أول معلمة صماء بالتعليم في حوار لـ "اليوم": أسرتي دعَمت حلمي وأطمح في نشر ثقافة التمكين
تاريخ النشر: 12th, October 2025 GMT
أكدت المعلمة أنفال الحمود - أول معلمة صماء تُعيَّن رسميًا في وزارة التعليم - أن تجربتها التعليمية والمهنية تمثل نقلة نوعية في تمكين الصم داخل الميدان التربوي، مشيرة إلى أن رحلتها كانت مليئة بالتحديات التي تجاوزتها بالإصرار والإيمان بالقدرة على التعلم والإنجاز.
وأوضحت في حوارها مع "اليوم" أنها تسعى إلى أن تكون نموذجًا إيجابيًا للأجيال القادمة من الطلبة الصم، ورسالة حية بأن الإعاقة ليست عائقًا، بل طريق مختلف نحو التميز.
من هي أنفال الحمود؟
أنا أنفال الحمود، معلمة صمّاء من المنطقة الشرقية، متزوجة من رجل أصم، ولدينا ولدان سامعان هما سعد وزياد.
أنتمي لأسرة صمّاء فخورة؛ والداي أصمان، وأنا الثانية بين أربعة إخوة: أخي الأكبر أصم مثلي، بينما أخي الأصغر وأختي سامعان.المعلمة أنفال الحمودتسمية
حصلت على درجة البكالوريوس في التربية الخاصة - مسار الإعاقة السمعية - من جامعة الملك سعود بالرياض، من خلال برنامج التعليم العالي للصم وضعاف السمع، وتخرجت بمرتبة الشرف الأولى.
أعمل حاليًا في معهد الأمل للصم بالدمام، معلمة لمادتي الرياضيات واللغة العربية للصفوف العليا.
كيف بدأتِ رحلتك التعليمية والمهنية حتى أصبحتِ أول معلمة صماء في وزارة التعليم؟
بدأت رحلتي التعليمية منذ طفولتي بفضل إصرار والديّ وجدتي - رحمها الله - الذين آمنوا بقدرتي على التعلم والنجاح مثل أي طالبة سامعة.
كان والدي حريصًا على التحاقي بمراكز التدخل المبكر صباحًا، ويأخذني لجلسات النطق والتخاطب مساءً لأتعلم النطق وقراءة الشفاه.
كنت أتساءل كثيرًا: "لماذا يُتعبني والدي بكل هذه التدريبات المكثفة؟ لكنني حين كبرت أدركت أنه كان يرى المستقبل بوضوح، ويُدرك حجم التحديات التي يواجهها الصم، فلم يُرد لي أن أعاني منها كما عانى غيري.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } المعلمة أنفال الحمود
أما والدتي فكانت تُعلّمني الدين بأساليب بسيطة ومبدعة رغم ضعف محصولها اللغوي، فكانت تضع بطاقات أسبوعية عن الصلاة والأذكار وتكافئنا عند الحفظ، لتغرس فينا القيم والإيمان قبل الكلمات.
وكانت جدتي - رحمها الله - صاحبة الكلمة الحاسمة في حياتي، إذ رفضت فكرة إلحاقي بمعاهد خاصة، وأصرت على أن أتعلم في مدارس التعليم العام قائلة:
«خلها مع البنات السامعات، هي حفيدة فتحية، وقدها بتتعلم مثلهم بإذن الله.» .article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } أنفال كسرت الصمت لتعلّم بالإشارة.. وتزرع في الطالبات لغة الثقة والنجاح
قراءة الشفاة
كيف كانت تجربتكِ في التعليم العام رغم كونك الطالبة الوحيدة الصماء؟
درست في مدارس أهلية ثم حكومية، وكنت الطالبة الوحيدة الصماء الناطقة بين الطالبات السامعات.
اعتمدت على قراءة الشفاه في المدرسة، واستخدمت لغة الإشارة في المنزل.
