د. طارق فهمى يكتب.. ما وراء تزايد العنف واستخدامات القوة عام 2023؟
تاريخ النشر: 15th, January 2024 GMT
سيظل العام المنصرم «2023» واحداً من أهم الأعوام فى تاريخ النظام الدولى فى استخدام القوة وتوظيف القوة العسكرية، والتى لم تقتصر فقط على الحروب المندلعة، وبعضها بات حرباً منسية مثل الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب الراهنة فى قطاع غزة، إضافة لعشرات التوترات الدولية والإقليمية التى تُعبِّر عن حالة من عدم الاستقرار فى بيئة النظام الدولى، حيث تجاوز عدد القتلى جراء الصراعات فى جميع أنحاء العالم 238 ألفاً العام الماضى، وهو أعلى رقم منذ الإبادة الجماعية فى رواندا عام 1994، حسبما أفاد معهد الاقتصاد والسلام، فى مؤشر السلام العالمى، ويصنف المؤشر السلام العالمى فى 163 دولة على أساس 23 مؤشراً نوعياً وكمياً، ويضع قائمة تمتد من أكثر الدول إلى أقلها سلاماً.
ووفقاً للمؤشر، أصبح العالم أقل سلاماً للعام التاسع على التوالى. وهو الأمر المرشح للعام الجديد 2024 لاعتبارات متعلقة بتعقيدات الصراعات الدولية الراهنة، وعدم وجود فرص للحل أو التعامل الحاسم بل مجرد إدارة لأغلب الصراعات الراهنة انطلاقاً من رؤية عامة، وفى ظل غياب واضح لدور التنظيم الدولى وعدم فاعليته، وهو ما كشفت عنه الحرب فى أوكرانيا والحرب فى غزة مع تحويل مجلس الأمن إلى ساحة لتسوية الأزمات، الأمر الذى سيستمر مع التأكيد على أن النظام الدولى بات نظاماً متعدد الأقطاب.
وأنه نظام تعددى ولم يعد نظاماً واحداً تهيمن على قراره دولة واحدة برغم قوتها العسكرية، ما يؤكد أننا أمام تحولات مهمة فى بنية النظام الدولى، الأمر الذى سيؤدى لمزيد من المواجهات والصراعات التى لن تنتهى فى الفترة المقبلة، بل ستتزايد، ومن خلال مقاربة منقوصة بالفعل وغير واضحة المعالم، ما يؤكد أننا سنكون أمام ظواهر مستجدة من احتمالات صعود دور جديد لدور الفواعل من غير الدول، والتركيز على عودة القوة لحسم الصراعات فى مراحل التحول فى النظام الدولى الراهن والمحتمل.
وما يؤكد ذلك ارتدادات الحروب المندلعة الحالية، ومنها أزمتا أوكرانيا وغزة فى الفترة الراهنة، وما يمكن أن تؤثر فى بعض الملفات المفتوحة الراهنة، ومنها الانتخابات الأمريكية ومستقبل حلف الناتو وبناء روسيا منظمة الأمن الجماعى بمقاربة جديدة والعلاقات بين الأقطاب، إضافة للأزمات الساكنة إقليمياً والتى ستدخل فى منظومة الارتدادات التى يمكن أن تجرى وفى ظل صعود واضح للقوى الفرعية من غير الدول والتى قد يكون لها دور مركزى فى تسوية أو تصعيد وتنامى الصراعات مثل ما يجرى فى البحر الأحمر فى الوقت الراهن وإعادة بناء تحالفات عسكرية جديدة مثلما أعلنت الولايات المتحدة لمواجهة ما يجرى من تحولات حقيقية تحتاج بالفعل إلى استراتيجية تحرك مهمة.
