سودانايل:
2025-07-05@12:33:34 GMT

التغيرات المتصاعدة للوعي السياسي

تاريخ النشر: 8th, January 2024 GMT

أن الحرب التي أندلعت في 15إبريل 2023م كانت نتيجة لجمود العقل السياسي، و الذي عجز أن يتجاوز أسباب الفشل في العهود السابقة، و أيضا فشل أن يحدث تغييرات جوهرية في الثقافة السياسية للإرث السياسي ما قبل ثورة ديسمبر 2018 م حيث تبنت النخب السياسية ذات الإرث الثقافي السابق مع شعارات متناقضة له من حيث الفكرة و الأدوات، لذلك لم تستطيع أن تنزل الشعارت للواقع.

كان حريا أعليها ن تفكك التناقض الحاصل بين الممارسة و الشعار. مثالا أن النخب السياسية أخفقت أن تكون المجلس التشريعي و هو يمثل أحد أعمدة البناء الديمقراطي الذي يقوم بدور محاسبة السلطة التنفيذية ممثلة في " مجلس السيادة و مجلس الوزراء" و أيضا يقوم بدوره التشريعي لمطلوبات تفكيك بنية نظام الحزب الواحد، و إلغاء القوانين المقيدة للحريات، و كونت بدلا عنه مجلس يضم المجلسين و نفر من القيادات السياسية، حيث أصبحت السلطة التنفيذية دون محاسبة، فهل نخبة سياسية ترفع شعار الديمقراطية تهمل تكوين المجلس التشريعي؟ النخبة السياسية هي التي ضربت بنفسها شعار الديمقراطية الذي كانت ترفعه.
بعد الحرب تصاعدت الأحداث، و أصبحت القوى العسكرية " الجيش – الميليشيا" هما اللذان يصنعا الحدث، و أصبح دور القوى السياسية هو التعليق على الحدث، كان أمام القوى السياسية تحدي.. كيف تستطيع أن تعيد إصلاح المعادلة السياسية، أن تصبح هي المناط بها صناعة الحدث بهدف تغيير طريقة التفكير في المجتمع، ثم بعد ذلك الضغط من أجل وقف الحرب. لكن إنحراف الميليشيا في الحرب من مواجهة الجيش إلي حرب على المواطنين في مساكنهم و طردهم منها و نهب ممتلكاتهم و هتك الأعراض، و ممارسة التهجير و الإبادة الجماعية في دارفور. أخرجت الجماهير من موقف الحياد في الحرب لدعم الجيش. أن التطورات التي حدثت في الحرب، و إستيلاء الميليشيا على ولاية الجزيرة و الخوف من الزحف للولايات الأخرى، هو الذي خلق واقعا جديدا، حيث رفعت الجماهير شعار المقاومة الشعبية، أي أن تحمل السلاح بنفسها تحمي ممتلكاتها و أعراضها. أن فكرة النفرة الجماهيرية المسلحة كان لابد أن تجعل العقل السياسي أن يستيقظ من ثباته.
أن جولات حميدتي التي قام بها في عدد من الدول الأفريقية، و التي تقف وراءها دولة الأمارات التي جعلت له طائرة خاصة تحت تصرفهن يؤكد أن فكرة النفرة الشعبية قد أرسلت إشارتها الحمراء إلي الميليشيا، و القوى الخارجية التي تدعمها. و قد أخفق الدكتور عبد الله حمدوك رئيس " تقدم" عندما وقع إعلانا سياسيا مع رئيس الميليشيا الذي أظهر تقدم بأنها أصبحت بمثابة الحاضنة السياسية للميليشيا، و بالتالي لا تستطيع أن تنجز ما دعت إليه لأنها أصبحت غير محايدة في الوساطة. هذا يؤكد أن العقلية التي تدير بها " قحت المركزي" و التي تحولت إلي "تقدم" لكي تداري أخفاقاتها السابقة وقعت في ذات الفخ لأن العقلية لم يحدث فيها تطور يتماشى مع المتغيرات الحادثة في الواقع، هي تريد أن تعيد ذات الحلف الذي كان قبل 15 إبريل 2023م، و هو حلف يحمل في أحشائه الكثير من المتناقضات التي قادت للحرب.