بعد المرحلة الثانوية لم يتم قبولي في الجامعات، فعملت فترة قصيرة في إحدى الشركات، ثم التحقت بجامعة الملك فيصل عن بُعد، لكنني لم أستطع الاستمرار لصعوبة التواصل.
ثم سمعت عن برنامج التعليم العالي للصم وضعاف السمع في جامعة الملك سعود، وكان ذلك نقطة التحول الكبرى في حياتي.
وبفضل دعم أخي وتشجيع والدتي، انتقلت إلى الرياض رغم بُعد المسافة عن أسرتي في الشرقية، ووجدت في هذا البرنامج بيئة تحترم وتفهم احتياجات الصم.
وأوجه هنا جزيل الشكر والعرفان للبرنامج الذي فتح لنا الأبواب وحقق حلم التعليم الجامعي بعد سنوات من الإغلاق واليأس.
دعم الزوج
كيف أثّر دعم الأسرة في استمرارك حتى التخرج والعمل؟
في فترة تدريب ما قبل التخرج، تزوجت من رجل أصم مثلي، وكان داعمًا ومتفهمًا لطموحي، ورُزقت بابني الأول سعد أثناء التدريب.
أكملت دراستي وتخرجت بمرتبة الشرف الأولى، ثم تقدمت مع أخي للتوظيف في وزارة التعليم.
لم نكن نتوقع القبول، خاصة بعد أن سجّلنا إعاقتنا السمعية بوضوح، لكن المفاجأة الجميلة كانت تعييننا معًا عام 1440 هـ في المنطقة نفسها - نجران - ومن الفئة نفسها، كأول معلمين من ذوي الإعاقة السمعية يتم تعيينهما رسميًا في وزارة التعليم.
كانت لحظة لا تُنسى مليئة بالمشاعر، بدأنا رحلتنا المهنية سويًا نساند بعضنا ونتقاسم التجربة بكل تفاصيلها.
كيف كانت تجربتكما في نجران؟
كان أخي ولا يزال رفيق دربي منذ الصغر؛ جمعنا الطريق نفسه في التعليم والعمل، وكان وجوده في نجران مصدر دعمٍ وسندٍ لي في كل مرحلة.
قضيت أربع سنوات حافلة بالعطاء، ثم نُقلت إلى الرياض لفترة قصيرة، ومنها إلى المنطقة الشرقية حيث أعمل اليوم في معهد الأمل للصم بالدمام.
لم يكن أخي مجرد زميل مهنة، بل كان نصفي الآخر في الطريق، والشاهد على كل مرحلة من حياتي، ولا يمكن أن تُذكر قصتي دون أن يُذكر اسمه معها.
تحديات مهنية
ما أبرز التحديات التي واجهتكِ خلال مشوارك الدراسي والتأهيلي؟
أبرز التحديات كانت التواصل في البيئات السامعة، سواء في المدرسة أو الجامعة أو العمل، وغياب الوعي الكافي بلغة الإشارة في بعض المراحل.
لكنني تعلمت التعايش بين عالمين: عالم الصم في المنزل، وعالم السامعين في المدرسة، ونجحت في بناء جسر تواصل بينهما.
كما واجهت تحدي الاغتراب في بداية عملي، حيث كنت بعيدة عن زوجي وطفلي وأسرتي، لكن بدعمهم وتشجيعهم صمدت حتى تحقق الاستقرار.
كل تلك التجارب صنعت شخصيتي القوية، وجعلتني أؤمن أن الصعوبات ليست عائقًا بل سُلّمًا نحو التميز.
كيف تصفين تجربتك الأولى في تدريس الطالبات الصم؟
كانت تجربة إنسانية مؤثرة ومُلهمة بكل تفاصيلها. أتذكر أول يوم دخلت فيه فصلي في مدرسة نجران، وكانت الطالبات ينظرن إليّ بدهشة ممزوجة بالفرح، كُنّ يتهامسن: «المعلمة صماء مثلنا؟»
كانت ملامحهن تعكس فخرًا عميقًا ودهشة جميلة، شعرت حينها أن وجودي وحده رسالة بأن «الصم يستطيعون».