وبرغم كل ذلك، فإن الولايات المتحدة أصبحت أقل اهتماماً بوضع قواعد لتسيير العالم، وبكونها القوة الدولية المهيمنة ومهندسة التجارة والاقتصاد فى العالم وحتى المشجعة للقيم العالمية، وأصبحت البلدان الأخرى، التى أصبحت أكثر قوة، قادرة بشكل متزايد على تجاهل القواعد التى لا تعجبها، وقد كشفت الحرب فى أوكرانيا، وفى غزة عن الكثير من التوجهات السلبية المباشرة فى هذا الإطار مع التأكيد على أن النظام الدولى الحالى بات نظاماً أمنياً أحادى القطب، قطبه الولايات المتحدة، التى أصبح دورها الأمنى فى العالم اليوم أكثر هيمنة مما كان عليه قبل عقد من الزمان، وهى القوة الأمنية العظمى الوحيدة فى العالم، وستظل كذلك على الأقل خلال العقد القادم.
وهناك توقع بأن يتخلى النظام الليبرالى الذى تقوده الولايات المتحدة عن الهيمنة العالمية خلال العقد المقبل، وأن يصبح الغرب مجرد قوة ضمن قوى عالمية عديدة. المعنى نحن أمام عالم أكثر عنفاً وفقاً لأحدث رصد لأهم الصراعات الجارية فى جميع أنحاء العالم عام 2023.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الصراعات المسلحة الأمم المتحدة الحرب العالمية الثانية الولایات المتحدة
إقرأ أيضاً:
قتل العلماء أو قتل القوة؟
إن ظاهرة قتل العلماء ليست جديدة، والبلدان العربية التي راهنت مبكراً على العلم، خصوصاً تلك التي تعلّقت همتها بالتعمق في مجال الفيزياء النووية، مثل مصر والعراق -ومن غير العربية نذكر إيران- فقد كان مصير غالبية العلماء الكبار الاغتيال والتصفية في ظروف غامضة، مع إغلاق ملفات موتهم الغامض بالعبارة الشهيرة: ضد مجهول.
في العقود الماضية كان خبر اغتيال العالم يدور في نطاق ضيق؛ لذلك يظل الحدث ضيقاً، وفي دوائر قريبة، كما يظل فاعل الجريمة غير معروف حتى لو بدا في منطق تحليل الجرائم معروفاً، وهو ما يجعل من الاتهامات مجرد فرضيات.
أما اليوم فالملاحظ أن الأمور تغيّرت: إسرائيل تُعلن تأكيد اغتيالها عدداً من العلماء النوويين في إيران، وتكشف طوع إرادتها حتى عن بعض ملابسات الاغتيال كالتوقيت، بل أيضاً تتباهى بأنها قتلتهم وهم نيام في أسرّتهم. وطبعاً في الحروب لا يعترف طرف الحرب إلا بما يخدم صورته، ويمثل استعراضاً لقوته وانتصاراته. المشكل الآخر أن الأخبار تناقلتها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي كأي خبر عادي. لا شيء يوحي بخصوصية في المعالجة الإعلامية لأخبار القتلى الذين يوصفون بأنهم: علماء.
ماذا يعني هذا: هل أن قتل العلماء أمر مباح؟ أم أن أي حرب تهدف إلى إيقاف مشروع امتلاك النووي تشترط اغتيال علماء النووي بوصفه جزءاً أساسياً ومركزياً من الحرب؟
منهجياً، الأمر مفهوم جداً باعتبار أن هدف الحرب وسببها ورهاناتها وتحدياتها تحدد الفئة المستهدفة بالتّصفية. ولنتذكر جيداً أن حرب إسرائيل ضد أهالي غزة حددت الفئة المستهدفة بالقتل بدقة: قتل الأطفال والنساء، وعدم الاكتراث بأصوات المدافعين عن حقوق الإنسان والمدافعين عن الطفولة؛ لأن الحرب ضد شعب يتميز بمعدل خصوبة يبلغ قرابة 3.7 في المائة (هذا الرقم قاله لي وزير الشؤون الاجتماعية في فلسطين منذ ثلاث سنوات تقريباً أثناء زيارته تونس)، ناهيك بأنها حرب ضد مستقبل الفلسطينيين والأجيال القادمة والوجود الفلسطيني ذاته، الأمر الذي استوجب تكتيكاً يقوم على التصفية الديموغرافية، بالتركيز على الطفل لأنه المستقبل، والمرأة لأنها الكائن الذي يضطلع بمهمة الإنجاب.
أما حرب إسرائيل على إيران فإن همها ليس الشعب الإيراني، ولا الطفل الإيراني، ولا النساء الإيرانيات، ولا حتى النظام الإيراني كما رأينا، بل هي حرب قياس القوة، وكسر الحاجز النفسي، وبعثرة المشروع النووي الإيراني بإرباكه، واغتيال أكثر ما يمكن من علمائه، وضرب منشآته.
لنأتِ الآن إلى الرسائل المفضوحة من استعراض قتل العلماء: أولاً، من المهم التذكير -حتى لو كان لا وزن أخلاقياً أو قانونياً دولياً لذلك- بأن قتل العلماء يُعد جريمة مضاعفة؛ لأنها تستهدف العالم المغدور به أولاً، وتستهدف العقل البشري والعلم ثانياً.
كما أن ما نعلمه أن العلم غير محدود، ولا يعرف حدوداً، ومنطقياً لا يمكن أن يكون اختيار العَالِم البحث أو الطموح في مجال ما سبباً في قتله، فالمشكلة في الجانب الرمزي الذي يجب ألا يستبيح قتل العلماء، وأن يجعل من العلم سبباً للقتل والتصفية.
كذلك هناك تفصيل آخر يتعلق بأن المشكلة ليست في الفيزياء النووية بوصفها طريقاً لامتلاك القوة، بدليل أن علماء الدول القوية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ليسوا مهددين بالقتل بقدر ما يُمثلون طموح أميركا وقوتها.
إذن الإشكال في الانتماء الحضاري، وفي جنسية العالم الذي نبغ في الفيزياء النووية أو في أي مجال له صلة بالقوة. فالرسالة التي نسوقها بعيداً عن ذهنية المؤامرة أو حتى التخمين لأننا نكتفي بمجرد التوصيف والتأويل الأولي: ممنوع على الدول غير المنتمية لنادي الكبار امتلاك القوة والطموح علمياً.
الأجدر بالإنسانية اليوم محاربة المشروع النووي من جذوره؛ ممنوع على الجميع امتلاكه، بل إن استئثار عدد من الدول به من دون غيرها هو ما يحرض البقية على القيام بمحاولات لامتلاكه، بصفته أكبر دليل على اختلال الفرص والحقوق في موازين القوى.
فالمشكلة ليست في معارضة المشروع النووي الإيراني، بل في عدم معارضة المشروع الإسرائيلي، وفي دعم إسرائيل. ولا شك في أن هذه الوضعية الملتبسة من المنع لطرف والسماح لعدوه هي التي جعلت منطقة الشرق الأوسط بؤرة توتر دائمة من منطلق أن وجود مشروع نووي لا يمكن أن يبعث على الشعور بالراحة والأمن والاستقرار؛ لأن في لحظة امتلاكه يصبح القوة الوحيدة، ومن حوله في حالة تهديد على الدوام.
بيت القصيد: منع امتلاك النووي في منطقة الشرق الأوسط لن يكون إلا إذا شمل الجميع، وعلى رأسهم إسرائيل. ومن دون ذلك ستظل المنطقة في اشتعال، ودوران في حلقة مفرغة من تراكم المشروع ثم افتعال حرب لإرباكه وقتل العلماء، مع ما يعنيه ذلك من معانٍ أخلاقية وقانونية وعلمية محبطة.
وعلى الدول المالكة للسلاح النووي أن تبدأ بنفسها كي تشق طريق السلام على أسس سليمة.
الشرق الأوسط