في جانب أخر للمشهد كتب المفكر اليساري صديق الزيلعي مقالا في صحيفة " سودانيل" بعنوان "ما نوع التغيير الجذري الذي أومن به" يقول في إحدى فقراته أن صديقا له زمن الدراسة في جامعة الخرطوم علق على نقده للجذرية، و سأله هل أنت جننت رد صديق الزيلعي بالقول (نعم جنيت، وجن كلكي كمان ولابس عقلانية. والعقلانية مبنية على سلطة العقل. العقل يتبني مقولة جوته الشهيرة: " النظرية رمادية وشجرة الحياة في اخضرار دائم". وهذا هو جوهر الديالكتيك، حيث لا شيء ثابت، والكل في حالة حركة مستمرة. فالعالم يتغير باستمرار، وكذلك الدول، والأحزاب، ووسائل التواصل، ومناهج المعرفة. الحياة تقدم لنا تحديات يومية ومستمرة. والعقل يجتهد ويبحث لتقديم أجوبة لها. وكلما تخطينا عقبات ظهرت أخرى جديدة. هذا المنهج لا يقبل السكون، ولا يقبل القوالب النظرية الجاهزة. ويتبنى التجديد والتجدد باستمرار، لا نهائي.) هذا تحول جديد في عقل الزملاء، أن يخرجوا من حالة التقديس للنصوص التي هي ولادة الظواهر في المجتمعات. كما تذكر الزيلعي قول جوته (أن شجرة الحياة في إخضرار دائم) و بالتالي تتطلب تغيرا متواصلا يواكب متغرات الحياة. أن القيادات الاستالينية بالفعل قد جمدت العقول تماما و يجب عليها أن تخرج من الشرنقة التي وضعت فيها.إذا استطاع الزيلعي أن ينقل جنه الكلكي للأخرين في الحزب سينتصر للسودان.
أن بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي للرد على " الإعلان السياسي" الذي وقعته " تقدم" مع المليليشا و تريد أن تعيد بها تحالفات قادت للحرب، يؤكد أن هناك حركة لخروج العقل من الثبات المضروب عليه. و نقد الإعلان من الزملاء يؤكد أن الفكرة عاجزة أن تجد قبولا في الشارع السياسي، إلا وسط فئة ضيقة جدا ربطت مصالحها مع الميليشيا. و على الزملاء يجب أن لا يجمدوا عقولهم في بناء تحالف لم تشاركهم فيه أي قوى سياسية غير واجهاتهم التي صنعوها، يهدفون بها أختراق أجساما بعينها في المجتمع، أو محاولة تمرير أجندة يعتقدون أن الناس لا يقبلونها إذا خرجت بأسم الحزب الشيوعي. و التاريخ النضالي الطويل للحزب الشيوعي يؤهلهم أن يطرحوا مشروعا سياسيا للحوار الوطني الجامع يخرج البلاد من الحرب و أزمتها السياسية، و أيضا يتأكدوا أن أي مشروع قابل للتعديل و التبديل وفقا للمطروح في الحوار، أن التعصب في الرأي لا يخلق إلا أزمة جديدة. هناك مشتركات يتفق عليها أغلبية السودانيين تتمثل في الأتي " تفكيك دولة الحزب إلي التعددية السياسية – العدالة الناجزة – محاربة الفساد و محاكمة المفسدين – انعقاد المؤتمر الدستوري – خلو البلاد من أي مليشيا و حركات مسلحة حيث يصبح الجيش وحده المؤسسة التي تمتلك السلاح - تكوين المؤسسة العدلية - إصلاح الخدمة المدنية وفقا للقانون و ليس الهوى السياسي- القيام بإحصاء عام في البلاد – تكوين المفوضية العامة للانتخابات و مفوضية السلام" و بعد الانتخابات على القوى السياسية المنتخب أن تشرع في "إصلاح المؤسسة العسكرية و المؤسسات شبه العسكرية" هذه القضايا متفق عليه و لا تجد أي اعتراض شرط أن لا تحاول أي قوى سياسية أن تجيرها بشروط تعجيزية. مثل هذه المبادرات التي تحول التفكير من أدوات النزاع و العنف إلي العقل هي التي تخلق الواقع الجديد للبلاد. فهل الزملاء قادرين على الخروج من حالة التعصب و مغادرة محطة 1965 . بهدف وقف الحرب و فرد اشرعة السلام.. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com
/////////////////////  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: یؤکد أن