كنت بالنسبة لهن قدوة وأملًا، وشعرت أن مسؤولية عظيمة وُضعت على عاتقي؛ أن أكون النموذج الذي يُثبت لهن أن الطريق مفتوح لهن أيضًا.
ومنذ ذلك اليوم، أصبح الفصل أكثر تفاعلًا وحيوية، لأنهن رأين فيّ أنفسهن.
ما الأساليب التعليمية التي تعتمدينها في إيصال المعلومة للطالبات الصم؟
أخبار متعلقة حظر إقامتها بالقرب من المستشفيات أو المدارس.. اشتراطات جديدة تنظم أسواق النفع العام”الرقابة النووية“ تفعل نظام التفتيش المتقدم لضبط مخالفات الأنشطة الإشعاعيةأعتمد على لغة الإشارة السعودية كلغة أساسية للتعليم، وأدمجها مع الوسائل البصرية والتقنية الحديثة.
أستخدم الصور، ومقاطع الفيديو، والألعاب التعليمية، والعروض التفاعلية المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
كما أحرص على أن يكون التعلم تجربة واقعية وممتعة، لأن الأصم يتعلم بعينه وقلبه أكثر مما يتعلم بأذنه.
رسالة لذوي الأعاقات السمعية
برأيك، ماذا يمثل هذا التعيين لذوي الإعاقة السمعية؟
يمثل هذا التعيين نقطة تحول تاريخية في تمكين الصم داخل الميدان التربوي.
هو رسالة بأن الإعاقة لا تعني العجز، بل أن لكل شخص طريقًا مختلفًا للإنجاز.
تلقيت تفاعلًا واسعًا من المعلمات والطالبات وأولياء الأمور، وكانت مشاعر الفخر كبيرة جدًا، وشعرت أن الإنجاز ليس لي وحدي، بل لكل أصم وصماء في المملكة.
كيف تقيمين دور وزارة التعليم في دعم وتمكين الصم؟ وما تطلعاتك المستقبلية؟
وزارة التعليم اتخذت خطوة جريئة ومهمة بفتح باب التوظيف أمام الصم، وهي خطوة تاريخية ستفتح المجال للمزيد من الكفاءات.
وأتمنى مستقبلًا إنشاء برامج تدريب وتأهيل خاصة بالمعلمين الصم، وتوفير مترجم تربوي في كل بيئة تعليمية لتسهيل التواصل بين الكادر السامع والمعلم الأصم.
كما أتمنى التوسع في توظيف الصم في مجالات متعددة داخل المنظومة التعليمية، فهم الأقدر على فهم احتياجات طلابهم.
ما الرسالة التي تودين توجيهها للطلبة الصم في المدارس السعودية؟
رسالتي لهم من القلب: إعاقة السمع لا تعني الضعف، بل تعني أنك تسلك طريقًا مختلفًا لتُثبت قدرتك.
آمنوا بأنفسكم، وواصلوا السعي بثقة، فالصوت الحقيقي هو الإصرار لا السمع.
تعلموا، واجتهدوا، وكونوا فخرًا لأنفسكم ولعائلتكم ولوطنكم.
ما طموحاتك القادمة على المستويين المهني والشخصي؟
مهنيًا: أطمح إلى إنشاء مركز متخصص لتدريب اللغة العربية للصم، يُدار من قبل كادر من الصم والمترجمين المؤهلين، يهدف إلى رفع المحصول اللغوي للصم في مختلف المراحل الدراسية.
أرغب أن أُسهم من خلاله في بناء جيل يمتلك لغة عربية قوية، لا يواجه ضعف الفهم والكتابة كما واجهناه نحن.
شخصيًا: أطمح أن أستمر كقدوة إيجابية، وأن أشارك في نشر لغة الإشارة وتعزيز ثقافة التمكين، لأن القوة الحقيقية تبدأ من الإيمان بالذات والرسالة التي نحملها.
