش مثلما أحببت القدس تمامًا؛ فعياش ذلك المهندس القسامي أعاد لي بما رووه عنه روح المقاومة والتصدي للظلم والطغيان.
وتجول عبد الله في مدن فلسطين، وأقسم أن يحرر فلسطين.. كل فلسطين. ثم ذهب إلى بيت أبيه الذي ورثه عن جد جد جده، وهو عبارة عن قلعة قديمة، استخدم بعد ذلك علمه وخبرته في تحويلها إلى قصر فاخر.
ذهب بعد ذلك لرؤية العروس إرضاء لأمه المريضة ناويا أن يجد مبررا للاعتذار، لكنه عندما رأى عينيها وقع في حبها من أول نظرة.. لقد سحرته بعيونها الخجولة؛ فقرر أن يطلب يدها.. لكنه لا يعرف هل كان ذلك سحر الحب أم سحر فلسطين.
هكذا تشابكت قصة الإنسان العاشق الثائر مع قصة شعبه الذي يكافح من أجل الحرية، واختارته المعركة، وكانت قصته الإنسانية تزيد قصة كفاحه جمالًا وبهاءً، فهو زوج محب مخلص، وأب حنون يتابع ابنته وهي تخطو خطواتها الأولى، وابن بار بأمه وأبيه، وأجمل أوقاته تلك التي يقضيها في قطف الزيتون في مزرعة أبيه.
شرارة البدءانطلق عبد الله في مرحلة جديدة من حياته بعد أن دنس شارون المسجد الأقصى؛ فاشتعلت الانتفاضة الثانية؛ فعقد العزم على أن يبدأ المقاومة بالصلاة في المسجد الأقصى؛ لكن عسكر الاحتلال منعوه، وضربوه بأعقاب البنادق حتى سقط مضرجًا بالدماء.
حمله بعض الفلسطينيين لبيت قريب وضمدوا جراحه.. بعد ساعات ودعهم لعله يتمكن من عقاب المحتل الصهيوني على ألم النفس والروح.. ألم الكرامة.. "ألم أن أضرب، وأمنع من أداء صلاتي لربي".
انخرط في إعداد البنية التحتية للمقاومة، وعندما اكتشف أبوه المتفجرات شعر بالخوف عليه؛ فأجابه: "لقد آن الأوان لأخوض المعركة التي طالما حلمت بها وتمنيتها.. ادع لي بالنجاح؛ فأنا يا والدي قررت أن أترك هذه الدنيا الفانية لأقاتل.. لعلي أسقط شهيدًا، أو أنتصر.. المهم يا والدي أنني واثق بإذن الله أني قبل أن أصل لإحدى الحسنيين أني سوف أسقط عشرات وعشرات من قتلى العدو".
باع محلاته التجارية، وسحب ما كان يملكه من مال في البنوك لينفقه على شراء أدوات يستخدمها في صنع المتفجرات، لكن جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني قبض عليه، وصادر أمواله. وبعد خروجه من سجن السلطة أعطته زوجته ذهبها ليبيعه وينفقه على المقاومة.
معركة كسر الإرادة!يستمر في سرد قصة ثرية بالأحداث، انتهت بتمكن جيش الاحتلال الإسرائيلي من أسره بعد أن وشى به عميل حقير.
كانت ابنته تالا في ذلك الوقت مريضة على يديه عرج بها لمعاينة عقار ينوي استئجاره قبل أن يزور بها مشفى العيون، وما ان وصل إلى موقف بلدية البيرة حتى هاجمه كلبان بوليسيان فقذف ابنته إلى السيارة وأغلقها عليها محاولا التصدي لهما فيما بدأ أحدهما بنهش قدمه والآخر بنهش السترة الشتوية الذي كان يرتديها. قبل ان يتمكن من التخلص منهما كانت مجموعة من الاحتلال تحيط به مصوبة بنادق رشاشاتها نحوه فألقوه على الأرض وكبلوه واقتادوه إلى سيارة كانت حولهم عندما هاجموه
يقول عبد الله: "كنت أدرك أن مثل هذه اللحظة قد تأتي.. فلم يكن أمام من يقاوم الاحتلال سوى الشهادة أو الاعتقال أو النصر.. وكنت مستعدًا للشهادة عبر إخلاص النية لله وحده.. فالمقاومة لم تكن لسلطة ولا لجاه؛ بل كانت لله لرب العزة رب فلسطين الذي كتب علينا الجهاد طريقًا لتحرير المقدسات".
