أحمد إبراهيم أبوشوك
مقدمة
أكَّدت الحرب الدائرة الآن في الخرطوم وبعض الولايات أنَّ السُّودان يعاني من أزمة سياسية وفكرية وعسكرية مركبة. ويتمثل ضلعها السيادي في فشل الحكومات الوطنية المتعاقبة منذ الاستقلال في وضع أسس راسخة لحكم السُّودان، ووضع آليات مناسبة لإدارة تنوعه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي؛ ويتمثَّل ضلعها الثاني (السياسي-الفكري) في عجز المؤسسات الحزبية، التي أفسد أداؤها السياسي استدامة التحول الديمقراطي، وعطلت الانقلابات العسكرية الناتجة من سوء هذا الأداء حركة نموها الطبيعي، فحولتها إلى كيانات تفتقر إلى المؤسسية والدافع الديمقراطي الذاتي، والرؤية المستقبلية لإدارة الحكم في السُّودان.

فكان حصيلة ذلك تشظيها إلى كيانات متخاصمة حسب طموحات قياداتها الشخصية وولاءاتها الطائفية وتحالفاتها القبلية. وفي ظل التقلبات السياسية والنزعات الحزبية برز الضلع الثالث المتجسِّد في انحراف القوات المسلحة عن اختصاصاتها المهنية المنصوص عليها دستوريًا؛ لحماية حدود البلاد السياسية وأمنها القومي، بل على النقيض من ذلك، أضحت القوات المسلحة مستجيبة لإفرازات الصراعات الحزبية، التي القت بظلالها على تكوينها المهني ودورها الوظيفي. وبموجب ذلك ضمر دور الحكومة المركزية، وظهرت الحركات المسلحة ذات النشأة المطلبية، والمليشيات الرديفة للقوات المسلحة التي لوظفتها لحماية الأنظمة الحاكمة وتنفيذ اجندتها السياسية، وصاحب ذلك تنامي النعرات القبلية والجهوية. وتراكم هذه الأزمة المركبة أفضى إلى ضعف إرادة الحكومة المركزية، التي من المفترض تكون محتكرةً لسلطة العنف وتوظيفها حسب مقتضيات التشريعات القانونية، وتعددت مراكز صنع القرار السياسي خارج مؤسسات الدولة الحاكمة.
وباندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023 ظهرت هذه العيوب الهيكلية في بنية الدولة السُّودانية، وخلقت اصطفافًا غير حميدٍ في المجتمع السُّوداني، في ضوئه أضحى الذين ينادون بضرورة إيقاف الحرب، يُصفون بأنهم يساندون قوات الدعم السريع المتمردة على القوات المسلحة؛ والذين ينادون باستمرار الحرب للقضاء على قوات الدعم السريع يصنفون بأنهم يناصرون عناصر النظام القديم التي تسيطر على قرار القوات الشعب المسلحة. وقد أججت هذه الخصومة الثنائية المدمرة وسائط التواصل الاجتماعي، التي استغلتها الأطراف المتصارعة لتجييش الرأي العام، دون تثبت من صحة الأخبار أو كذبها؛ لأن سردياتها الخطابية لا تستند إلى وازع قيمي، يقدم الأعلى (مصلحة الوطن) على الأدنى (مصلحة الحزب أو القبيلة أو الجهة). لا جدال في أن هذا الاصطفاف المدمر، قد دفع بعض المهتمين إلى البحث عن مخارج آمنة من الأزمة الراهنة قبل أن يصبح السُّودان أثرًا بعد عين. وعمد معظم هؤلاء إلى تقديم مقترحات جوهرية، تعالج أس الأزمة الزمنة، ويمكن أن تسهم في وضع حلول تأسيسية.