رسالة وفاء أخيرة لأسرتك، ماذا تقولين لهم؟
رحم الله جدتي التي آمنت بي حين شكّ كثيرون، وقالت بثقة: «أنفال بتنجح مثل البنات السامعات وأكثر.»
وشكرًا لوالديّ اللذين لم يتعبا من تدريبي وتشجيعي منذ الصغر، فقد كانا يريان المستقبل بوضوح ويرغبان أن أعيش حياة أسهل.
وشكرًا لزوجي العزيز الذي ساندني منذ بداية الطريق، ووقف بجانبي في كل انتقال واغتراب، وتحمل عناء السفر وتربية الأبناء وقت انشغالي بالدراسة والعمل. هو شريكي الحقيقي في كل نجاح وصلت إليه بعد الله.
المصدر: صحيفة اليوم
كلمات دلالية: عبدالعزيز العمري جدة التعليم الصم والبكم فی وزارة التعلیم لغة الإشارة article img ratio
إقرأ أيضاً:
من الخلاص إلى التمكين
ثمَّة إدراك مُفتاحي يجب أن يُعين آفاق الحركة الإنسانية، جوانية وبرانية؛ وهو إدراك مُستقى من آية سورة الذاريات (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). هذا الإدراك يجعل كل تصور إنساني لأي أفق توقيفي للحركة الآدمية، أو تصور نهائي لمآل دنيوي مُعين لها؛ ليس سوى وهمٍ من الأوهام البشريَّة. وإذا كان القرآن الكريم قد عيَّن -تحديدا- وظيفة المكلَّفين ومهمَّتهم المركزيَّة (وهي الخلاص بالعبادة بمعناها الواسع)؛ فإن المآل الوحيد المبتغى يصيرُ هو مرضاة المعبود مُجرَّدة، سواء أفضى ذلك إلى شيءٍ من "التمكين" الدنيوي المادي -كما يتصوره المتأخرون- أم لم يُفضِ؛ فإنه سُبحانه: "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ".
والجلي أن مدلول "التمكين" نفسه قد التبس على أجيال المُحدَثين بفعل تصورات بعض ذراري المسلمين المشوَّهة وعلو صوتهم. ثم أزاح هذا الالتباس المشوه مركزيَّة الخلاص الإنساني بالدين/ العبادة من وعي المسلم وروعه، بوصفه غاية الوجود والحركة؛ وزيَّن له نهاية أخرى وأفقا ماديّا آنيّا سماه زورا بـ"التمكين".
والتمكين من الشيء لغة هو الإعانة عليه، والتمكين فيه جعل السلطة والقدرة على الشيء للمُمَكَّن. ويُقال مَكُنَ الرجل أي صار ذا منزلة وشأن ومكانة، ومَكُنَ البناء أي صار قويّا مكينا. وهو وصفٌ صار يُفيد الاستقرار والتوقُّف والسكون عند المحدَثين، أي أن هذا التمكين أمسى عندهم غاية ونهاية بذاته. بيد أن عين الأمثلة القرآنية التي يستند إليها الحداثيون أصحاب الرؤية "التمكينية" الدنيوية؛ لا تُفيد إلا الحركة والفعل، والذي يعقُب منَّة "التمكين" التوفيقي ويتلوه مباشرة. وسوف نحاول تبيُّن "نتائج" التمكين القرآني المفترضة، قبل أن نستكنه مدلول التمكين نفسه في تلك الآيات، بل لعل نتيجة التمكين في الكتاب العزيز تكون مما يُعين المدلول الرباني ويُحدده.
يقول جلَّ شأنه (سورة الحج؛ 41): "الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَر وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ". ويقول (سورة النور؛ اﻵية 55): "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ". ويقول سبحانه (سورة الكهف؛ اﻵية 84): "إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا".