خاض في التحقيق معركة كسر الإرادة، حيث مارس الصهاينة كل الأساليب اللاإنسانية من أجل انتزاع المعلومات منه، فكسروا عظامه حتى وصل جسده إلى حافة الانهيار.
يقول عبد الله: "كنت ميتًا يحمل بقايا أنفاس أجراها الله بجسدي.. وأقسم أني شاهدت الموت، وتحدثت معه وجهًا لوجه، صادقت الموت وصادقني مشفقًا عليّ مما حل بي من عذاب".
بعد ذلك حوكم، وعاقبوه بسبع وستين مؤبدًا، بالإضافة إلى 5200 عام بتهمة بقتل 67 جنديًا صهيونيًا في 188 عملية.
في النهاية يقول لابنته: "إما عيشة تتوجها الكرامة والعزة، وإما ميتة يقصد بها وجه الله عز وجل ترتقي بعده الروح صاعدة لله رب العزة.. إن فلسطين بأقصاها وقدسها تستحق كل ما قدمت لها ولأجلها.. ويشهد الله إذا ما ظل بجسدي نفس؛ فلن أبخل به على وطني السليب".
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی المسجد الأقصى کتائب القسام عبد الله فی بعد ذلک بعد أن من أجل
إقرأ أيضاً:
ما مدى نجاسة بول القطط وحكم الصلاة في المكان الذي تلوث به؟.. الإفتاء توضح
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا يقول صاحبه عندي قطة أقوم بتربيتها، وقد درَّبتها على قضاء حاجتها في مكان مخصص، ولكنها عند خروجها من هذا المكان تقوم بتلويث البيت من أثر قدميها؛ فما مدى نجاسة بول القطة، وما حكم الصلاة في البيت حينئذٍ؟
وأجابت دار الإفتاء عبر موقعها الرسمى عن السؤال قائلة:القطط الأليفة حيوانٌ طاهر عند عامة الفقهاء، يجوز حيازته واقتناؤه وتملُّكه.
وبول القطط وروثها نجسٌ، ويجب غَسْل الموضع الذي أصابه البول من الثوب أو البدن إذا علمه السائل، وفي حالة تيقُّن وجود النجاسة في قَدَم القطة وانتقالها: فيجوز العمل بمذهب الحنفية، فعندهم إذا كان الشيء المتنجِّس جافًّا، وكانت اليد أو القدم أو الثوب مثلًا هي المبتلة، فإن ظهر فيها شيء من النجاسة أو أثرها تنجَّست، وإلا فلا، وإذا شقَّ على السائل إزالة النجاسة: فيجوز له العمل بمذهب المالكية؛ حيث إنَّ إزالتها سُنَّة عندهم.
والأولى والأحوط لأمر صلاتك: أن تُخصِّص لك مكانًا للصلاة لا تدخله القطة؛ احترازًا وتجنُّبًا لروثها لا لذاتها.
طهارة القطط الأليفة وحكم اقتنائها وتملكها
وأوضحت ان القطط الأليفة، أو الهرة الأهلية "المستأنسة" هي: حيوانٌ طاهر عند عامة الفقهاء، يجوز حيازته واقتناؤه وتملُّكه؛ وممَّا يدلُّ على طهارة القطط: ما رواه أصحاب السنن الأربعة عن كبشة بنت كعب بن مالك رضي الله عنهما، وكانت عند ابن أبي قتادة رضي الله عنه: أنَّ أبا قتادة دخل عليها، قالت: فسكبت له وَضوءًا. قالت: فجاءت هرة تشرب، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا بنت أخي؟ فقلت: نعم، فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ، أَوِ الطَّوَّافَاتِ» رواه الترمذي في "السنن"، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتابعين ومن بعدهم مثل: الشافعي، وأحمد، وإسحاق: لم يروا بسؤر الهرة بأسًا، وهذا أحسن شيءٍ في هذا الباب.