إقرأ أيضاً:

المقاصد بين النبوة والخلافة.. قراءة في العقل الاستراتيجي المؤسس.. كتاب جديد

الكتاب : الاستراتيجية المقاصدية الشاملة في العهدين النبوي والراشدي"
الكاتب : الدكتور مصطفى العرفاوي
الناشر : دار المنارة للنشر والتوزيع والطباعة.سنة النشر2024
عدد الصفحات :455 صفحة


ليست المقاصد ترفًا فقهيًا ولا اجتهادًا فكريًا مستحدثًا، بل هي في الأصل تجلٍّ لعقل الوحي حين يتحوّل إلى نظام حياة، وتعبير عن روح الشريعة حين تتنزّل في سياق العمران البشري وتدبير الاجتماع. من هذا المنطلق، يقدّم الدكتور مصطفى العرفاوي في كتابه "الاستراتيجية المقاصدية الشاملة في العهدين النبوي والراشدي" رؤية تجديدية تحفر في أعماق التجربة الإسلامية التأسيسية لاستخراج عقلها التدبيري، لا من باب الاستذكار التاريخي، بل من زاوية استئناف الوظيفة الحضارية للمقاصد.

أولًا ـ من المقاصد إلى الاستراتيجية

لا يكتفي العرفاوي بإعادة ترتيب المفاهيم المقاصدية، بل يدعو إلى نقلة نوعية في التفكير الإسلامي، تتحول فيها المقاصد من كونها غايات مرصوفة في كتب الأصول إلى عقل استراتيجي يؤسس لفعل حضاري شامل. ويعني بالعقل الاستراتيجي هنا القدرة على ربط الوسائل بالمآلات، وعلى تحويل القيم الكبرى إلى سياسات عملية، وعلى فهم السنن التاريخية والاجتماعية ضمن منظومة توجيهية تلتزم بالوحي وتُراعي الواقع.

الملاحظ أن النبي ﷺ لم يكن يتحرك بردود الأفعال، بل بخطة هادئة تُقدّر المآلات وتُوازن بين المبادئ والضرورات. وهذا ما يؤكد أن "حفظ الدين" لم يكن شعارًا تعبويًا، بل هدفًا حضاريًا يُبنى بتدرج، عبر بناء الإنسان، وتأمين الجماعة، وتنظيم السلطة، وتوسيع دائرة الرسالة.يرى المؤلف أن هذه النقلة ليست بدعة معاصرة، بل هي جوهر التجربة النبوية والراشدية نفسها، التي لم تكتفِ ببيان الأحكام، بل أنشأت كيانًا سياسيًا، وأدارت علاقات دولية، وخاضت حروبًا وسلمًا، وأسست مجتمعًا جديدًا على قواعد التوحيد والعدل والعمران.

إن أبرز ما يطرحه العرفاوي هنا ليس فقط تجاوز المقاصد من حيز التنظير إلى حيز التدبير، بل كذلك إعادة الاعتبار لمنهج المقاصد كفكر كلي شامل، لا كآلية جزئية في استخراج الأحكام أو ترتيب الأولويات. إنه يستبطن رؤية تعتبر المقاصد بوصلة فكرية واستراتيجية يمكن أن تهدي الحركات الإصلاحية، والمشاريع السياسية، ومؤسسات الدولة، في حاضر الأمة ومستقبلها.

ثانيًا ـ المقاصد كعقل تدبير في العهد النبوي

في تحليله للتجربة النبوية، يتجاوز العرفاوي القراءة السردية التقليدية، ليُبرز كيف تشكّلت ملامح الاستراتيجية المقاصدية من خلال خطوات واعية، نابعة من رؤية بعيدة المدى، تُراكم الإنجازات وتُمهّد للتحوّل الحضاري. فقد كانت الهجرة مثلًا ليست فرارًا من الاضطهاد، بل نقلة استراتيجية لتأسيس مجتمع جديد. وكانت المعاهدات، مثل وثيقة المدينة وصلح الحديبية، أدوات لترسيخ قواعد التعايش والتمكين.

والملاحظ أن النبي ﷺ لم يكن يتحرك بردود الأفعال، بل بخطة هادئة تُقدّر المآلات وتُوازن بين المبادئ والضرورات. وهذا ما يؤكد أن "حفظ الدين" لم يكن شعارًا تعبويًا، بل هدفًا حضاريًا يُبنى بتدرج، عبر بناء الإنسان، وتأمين الجماعة، وتنظيم السلطة، وتوسيع دائرة الرسالة.