ففي الأولى كانت حركة المؤمنين التالية على التمكين إقامة لشعائر الإسلام الأساسية؛ من صلاة وزكاة وأمر بمعروف ونهي عن المنكر: أي تمكين لأمر الله من نفوسهم ومجتمعهم. وفي الثانية كان إفراد المولى سبحانه بالعبادة رديفا لتمكين دين المؤمنين الذي ارتضاه جل شأنه، مع التوكيد على أن الاستخلاف/ التكليف شطر التمكين. وفي الثالثة، يُقرر القرآن الكريم حركة ذي القرنين في الآية التالية مباشرة: "فَأَتْبَعَ سَبَبا"؛ أي اتبع سببا من الأسباب التي أوتيها من لدن من مكَّن له في الأرض سبحانه، فصار الأخذ بها نتيجة لهذا التمكين منها.
وللوهلة الأولى، ثمة ثلاث ملاحظات تتجلَّى بداهة من هذه الآيات المباركات: الأولى أنه لا يوجد ما يُسمَّى بـ"التمكين" المادي مُجرَّدا؛ فإن "التمكين" لفظة استعمَلَها القرآن للدلالة على تمكين الله لدينه في نفوس المؤمنين وفي الواقع، وهو تمكينٌ يقتضي تيسير الأدوات الماديَّة التي تُعينهم على مهمتهم وحركتهم في الوجود. أما تمييز بعضهم بين تمكين "مادي" وآخر "معنوي" فهو تلاعُبٌ مُلبِس مُضِل. فقد سمى المولى "بسط" الرزق المادي وتيسيره للكفار بأسماء أخرى غير التمكين؛ فهو: ابتلاء، إمداد، عطاء.. إلخ. والثانية أن هذا "التمكين" للدين وللمؤمنين قد يكون جزءا من رحلة "خلاصهم"، وقد لا يكون؛ فإنه مآل توفيقي لا توقيفي، منوطٌ بأمر الله تعالى واطلاعه سبحانه على حال العُصبة المؤمنة، ومعرفته جلَّ شأنه بما يُصلحها. والثالثة أن هذا التمكين الإلهي التوفيقي ينبني على التزام من المكلَّف وفي الوقت نفسه يُغذي هذا الالتزام، وليس مُجرَّد شعارٍ هوياتي، أو انتماء أجوف، أو ثمن مُقابل وضع لافتة فوق جبين الفرد أو المجتمع.
ومن أسف أن مدلولات "التمكين" المشوَّهة قد شاعت بسبب توظيف "الإسلاميين" لها لا بسبب سوء تأولات الزنادقة أو العلمانيين. إذ حرف الإسلاميون الكلم عن مواضعه انسياقا وراء الأوهام الحزبيَّة، ورغبتهم بالاندماج في الحياة السياسية الحديثة، مهما كان الثمن. لقد شُوِّه مدلول اللفظة في خطابهم المعاصر تحت سطوة المخيلة البروتستنتية، التي تجعل من العلو المادي في الأرض دليلا على رضا الإله؛ وهو وهم لا يُعبر عن التصور الإسلامي أصلا، بل ولا يدخل في أفق التكليف إلا توفيقا؛ أي أنه ليس غاية يُعمَلُ لها، بل مكافأة عاجلة قد ينالها بعض المكلَّفين، ولا ينالها بعضهم الآخر؛ فإن جزاء الإخلاص الموعود للمؤمنين هو الجنة فقط: فردوس الآخرة الحق، لا الفردوس الأرضي الموهوم!
وقد أفضى التعلُّق بأوهام الفردوس الأرضي البروتستنتية/ اليهوديَّة إلى هيمنة تصورات مشوهة فاسدة عن "تمكين" توقيفي لكل أحد، وفي كل زمان ومكان؛ كأنه نتيجة مُباشرة لصفقة ماديَّة لا تمييز فيها بين مؤمن وكافر. وهو ما أفضى إلى غياب تصورات الخلاص الدنيوي والأخروي، الذي يجعل من التمكين التوفيقي أفقا أوسع وأكثر إنسانيَّة، بل واحتمالية أعظم رُجحانا لإخلاص المؤمن في رحلة خلاصه. فكأن الانهمام بالأرض والتمكُّن منها يُشقي، والتعلُّق بأمر السماء والخلاص بتعاليمها يُهدي سلطان الأرض كله لمن زهد فيه ابتداء!