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ» صريحٌ في إثبات طهارة القطط أو الهرة.
مدى نجاسة بول القطط وحكم الصلاة في المكان الذي تلوث به
أمَّا بول القطط وروثها: فإنَّ المقرَّر شرعًا عند جمهور العلماء أنَّه نجس يجب التحرُّز منه، وتطهير مكان الصلاة منه؛ قال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (1/ 220، ط. دار الفكر): [وفي "الخانية": أَنَّ بول الهرة والفأرة وخرأهما نجس في أظهر الروايات، يُفْسِد الماء والثوب] اهـ.
قال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي" (1/ 160، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [والنجاسات: كل ما خرج من مخرجي بني آدم، ومن مخرجي ما لا يؤكل لحمه من الحيوان] اهـ.
وقال العلامة الدَّمِيري الشافعي في "النجم الوهاج" (1/ 410، ط. دار المنهاج): [فَبَوْلُ ما لا يؤكل لحمه نجس بالإجماع] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 64، ط. مكتبة القاهرة): [وما خرج من الإنسان أو البهيمة التي لا يؤكل لحمها من بول أو غيره فهو نجس] اهـ.
وبينت بناء على ذلك: إنَّ الموضع الذي أصابه البول أو الروث من الثوب أو البدن أو المكان إذا علمه السائل فالواجب عليه غسله بالماء الطاهر عند إرادة الصلاة؛ بأن تزال عين النجاسة أولًا، ثم يصب الماء على موضعها بحيث لا يبقى لها لونٌ أو طعمٌ أو رائحةٌ؛ وذلك لما هو مقرَّر أنَّ مِن شروط صحة الصلاة: طهارةَ الثِّياب والبدن والمكان، وقد نقل الإمام ابن عبد البر المالكي الإجماع على ذلك. ينظر: "التمهيد" (22/ 242، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب).
وتابعت:أمَّا إذا لم يعلمه السائل فينبغي أن يتحرَّى الموضع ويغسله؛ قال الإمام النووي في "روضة الطالبين وعمدة المفتين" (1/ 31، ط. المكتب الإسلامي-بيروت): [الواجب في إزالة النجاسة: الغسل] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الاستذكار" (1/ 332، ط. دار الكتب العلمية): [واحتجُّوا بإجماع الجمهور الذين هم الحجة على من شذَّ عنهم، ولا يُعدُّ خلافهم خلافًا عليهم: أنَّ من صلَّى عامدًا بالنجاسة يعلمها في بدنه أو ثوبه أو على الأرض التي صلَّى عليها، وهو قادرٌ على إزاحتها واجتنابها وغسلها، ولم يفعل وكانت كثيرة، أنَّ صلاته باطلة، وعليه إعادتها كمَن لم يصلِّها، فدلَّ هذا على ما وصفنا من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغسل النجاسات، وغسلها له من ثوبه، على أنَّ غسل النجاسة فرض واجب] اهـ.
وأضافت: فى حالة عدم التيقُّن من انتقال النجاسة إلى المكان أو الفرش فهو طاهر؛ عملًا بالأصل الذي هو الطهارة، ولأنَّ الأعيان لا تتنجَّس بالشك، وينبغي على السائل طرح هذا الشك وعدم التفكير فيه؛ دفعًا للوسواس.
قال شمس الأئمة السرخسي في "المبسوط" (1/ 86، ط. دار المعرفة): [(ومَن شكَّ في الحدث فهو على وضوئه، وإن كان محدثًا فشكَّ في الوضوء فهو على حدثه؛ لأنَّ الشك لا يعارض اليقين، وما تيقَّن به لا يرتفع بالشك)] اهـ.
وجاء أيضًا فيه (1/ 85): [(ومن سال عليه من موضع شيء لا يدري ما هو فغسله أحسن)؛ لأنَّ غسله لا يريبه، وتركه يريبه. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»، فإنْ تركه جاز؛ لأنَّه على يقين من الطهارة في ثوبه، وفي شك من حقيقة النجاسة، فإن كان في أكبر رأيه أنَّه نجس غسله؛ لأنَّ أكبر الرأي فيما لا تعلم حقيقته كاليقين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ تَعَالَى»] اهـ.
وقال الشيخ الحطاب المالكي في "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (1/ 166، ط. دار الفكر): [الْأَشْيَاءَ خُلِقَتْ طَاهِرَةً بِيَقِينٍ، فَمَا لَا يُشَاهَدُ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، وَلَا يَعْلَمُهَا يَقِينًا: يُصَلِّي بِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَصَّلَ بِالِاشْتِبَاهِ إلَى تَقْدِيرِ النَّجَاسَاتِ] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (1/ 45، ط. دار الكتب العلمية): [(وإن شكَّ في نجاسة ماء أو غيره)؛ كثوب أو إناء (ولو) كان الشك في نجاسة ماء (مع تغيُّر) الماء بنى على أصله، لحديث: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»، والتغيُّر يحتمل أن يكون بمكثه أو نحوه، (أو) شكَّ في (طهارته) وقد تيقَّن نجاسته قبل ذلك (بنى على أصله) الذي كان متيقَّنًا قبل طروء الشك؛ لأنَّ الشيء إذا كان على حال فانتقاله عنها يفتقر إلى عدمها ووجود الأخرى، وبقاؤها وبقاء الأُولى لا يفتقر إلا إلى مجرد البقاء، فيكون أيسر من الحديث وأكثر، والأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب] اهـ.
أمَّا في حالة تَيَقُّن وجود النجاسة في قَدَم القطة وانتقالها، فيجوز العمل بمذهب الحنفية، فعندهم إذا كان الشيء المتنجِّس جافًّا، وكانت اليد أو القدم أو الثوب مثلًا هي المبتلَّة: فإن ظهر فيها شيءٌ من النجاسة أو أثرها تنجَّست، وإلَّا فلا.
قال الإمام الحصكفي في "الدر المختار" (1/ 345، ط. دار الفكر): [نَامَ أو مَشَى على نجاسة، إن ظهر عينها تنجَّس وإلَّا لا] اهـ.
قال العلامة ابن عابدين مُحشِّيًا عليه: [قوله: (نام) أي: فَعَرِقَ، وقوله: (أو مَشَى) أي: وقدمه مُبْتَلَّةٌ. قوله: (على نجاسة) أي: يَابِسَةٍ؛ لما في "متن الملتقى"، لو وضع ثوبًا رطبًا على ما طِينَ بِطِينٍ نجس جاف لا ينجس، قال الشارح: لأنَّ بالجفاف تنجذب رطوبة الثوب من غير عكس، بخلاف ما إذا كان الطين رطبًا. اهـ. قوله: (إن ظهر عينها) المراد بالعين ما يشمل الأثر؛ لأنَّه دليل على وجودها، لو عبَّر به كما في "نور الإيضاح" لكان أولى] اهـ.
وإذا شُقَّ على السائل إزالة أثر النجاسة فيجوز له العمل حيئنذٍ بمذهب المالكية؛ حيث إنَّ إزالة النجاسات عن ثوب المصلِّي، أو بدنه، أو مكانه سُنَّة عندهم على أحد القولين في المذهب.
قال الإمام الدردير المالكي في "الشرح الصغير" (1/ 66، ط. دار المعارف): [إزالة النجاسة واجبة إن ذَكَرَ وَقَدَرَ هو أحد المشهورَيْن في المذهب. وعليه: فإن صلَّى بها عامدًا قادرًا على إزالتها أعاد صلاته أبدًا وجوبًا؛ لبطلانها. والمشهور الثاني أنَّ إزالتها سنة إن ذكر وقدر أيضًا، فإن لم يذكرها أو لم يقدر على إزالتها أعاد بوقت كالقول الأول. وأمَّا العامد القادر فيعيد أبدًا، لكن ندبًا. فعلم أنهما يتَّفقان على الإعادة في الوقت ندبًا في الناسي وغير العالم، وفي العاجز، ويتفقان على الإعادة أبدًا في العامد الذاكر لكن وجوبًا على القول الأول، وندبًا على الثاني] اهـ.