يُبرز العرفاوي أن التدبير النبوي اتسم بالمرونة دون أن يتنازل عن المبادئ، وبالصرامة دون أن يتحول إلى قهر، وبالانفتاح على الغير دون الذوبان فيه. وهذه المعادلة الدقيقة، التي جمعت بين الرسالية والبراجماتية، كانت تتنزل وفق عقل مقاصدي يزن الواقع بميزان المآل، لا الانفعال.

ولعل أحد أبرز وجوه هذا العقل المقاصدي هو ما يسميه العرفاوي بـ"حماية مسار الرسالة"، لا فقط من حيث العقيدة، بل من حيث القدرة على الانتشار والتجذر والتفاعل. فالنبي ﷺ أسس دولة لا لتكريس السلطة بل لحماية الإنسان، وأقام مجتمعًا لا على العصبية، بل على القيم.

ثالثًا ـ الدولة الراشدية واستئناف العقل المقاصدي

يرى العرفاوي أن الخلافة الراشدة كانت استئنافًا طبيعيًا للمشروع النبوي، وليست انحرافًا عنه كما يدعي بعض الخطاب الحداثي أو الطائفي. فقد حافظت هذه المرحلة على جوهر الشورى، ومركزية المقصد، ووحدة الجماعة، رغم التحولات الكبرى والتحديات السياسية. ومع ذلك، لا يمكن إغفال ما اعترى هذه المرحلة من خلافات عميقة، بلغت ذروتها مع الفتنة الكبرى واغتيال الخليفة عثمان، ما يُظهر أن العقل المقاصدي، رغم صلابته المبدئية، اصطدم بمعوّقات الواقع السياسي والاجتماعي، وهو ما يدعو إلى قراءة أكثر تركيبًا للمرحلة، تتجاوز الثنائيات المطلقة بين التمجيد والتقويض.، وليست انحرافًا عنه كما يدعي بعض الخطاب الحداثي أو الطائفي. فقد حافظت هذه المرحلة على جوهر الشورى، ومركزية المقصد، ووحدة الجماعة، رغم التحولات الكبرى والتحديات السياسية.

ويُبرز الكتاب كيف تعامل الخلفاء الراشدون مع المستجدات بمرونة، دون تفريط في الأصول. فقد قبل عمر بن الخطاب بتعليق حد السرقة في عام المجاعة، ووسع دار الإسلام بنظام الدواوين، وشرّع مؤسسة بيت المال، وكلها خطوات نابعة من منطق المقاصد لا من تعطيل الأحكام.

ومن أبرز مظاهر الفعل المقاصدي في العهد الراشدي تجلي روح العدل في السياسات العامة، لا كشعار بل كممارسة. إذ لم يكن العدل مجرد قيمة خطابية، بل كان محددًا للتشريع، وللقرار، وللسلوك السياسي. فسياسات عمر مثلاً في توزيع الثروة، وتنظيم السلطة، وحماية الحقوق، كلها كانت تعبيرًا عن عقل استراتيجي يستبطن مقصد العدل بوصفه حجر الزاوية في بناء الدولة.

كما تميزت هذه المرحلة بإحياء فقه الأولويات ضمن منطق مقاصدي واقعي، حيث تم تقديم المصلحة العامة على الجزئيات، وتأجيل بعض الأحكام لحماية وحدة الجماعة. وهذا المنهج هو ما تفتقر إليه كثير من الأنظمة المعاصرة التي تدّعي المرجعية الإسلامية دون تفعيل حقيقي لمنطق المقاصد.

رابعًا ـ المقاصد بين النص والتاريخ

من الملامح المميزة لهذا الكتاب أنه لا يحصر المقاصد في النصوص، بل يدعو إلى قراءتها في سياقها الزمني. فالتجربة النبوية والراشدية تُفهم ـ بحسب العرفاوي ـ كمصدر ثانوي للمقاصد، لا يقل شأنًا عن النصوص. وهذا ما يعيد الاعتبار إلى الفعل السياسي للنبي ﷺ والخلفاء، ويخرجه من التقديس الجامد إلى الاقتداء الواعي.

في السياق العربي الراهن، حيث تتراجع الإرادة الشعبية، وتُشرعن السلطات الفردية باسم الخصوصيات، وتُفكّك الروابط الجامعة باسم الهويات الفئوية، تبدو دعوة العرفاوي لإحياء العقل المقاصدي الاستراتيجي دعوة ملحّة. فليس المطلوب فقط العودة إلى القيم، بل تحويلها إلى بوصلة للفعل الحضاري، تستلهم روح النبوة ولا تتجمد في حدود الفقه.فحين ندرس مقاصد الشورى، أو العدل، أو الوحدة، لا نعود فقط إلى الآيات، بل أيضًا إلى ممارسات الدولة الأولى، وكيف تمّت ترجمة تلك القيم إلى مؤسسات وإجراءات. وهذا ما يجعل المقاصد علمًا حيويًا متجددًا، لا منظومة مغلقة متحفية.

ويُعد هذا التوجه تأويلاً منهجيًا يعيد الاعتبار للتاريخ العملي للإسلام، بوصفه مخزونًا معرفيًا لا يقل أهمية عن النصوص المؤسِسة، كما يفتح الباب لتطوير فقه سياسي مقاصدي مستقبلي، لا يعتمد فقط على القياس والفقه الفردي، بل على إعادة بناء النظر في مقاصد الاجتماع الإنساني ذاته.

خامسًا ـ راهنية المشروع ومآلات التغريب

لا يخفي العرفاوي نقده للواقع الراهن، حيث تم اختزال المقاصد في محاضرات وعناوين أخلاقية، بينما تمّ تهميشها في دوائر القرار والتخطيط. ويُشير إلى أن غياب العقل المقاصدي هو أحد أسباب تراجع الأمة، وعجزها عن صياغة مشروع ذاتي في مواجهة الضغوط الداخلية والتدخلات الخارجية.

وفي السياق العربي الراهن، حيث تتراجع الإرادة الشعبية، وتُشرعن السلطات الفردية باسم الخصوصيات، وتُفكّك الروابط الجامعة باسم الهويات الفئوية، تبدو دعوة العرفاوي لإحياء العقل المقاصدي الاستراتيجي دعوة ملحّة. فليس المطلوب فقط العودة إلى القيم، بل تحويلها إلى بوصلة للفعل الحضاري، تستلهم روح النبوة ولا تتجمد في حدود الفقه.

كما ينتقد العرفاوي الأنساق الغربية التي تسربت إلى الوعي الإسلامي باسم الحداثة، والتي قامت على الفصل الجذري بين الدين والسياسة، مما جعل المشاريع الإسلامية تعيش انفصامًا بين المرجعية والسلوك. غير أن النقد هنا، وإن كان مشروعًا، يستدعي تمييزًا ضروريًا بين أدوات الحداثة ومضامينها؛ إذ يمكن لبعض آليات الحداثة، كالمنهج النقدي أو الحوكمة الرشيدة أو التنظيم المؤسسي، أن تكون عونًا لا خصمًا، إذا أُعيد إدماجها ضمن منظور مقاصدي واعٍ وغير تابع. باسم الحداثة، والتي قامت على الفصل الجذري بين الدين والسياسة، مما جعل المشاريع الإسلامية تعيش انفصامًا بين المرجعية والسلوك. ويؤكد أن المقاصد هي الجسر الممكن بين الأصالة والتجديد، بين النص والواقع، بين القيم والسياسات.

سادسًا ـ تجديد الفقه السياسي وإمكانات الاستئناف

يشدد الكتاب على ضرورة إعادة بناء الفقه السياسي الإسلامي على أساس مقاصدي، يُراعي متغيرات العصر ويستعيد المبادرة من داخل المرجعية الإسلامية. غير أن السؤال المقلق يظل قائمًا: هل تسمح الأنظمة السياسية القائمة، غالبًا ذات الطابع السلطوي أو الريعي، بمثل هذا البناء المقاصدي؟ وهل يتوفر المناخ السياسي والمعرفي لإعادة تفعيل الفكر المقاصدي على أرض الواقع؟، يأخذ بعين الاعتبار تعقد الواقع وتغير موازين القوى. فلم تعد الأحكام السلطانية التقليدية صالحة لتأطير الدولة الحديثة، بل نحن بحاجة إلى فقه سياسي يعيد وصل ما انقطع بين الدين والواقع، ويستوعب أدوات العصر، ويوازن بين الثوابت والمستجدات.

العقل الإسلامي، حين يُحرر من التجزيء والارتجال، وحين يستعيد المقاصد كمنهج تدبير شامل، يصبح قادرًا على إنتاج مشروع نهضوي، يقاوم التبعية، ويعيد الاعتبار للإنسان، ويعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع ضمن رؤية حضارية متجذّرة في الوحي، ومنفتحة على العصر.وفي هذا السياق، تبرز أهمية التأصيل المقاصدي لقضايا مثل: الشورى التشاركية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، والعلاقات الدولية، ودور المجتمع المدني. فهذه كلها ليست مستوردة من الغرب، بل يمكن تأصيلها من داخل المنظومة المقاصدية ذاتها، بما يجعلها جزءًا من مشروع حضاري مستقل، لا تابع.

كما يفتح هذا المنظور المجال أمام الحركات الإسلامية لتجاوز الحرج المزدوج بين التديّن الماضوي والانخراط التبعي، ويمنحها إطارًا مرنًا لتطوير برامجها السياسية بما يخدم الصالح العام ويعبّر عن المرجعية دون جمود.

خاتمة ـ من الذاكرة إلى المستقبل

إن أهم ما يميز كتاب "الاستراتيجية المقاصدية الشاملة" أنه لا يقف عند حدود الدفاع عن الماضي، بل يسعى إلى تحويله إلى مادة نظرية لإعادة بناء المستقبل. فالعقل الإسلامي، حين يُحرر من التجزيء والارتجال، وحين يستعيد المقاصد كمنهج تدبير شامل، يصبح قادرًا على إنتاج مشروع نهضوي، يقاوم التبعية، ويعيد الاعتبار للإنسان، ويعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع ضمن رؤية حضارية متجذّرة في الوحي، ومنفتحة على العصر.

ولعل في هذا الكتاب ما يلهم جيلًا جديدًا من المفكرين والمصلحين، كي يواصلوا هذا الطريق، ويحوّلوا المقاصد من معرفة مؤجلة إلى طاقة فاعلة في الواقع السياسي والثقافي العربي والإسلامي. فالمقاصد، كما يراها العرفاوي، ليست أداة فقهية، بل مشروع حضاري متكامل، لا يتحقق إلا بوعي استراتيجي، وعقل نقدي، وقيادة مستنيرة. غير أن التحدي الأكبر يظل في ترجمة هذا المشروع من أطروحة معرفية إلى سياسات تنفيذية، خاصة في ظل المعوقات البنيوية التي تعاني منها دول العالم الإسلامي من حيث الحكم الرشيد، والمؤسسات، والتعليم، وغياب الإرادة السياسية للتحول الحضاري، لا يتحقق إلا بوعي استراتيجي، وعقل نقدي، وقيادة مستنيرة.

من هنا، فإن هذا الكتاب يُعد لبنة معرفية في مسار استعادة المقاصد إلى مركز الفعل الإسلامي، ومرآة لحوار ممكن بين الماضي والحاضر، بين النص والتاريخ، بين الطموح الواقعي والحلم الرسالي.

مقالات مشابهة

  • مصر والسعودية.. استدعاء الماضي وتغييب العقل
  • ترامب وزيلينسكي يبحثان الضربات الروسية المتصاعدة وتعزيز الدفاع الجوي
  • القوى السياسية تضع معايير اختيار مرشحي القائمة الوطنية في انتخابات الشيوخ (تفاصيل)
  • «عبدالقيوم»: لقاء السيسي والمشير حفتر مهم بسبب التغيرات بالمنطقة.. والتنسيق في القضايا المشتركة
  • المقاصد بين النبوة والخلافة.. قراءة في العقل الاستراتيجي المؤسس.. كتاب جديد
  • نصف مليون سوري يعودون لبلادهم ضمن موجة العودة الطوعية المتصاعدة
  • ننشر أسماء المشاركين في اجتماع القوى السياسية للإعلان عن القائمة الوطنية لانتخابات الشيوخ
  • أوروبا تحترق بموجة حر استثنائية ومغردون يحذرون من التغيرات المناخية
  • ما الذي نعرفه عن العلاقة بين التغيرات المناخية وموجات الحر؟
  • ٣٠/ يونيو، ليلة القبض علی جَمْرَة!!