ملامح رؤية لما بعد الحرب؟
قد استوقفني في هذا المضمار مقال للدكتور الواثق كمير بعنوان: "سودّان ما بعد الحربِ: ملامحٌ من رؤية !!" (10/12/2023). وقد أسس كمير ملامح رؤيته على ركيزتين. أولاهما، "تكوين جيش مِهني، يستبعِد وجود أي تنظيم سياسي داخله، ويخضع للإصلاح والتطوير، سويًا مع بقيةِ أجهزة القطاع الأمني، ويستوعب التنوع والتعدد اللذين تذخر بهما البلاد قاطبةً." وقد طرح الدكتور الطيب زين العابدين هذه القضية من زاوية أخرى في مقال باكرٍ بعنوان "إعادة بناء الجيش السُّوداني أهم قضايا المرحلة الانتقالية" (22/06/2019)"، واقترح أن تكون عملية إعادة البناء عبر "لجنة مهنية ذات كفاءة ورؤية من قدامى جنرالات الجيش السُّوداني المشهود لهم في تاريخ العسكرية، وبالطبع ستكون تلك الخطة طويلة المدى محل نقاش وتشاور في كافة أفرع المؤسسة العسكرية قبل أن تجاز من هيئة رئاسة الأركان المشتركة العليا، وتصبح قابلة لبدء تنفيذها أثناء المرحلة الانتقالية ثم تستكمل فيما بعد. فليس هناك من بلد حديث لا يُعنى بتطوير قواته المسلحة تجنيدًا وتأهيلًا وتدريبًا وآليات ومعدات ذات تقنية عالية، فقد اضطربت الأمور في منطقتنا الأفريقية والشرق أوسطية، وكثرت فيها المخاطر الداخلية والخارجية. وعليه يتوجب أن تكون مهمة بناء الجيش السُّوداني أحد القضايا الكبيرة التي تهتم بها المرحلة الانتقالية، خاصة عند تحقيق السلام مع الحركات المسلحة، ودمج هذه الحركات في جيش قومي مهني له نظام موحد."
ويؤكد طرح مصطلحي "إعادة الهيكلة" و"إعادة التكوين"، بالرغم من الفارق الزمن بين المقالين، أن قضية تأهيل جيش مهني واحدة تحظى بإجماع واسع في أوساط علماء الاجتماع والسياسة، بالرغم من الاختلاف المفاهيمي بين المصطلحين. وتقتضي معرفة الفرق بينهما النظر في مقال العميد الركن (م) حيدر المُشرَّف: "نحو بناء أجهزة أمن وطني بمفاهيم جديدة"، الذي شرحهما شرحًا مفاهيميًا مفيدًا. ووصف المُشرَّف في مقدمة شرحه أنَّ عملية إصلاح أجهزة الأمن الوطني (القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والشرطية) تمثل "حجر الزاوية في ... إعادة بناء الدولة السُّودانية المدنية". وبناءً على ذلك أبان أن إعادة الهيكلة (Structural Review) "تعني الإبقاء على ما هو موجود، وترميمه، وربما تغيير الواجهات أو إلغاء البعض منها"، فهي عملية تشبه، من وجهة نظره، وضع الخمرة المعتقة في قنينةٍ جديدةٍ. أما إعادة التكوين (Reconstitution) فتعني إعادة التأسيس وفق رؤية جديدة، وأعمدة جديدة (عقيدة)، ومفاهيم جديدة. واستشهد في ذلك بإعادة تأسيس (تكوين) الجيش الألماني بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)؛ حيث أصبحت عقيدته ذات طابع دفاعي، وبموجب ذلك قًلِصَت أعداد الجند، الذين خضعوا لتدريبات مكثفة في مجال الدفاع عن حدود ألمانيا الغربية وأمنها القومي، وبالكيفية نفسها خضع الجيش الياباني إلى إعادة تأسيس ذات عقيدة دفاعية. ويقترح المُشرَّف أن تعقب ذلك سياسة خصصة (Privtization)، تحول بعض مؤسسات القوات المسلحة القابلة لذلك إلى القطاع الخاص من أجل تخفيف النفقات، علمًا بأن الوظائف الإدارية (مثل: السائقين والطباخين وحراس بيوت الجنرالات والمرافق العامة) التي يمكن الاستغناء عنها تبلغ نحو 40% في القوات المسلحة. ويرى المُشرَّف أن عملية إعادة التأسيس (أو التكوين) يجب أن تشمل الأجهزة الشرطية والأمنية أيضًا.
أما الركيزة الثانية في ملامح رؤية كمير فترنو إلى الانعتاق من قيود الصراع السياسي في سبيل الجلوس على مقاعد "السلطة الانتقالية" الدستورية إلى فضاء التوافق السياسي لـ"تأسيس الدولة"؛ لأن تأسيس الدولة سابق لتبني الديمقراطية أداةً لتداول السلطة؛ فضلًا عن أن تجارب الانتقال الديمقراطية الثلاث (1964، 1985، 2019) السابقة في السُّودان، قد أثبتت فشلها، حسب وجهة نظر كمير، وإن الأخيرة منها قد شهدت انقلابًا عسكريًا في 25 أكتوبر 2021 واندلاع حرب مدمرة في 15 أبريل 2023 قبل اكتمال الفترة الانتقالية. ويضاف إلى ذلك تغير الظروف الموضوعية والذاتية التي أفرزتها حرب الخامس عشر من أبريل، التي جعلت عملية إعادة تأسيس الدولة السُّودانية ضرورة ملحة، يجب أن يشترك فيها جميع السُّودانيين، كما يرى كمير، "بما ذلك الجيش والقوات النظامية، دون إقصاء، إلا حزب المؤتمر الوطني (بشخصيته الاعتبارية)، ومن أجرم وأفسد". ولذلك يرى كمير أن الشرعية الثورية التي استندت إليها حكومة عبد الله حمدوك بغية الوصول إلى الشرعية الدستورية قد انكمشت قاعدتها الجماهيرية، وأضحى من العسير تحقيق الشرعية الدستورية المفضية إلى الانتخابات العامة دون تحقيق "الشرعية التوافقية". ولتحقيق الشرعية التوافقية يدعو كمير القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني إلى التسامي فوق خلافاتها وجراحاتها الحزبية لمصلحة الوطن، وإعادة تأسيس الدولة السُّودانية بمشاركة الجميع؛ ليشعروا بمسؤوليتهم تجاه الكسب المشترك الذي حققوه ويحافظوا عليه في إطار "رؤية الكل منتصر، أو الكل يكسب". وتبدأ الخطوة الأولى لعملية إعادة التأسيس بتشكيل حكومة مدنية "من أكفاءٍ وشخصياتٍ وطنيةٍ مُستقِلةٍ عن الحزبية السياسية"، يستند برنامجها التأسيسي إلى مُهمتين رئيسيتين: أولهما: "وضع خطط إعادة البناء والتعمير، ومتابعة القضايا الإنسانية، وعلى رأسها توفير الأمن وحماية المواطنين المدنيين، وعودة النازحين واللاجئين إلى مواقعهم الأصلية، وإعادة تفعيل الخدمات الحكومية من صحة وتعليم، وقضايا المعيشة اليومية، وكل ما من شأنه عودة الحياة الطبيعية". وثانيتهما: "اتخاذ كل التدابير اللازمة لتهيئة المناخ للعملية السياسية التأسيسية واتاحة الحريات العامة للعمل السياسي". وتكون الحكومة مسنودة بهيئة قومية، تشترك في اختيارها "كافة القوى السياسية والمجتمعية والأهلية والشبابية (وأن يكون تمثيل الشباب ُمضمنًا في هذه القوى) ولجان المقاومة، والتنظيمات النسائية، ومُمثلين للولايات، (باستثناء من أجرم أو أفسد)، وحركات الكفاح المسلح، ومن الشخصيات الوطنية وقيادات الرأي العام، والمغتربون، ورجال وسيدات الأعمال، والقوات النظامية." وتتبلور مهمة هذه الهيئة القومية في ترشيح رئيس الوزراء المدني، وتقييم وتقويم أداء الحكومة، وتشكيل المؤسسات والآليات اللازمة لتنفيذ هذه المهام... وعقد المؤتمر القومي الدستوري والاستفتاء على مسودة الدستور الصادرة منه، وقيام الانتخابات، وتسليم السلطة إلى حكومةٍ مدنيةٍ مُنتخبةٍ، تُدشن مرحلة التحول الديمقراطي الحقيقي." وقد قدم الدكتور الوليد آدم مادبو وآخرون طرحاً مشابهاً لرؤية كمير، ويحمل بعضاً من مقاطعها، فالقراءة الفاحصة في هذه الأطروحات ربما تفضي إلى طرح رؤية متجانسة، وقابلة لسماع الرأي والرأي الآخر، بهدف تثقيفها والترويج لها لإحداث إجماع حولها من بنات وأبناء.

ملامح رؤية كمير وأسئلتها الصعبة
لا جدال في أنَّ ملامح رؤية الواثق كمير جديرة بالنقاش الجاد والتدبر الموضوعي، والتحاور في الأسئلة التي طرحها في نهاية مقاله: كيف يحدث التوافق لاختيار أعضاء الحكومة المدنية؟ وكيف يحدث التوافق لاختيار أعضاء الهيئة القومية الجامعة والمؤتمر الدستوري؟ هنا مربط الفرس! وتجاوز مربط الفرس يقتضي الالتزام بمبدأين، أحدهما أخلاقي وثانيهما فكري- سياسي. ويتمثَّل الأخلاقي في تقديم مصلحة الوطن على المصالح الحزبية الضيقة، ويتجسد الفكري-السياسي في إجراء حوار موضوعي ومهني شامل لكل القضايا التأسيسية بحضور توافقي جامع لأصحاب المصلحة؛ لإعادة بناء الدولة، التي تسع الجميع، وتطبق مبادئ العدالة الانتقالية ومعايير التميز الإيجابي لتنمية الولايات التي تأثرت بالحرب والتي تعاني من مشكلات الفقر والمرض والجهل المزمنة. لكن كيف السبيل إلى ذلك هداكم الله.


ahmedabushouk62@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: القوات المسلحة تأسیس الدولة عملیة إعادة الدولة الس ملامح رؤیة الم شر

إقرأ أيضاً:

لماذا أطلقت واشنطن خلية لإعادة محتجزي تنظيم الدولة من سوريا؟

الحسكة- في الوقت الذي يسلّم فيه الجيش الأميركي معظم مهامه في بغداد إلى القوات العراقية، توقف سحب قواته من سوريا لعدة أشهر، تزامنا مع تحركات أميركية لتشكيل خلية جديدة تعنى بملف إعادة رعايا تنظيم الدولة الإسلامية، في خطوة رآها باحثون جزءا من إعادة تموضع أوسع في المنطقة برمتها.

ووجّه قائد القيادة المركزية الأميركية براد كوبر نداء للدول لتسريع إعادة رعاياها المحتجزين من المخيمات، معلنا تأسيس "خلية مشتركة" لتنسيق عمليات الإعادة بعد زيارته الميدانية لمخيم الهول شمال شرقي سوريا، وسط تحذيرات من استغلال التنظيم لأوضاع النساء والأطفال لإعادة بناء شبكاته.

ويرى باحثون أن الخطوة تحمل بُعدا سياسيا أيضا، إذ تسعى إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى إعادة ترتيب العلاقة بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، تمهيدا لتسوية أوسع في الملف السوري.

مخاوف

ويُقدّر عدد مقاتلي التنظيم في سن التجنيد بنحو 9 آلاف، إلى جانب أكثر من 21 ألف فرد من عائلاتهم، موزعين على 26 مركز احتجاز ومخيما، أبرزها الهول وروج، اللذان يُنظر إليهما كبؤرتين خصبتين لعودة فكر التنظيم.

وأكد كوبر، خلال مؤتمر الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أن "إعادة الفئات الهشة قبل أن تتعرض للتطرف هي ضربة حاسمة ضد قدرة تنظيم الدولة على إعادة تشكيل نفسه"، مشيدا بجهود بغداد التي أعادت أكثر من 80% من رعاياها.

ورغم أن العراق أعاد أكثر من 17 ألف مواطن من المخيمات، بينهم 9 آلاف منذ مطلع العام الجاري، فإن دولا أوروبية وعربية لا تزال ترفض استقبال رعاياها، رغم تحذيرات البنتاغون من تحوّل المخيمات إلى "حاضنات للجيل القادم من التنظيم".

وترى الكاتبة والباحثة في السياسات الأميركية تجاه الشرق الأوسط هديل عويس، من واشنطن، أن تردد الدول الغربية في استعادة رعاياها يعود إلى المخاوف الأمنية والسياسية الداخلية، مشيرة إلى أن الإدارة الأميركية تحاول ممارسة ضغط غير مباشر عبر الأمم المتحدة من دون أن تتحمل هي عبء الملف الإنساني.

إعلان

وعلى مدى أعوام، وجهت الإدارة الذاتية في سوريا دعوات متكررة إلى الدول لاستعادة مواطنيها المحتجزين في المخيمات، لكنها لم تتلق سوى استجابات محدودة، غالبا من دول آسيوية أو عربية.

وتضيف عويس في حديثها للجزيرة نت أن "الدول الأوروبية تحديدا ترفض استقبال هذه العائلات بسبب تعقيدات قانونية ودبلوماسية، فضلا عن كلفة إعادة الدمج والمتابعة القضائية، فكل حالة إعادة تتطلب إجراءات أمنية دقيقة، وهي عملية مكلفة سياسيا وماليا".

وتوضح الباحثة أن هذا الملف مثار جدل داخلي بين اليمين واليسار الأوروبي، لذلك تفضل الحكومات تأجيل اتخاذ القرار، ما يترك آلاف النساء والأطفال في وضع هش مستمر.

أكدنا اليوم خلال ترؤوسنا جلسة الإدماج في المؤتمر الدولي رفيع المستوى بشأن مخيم الهول السوري المنعقد على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أن العراق نجح في خوض تجربة إنسانية معقدة لإعادة تأهيل ودمج العائدين من مخيمات شمال شرق سوريا ولا سيما مخيم الهول، عبر مركز… pic.twitter.com/wx12eREowS

— ايفان جابرو Evan Gabro (@EvanGabro) September 26, 2025

أداة سياسية

وتدرك الولايات المتحدة أن أي انسحاب غير محسوب من شرق الفرات سيحوّل المخيمات إلى "قنبلة مؤجلة"، فمخيم الهول لم يعد مجرد مأوى للنازحين، بل منطقة خارجة عن السيطرة تشهد حوادث قتل وتهريب مستمرة.

وتسعى الخلية الجديدة إلى نقل المسؤولية تدريجيا نحو الإدارات المحلية وقوات الأمن الداخلي في شمال شرقي سوريا، في محاولة لتخفيف العبء الدولي من دون تفجير الوضع الإنساني، لكن خلف هذا التحرك، يختبئ صراع داخل أروقة القرار الأميركي حول مستقبل الوجود في سوريا.

فوزارة الدفاع ترى أن إبقاء شراكتها مع "قسد" ضروري لردع عودة التنظيم، بينما تميل الخارجية إلى اختبار مسارات تواصل غير مباشرة مع دمشق تفتح الباب لتسوية أوسع، أما البيت الأبيض فيوازن بين هذين الموقفين، متأثرا بضغوط داخلية تطالب بإنهاء "الحروب الأبدية" بدون أن يبدو الانسحاب هزيمة سياسية.

وفي المقابل، تنظر أنقرة بعين القلق إلى أي خطوة أميركية تعزز موقع "قسد" شرقي الفرات، معتبرة ذلك تهديدا مباشرا لأمنها القومي، كما تراقب دمشق بحذر إعادة التموضع الأميركي، إذ تخشى أن يؤدي إلى تكريس واقع إداري منفصل في الشمال الشرقي، رغم التواصل المحدود مؤخرا بين الطرفين عبر وسطاء روس.

ووفقا للباحثة عويس، يعكس التحرك الأميركي الأخير إعادة تقييم للعلاقة مع الحلفاء المحليين بعد تراجع الدعم الدولي لهم، معتبرة أن سوريا دخلت مرحلة ما بعد الحرب، إذ تحاول كل قوة تثبيت مكاسبها قبل انطلاق المفاوضات السياسية الجدية.

وترى أن الملف الإنساني أصبح أداة سياسية بيد الولايات المتحدة، وأن المؤسسة العسكرية تميل للاستمرار في دعم "قسد" بينما يدفع فريق ترامب وعلى رأسه توم باراك نحو بناء علاقة مباشرة مع دمشق لإعادة مركزية الدولة السورية، وأن واشنطن تنظر إلى ملف إعادة المقاتلين كقضية أمنية أكثر من كونها إنسانية، ووسيلة ضغط لتسوية الملف السوري من منظور جديد.

مسار مزدوج

وتوضح الباحثة عويس أن الانسحاب الجاري من العراق نتيجة اتفاق سابق يتيح بقاء القوات الأميركية في إقليم كردستان العراق حتى عام 2026 لدعم العمليات في سوريا، ما يفتح تساؤلات حول استمرار الوجود العسكري الأميركي بعد ذلك. وتشير إلى أن الإدارة الأميركية تبحث عن مخرج قانوني يسمح ببقاء قواتها في الإقليم، ما يبرر استمرار وجودها شرقي سوريا أيضا.

إعلان

بينما يرى وائل علوان الباحث في مركز جسور للدراسات الإستراتيجية أن التحركات الأميركية الحالية تسعى لتحقيق هدفين متوازيين هما حماية خطوط الإمداد بين العراق وسوريا، و"ضمان عدم توسع النفوذ الإيراني" بعد الانسحاب من بغداد.

ويضيف أن الولايات المتحدة تعتبر إنهاء المخيمات خطوة رئيسية لتفكيك البيئة الحاضنة للإرهاب، وإطلاق مرحلة استقرار تمتد من لبنان وسوريا إلى العراق.

ويؤكد أن التحرك الأميركي عبر الأمم المتحدة لا يهدف إلى تدويل الملف بقدر ما هو استثمار للمنصة الأممية لضمان النفوذ وبقاء واشنطن كضامن للاستقرار.

من جانبه، يقول الباحث في العلاقات الدولية محمد منير إن مهمة كوبر تبدو اليوم أشبه بمسار مزدوج، وتتمثل بإنهاء مهمة مكافحة الإرهاب من جهة، وضمان ألا يتحول الفراغ الأمني في سوريا والعراق إلى "ساحة نفوذ لإيران" أو روسيا من جهة أخرى.

وبرأيه، فإن "خلية الإعادة المشتركة" ليست مجرد أداة إنسانية، بل خطوة أولى لإعادة هندسة النفوذ الأميركي في شرق سوريا تمهيدا لتسوية سياسية محتملة، مع إعادة التموضع ببطء لضمان مصالحها بأدوات أقل كلفة.

وبينما تسعى واشنطن لإغلاق ملف مخيم الهول وإعادة آلاف الرعايا الأجانب، يبقى الغموض يلف مستقبل وجودها العسكري في شمال شرقي سوريا بعد عام 2026، وسط استمرار الحاجة لضمان استقرار المناطق المحررة من تنظيم الدولة، وتهيئة بيئة سياسية وأمنية تقلل خطر العودة المحتملة للتنظيم.

مقالات مشابهة

  • بعد تعيينه بالشيوخ.. السفير العرابي: العالم يلتف حول رؤية القيادة السياسية المصرية
  • محمد العرابي بعد تعيينه بالشيوخ: دعم رؤية الدولة لبناء الجمهورية الجديدة
  • الحزب ينتقد تقاعس الدولة في إعادة إعمار جنوب لبنان وسط قصف إسرائيلي متواصل
  • هزائم إسرائيل!!
  • بكاء سمسم شهاب على زوجته مع سعد الصغير لهذا السبب.. "الحياة بعدها متسواش"
  • باريس تعيش أزمة سياسية.. روسيا تعلق على إعادة تعيين ليكورنو رئيسا لوزراء فرنسا
  • بين كلفة الدين العالمي وتحديات الفائدة وملامح تباطؤ الاقتصاد الدولي 2025-2026: لبنان إلى أين؟
  • نقيب الأشراف: رؤية الرئيس السيسي المتوازنة نجحت في إدارة أزمة غزة باقتدار
  • أجهزة التنفس التي جعلت إسرائيل حيّة إلى اليوم
  • لماذا أطلقت واشنطن خلية لإعادة محتجزي تنظيم الدولة من سوريا؟