وبعبارة أخرى، فكأن تعلُّق المؤمن بصفات الربوبيَّة مُجرَّدة مؤد إلى خزي لا يُصيب الكافر في الدنيا؛ فإن العبد المؤمن الذي استجاب لكونه خُلق للعبادة يتعلَّق بصفات الألوهيَّة أولا طلبا لخلاصه، فإن ما دونها من تيسيرٍ مكفولٌ بحول الله تعالى لكل أحد.
لقد جعل المولى سبحانه وتعالى من "التمكين" هيمنة كليَّة للوحي على اجتماع بني آدم، بِيَد دُعاة إلى الله ارتضى لهم هذا الدور، وعلم مقدرتهم على التجرُّد في الاضطلاع به. أما نيل العوائد الماديَّة أو أسبابها؛ فهو ليس تمكينا، وإنما هو النتيجة المقدورة في نواميس الله لكل من سعى في الأرض واجتهد في أسبابها. وهاهُنا أيضا يفترق مفهوم "عمارة الأرض" عمَّا شاع بسبب هؤلاء المشوَّشين؛ فإن المكلَّف المخلص هو الذي استُخلف واستُعمِر لأنه مؤمن قادر على الانسجام بحركته العابدة مع الكون العابد المهيأ بالقهر، وتعميره بالعبادة مُختارا. فليست عمارة الأرض ها هنا هي اتخاذ المصانع والمعابد والمساكن الفخمة، وإنما هي استكمال "معزوفة" العبادة التي قُهِرَ عليها الكون كله، بعبادة المكلَّف مُختارا مُريدا؛ فهذا السعي المخلص للخلاص هو وحده الذي يرفع قدر الإنسان، ليصير مُعمرا للأرض قائما بواجب الاستخلاف فيها.
وإذا كانت التشوهات الدلاليَّة والعقديَّة ساوت اليوم بين المؤمن والكافر، وجعلت "عمارة الأرض" مهمة يتساويان فيها بالطاعة والمعصية، وسوَّت بين الخلاص والتمكين، بوصفهما -في التحليل الأخير- "مسعى مادي" مجرَّد! فقد صار طالب "التمكين" اليوم باحثا عن العلو المادي في الأرض، وموجَّها له دون غيره، حتى صار غير مستعد لأي تضحيات أو مكابدات أو مُعاناة لا "يُثاب" عليها في أفق دنيوي منظور. وإذا كان الأمر كله -عند هؤلاء- معلَّقا بهذه الدار، والمسعى كله في سبيل فردوس أرضي؛ فإن أية تأجيل للثواب إلى أجل غير مُسمَّى يصيرُ مرفوضا وصارِفا لا عن السعي فحسب، وإنما عن الملَّة والتكليف جُملة. ولأن هذا التصور الفردوسي حلولي في جوهره؛ حلَّ "تمكين" الدين التوفيقي في تمكين "المؤمن" التوقيفي وأزاحه، وصارت نُصرة "الديانة" مُعلَّقة بتطلُّعات أجيال هذا "التمكين" الماديَّة، وبمقدرتها على غزو الواقع البراني وإخضاعه. فإذا فشل هذا الغزو؛ تبدَّت هشاشة إيمان هذه الأجيال التي تتحطَّم بسرعة لأنها لم تؤمن -على الحقيقة- بشيء يتجاوزها ويتجاوز تطلُّعاتها المادية/ الحزبيَّة. لقد أخفق "الإيمان" الهش برغباتها وأطماعها، إذ لم يبلغ بها فردوس "التمكين المادي"؛ فراحت هذه الأجيال تخرج من دين الله كما تفشَّى ذلك عقب فشل ما سُمي بـ"الربيع العربي". وهذا ما سنتناول بعضه في مقال لاحق، إن شاء الله.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry