السودان: نهاية الحرب وبدايتها
تاريخ النشر: 21st, February 2024 GMT
ناصر السيد النور
عبّرت تصريحات قائدي الصراع الدائر في السودان الأسبوع الماضي الفريق عبد الفتاح البرهان وقادة الجيش وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) عن التصميم على مواصلة الحرب حتى «النصر»، الحرب التي استعادت ضراوة القتال بشكل واسع. وبكل ما حملته التصريحات من عزم على مواصلة الحرب في بعدها العسكري على أرض المعارك كشفت في الوقت نفسه عن انسداد الأفق السياسي للحل السلمي التفاوضي الذي تتوزع منابره بين دول ومنظمات ومكونات سياسية إقليمية ودولية ومحلية لحرب تدخل شهرها الحادي عشر دون توصل إلى حل.
وهكذا ينكشف غطاء الأزمة السودانية على الرغم مما أحدثته الحرب من انتهاكات جسيمة قتلاً وتدميراً، وأظهرت ممارستها وحشية بدائية تمثيلاً بالجثث التي يزعم أن أفرادا من منسوبي الجيش قاموا بتنفيذها في مشهد يكشف عن مدى ما وصلت إليه بربرية الحرب وفظاعاتها التي تجاوزت كل الأعراف والقيم حتى بمنطق الحروب وقوانينها بما وصفه الكاتب السياسي السوداني فيصل محمد صالح بالإنسانية المهدورة. فالاستمرار في الحرب وغلق باب التفاوض من قبل قادة طرفي الصراع ثم تطوير الهجوم العسكري على مستوى حرب داخلية لا يشير إلا على تحريض باستخدام القوة المجردة بأقصى درجة ممكنة دون أي اعتبارات سياسية أو إنسانية.
فمن مجريات هذه الحرب، وفقاً للتحليل والرصد العسكري بين طرفي قوى متفاوتة في القوة والسيطرة والتنظيم واختلاف النتائج على الأرض تبعاً لموازين القوة، لا تزال قوات الدعم السريع تحكم سيطرتها على المواقع التي سيطرت عليها من مدن وولايات ومجمعات وقواعد صناعية عسكرية في نطاق جغرافي يمتد من أقصى غربي البلاد إلى وسطها وانتشارها بما يحقق السيطرة العسكرية بالمفهوم الاستراتيجي. في مقابل ذلك يتحصن الجيش مدافعا في مواقع ظلت عصية على الاختراق من جانب قوات الدعم كسلاح المدرعات والمهندسين مع تقدم أحرزه مؤخراً في بعض المواقع. ولا تزال المواجهات تشتد وتيرتها بين طرفي القتال دون أن يحقق أي طرف نتيجة عسكرية محسومة. وهذا التكثيف العسكري قد صحبته تصدعات اجتماعية تسهم بكثافة في الأنشطة العسكرية مما يزيد من أمد الحرب على أكثر من جبهة عسكرية وسياق اجتماعي يعكس التناقضات السياسية وما أحدثته الحرب من عاهات مستديمة وما ترسب منها في الشعور الجمعي بما يعرف في علم النزاعات بالصور المترسبة في مرحلة ما بعد الحرب.
والتبريرات، التي يفسر بها كل طرف ما دعاه من أسباب للمواجهة العسكرية بدلاً عن أي خيار آخر كان من الممكن أن يجنب السودان حريق الحرب، ليست مقنعة بالمنطق السياسي أو العسكري. فالحرب لدى الطرفين تأخذ شرعيتها ما بين الاصطلاح العسكري كتمرد لفصيل ميليشيا (الدعم السريع) ضد مؤسسة عسكرية وآخر سياسي صراع على السلطة بين المكونات المدنية السياسية المدنية لثورة 2019م وفلول النظام السابق المتهمين بالوقوف من وراء إشعال الحرب باستخدام الجيش. لقد غادرت الحرب بنسخها المتجددة الكثير من جدل الصراعات السياسية واتخذت بالتالي الكثير من الشعارات والدواعي السياسية والجهوية، ولم تعد حصراً على الزخم والتنازع السياسي الذي رافق الفترة الانتقالية في حكومة رئيس الوزراء المدنية الدكتور عبد الله حمدوك إلى قيام الانقلاب في تشرين الأول/أكتوبر 2021م والذي عجَّل في اندلاع الحرب والتنازعات الحادة بين مكونات الطوائف السياسية السودانية. ومع أن البعض يرجع البداية إلى خلاف سياسي بين الطرفين حول بنود سياسية أبزرها الخلاف حول الوثيقة الدستورية، وعسكري تمحور حول ضم قوات الدعم السريع للجيش، لكنها جميعها تفسيرات تدحضها أجندة خافية لكل من الفريقين أكثر مما برز على سطح الأحداث.
إن نهاية الحرب تحتمها طبيعة الحرب نفسها، ومثل كل حروب السودان الداخلية فستكون النهاية إما من الجانب العسكري وما تستنفده الحرب من موارد كل من الطرفين وتؤدي إلى إنهاك، أو تفقد الحرب مبررها، أو إرادة سياسية وطنية صلبة تستطيع أن تضع صيغة سلمية، وهذه مشكوك في قدرتها أو توفر شروطها إلى الأقل في الوقت الحاضر. ويقف السودانيون الآن أمام أصعب الخيارات وهو أن الجانب العسكري يهمين على الخطاب السياسي السائد بكل ما يعنيه في هرم السلطة السياسية من شرعية أمر واقع وقوة قاهرة تفرض شروطها على بينة حكم مطلق يصعب تصنيفه السياسي ما بين حكومة ديكتاتورية وذراع عسكري لجهة مدنية سياسية تحلم بالعودة إلى مقاعد الحكم مهما كلف الثمن.
إن الحرب التي فشلت كل المحاولات في تجنب استمرارها أو وضع حد لها بالشكل الذي سارت عليها مساعي الحلول من تفاوض ووساطة إقليمية ودولية وفرض عقوبات فردية وغيرها من وسائل كما لو أنها لم تزد الحرب إلا وقودا. والفشل والعجز الواضح لتلك المساعي في وقف النزيف في بلد يرزح مواطنوه تحت ويلات حرب تحت ظروف إنسانية بالغة التعقيد لا يفسر إلا الطبيعة الخفية للحرب نفسها. فتعدد منابر الحل يفضي بالضرورة إلى تدخلات تستدعيها الحروب بحثاً عن مصالح أو زيادة حصة المصالح والتأكيد عليها، ولكن أن تستعصي الحلول على تعدد مصادرها وتفاوت مدى تأثير نفوذها على مستوى المجتمع الدولي يؤكد أن الحل العسكري هو الراجح، أي أن تنهي الحرب نفسها بنفسها. وربما كان لغياب النفوذ الخارجي المؤثر رغم سيل الإدانات والتصريحات قد أوحى لقادة الصراع بالمضي قدماً فيما يرونه من حلول للحرب من داخل إطارها.
فإذا ما انتهت الحرب عسكرياً بهزيمة أحد الطرفين، فإن ذلك لا يقضي على بؤر أحدثتها طبيعة الحرب مشكلة مهددات قائمة على المستوى الأمني والاجتماعي. فانتشار السلاح والأطراف الاجتماعية المساندة من قبائل وجماعات جهوية وحركات مسلحة انتجت طائفية عسكرية تؤسس لمستقبل مجهول في مرحلة ما بعد الحرب وإن يكن واقعا لا يمكن انكار مآلاته. والحرب عادة من الظواهر التي تكون نهاياتها على خلاف مقدماتها فما يمكن أن تنبئ به الحرب الأهلية السودانية لا يبعد عن الاحتمالات الأكثر قرباً إلى حقائق الواقع التي تجليها مشاهد الحرب يوما بعد آخر. وما بدا انحيازاً من الدولة وقوتها الصلبة ممثلة في الجيش لصالح مجموعات جهوية بعينها سيدفع احتمالات يتجنب الكثيرون الخوض فيها من فرط شدة تحقق تفاصيلها بالوقائع أكثر من الشعارات فقد رسمت الحرب حدوداً فيدرالية قمست بين مكونات الدولة السودانية.
إذن الأسباب التي أدت إلى الحرب يدركها الساسة السودانيون ومن معهم من العسكريين الذين عادة ما كانوا يشكلون الأزمات السياسية والتي لم تكن الحرب إلا واحدة منها، ولكنها تبقى الأكثر تأثيراً في مسار الأحداث من بين وسائل الصراع على السلطة وممارستها على ما يجرى من التعبير السياسي الدارج. ومن ثم فإن الحل وإن كان مساره عسكرياً إلا أن الجانب السياسي لا يمكن تجاوزه لا لإيجاد غطاء شرعي أو قانوني للحل، ولكن لأن القوة العسكرية مهما بلغت لها حدودها التي ربما ليس بالضرورة أن تضع الحلول أو تفرضها.
إن البحث عن خارطة طريق وسط ركام التعقيدات السياسية بسبب الحرب منها الداخلي والخارجي وأمام موجة تصعيد عسكري يجعل منه بحثاً بلا جدوى. فموقف قوة السلطة العسكرية التي تهيمن على الحكم رافضة لأي تقارب مع القوى المدنية الفاعلة المعارضة تحت ذرائع ليس أقلها التخوين والعمالة. ويبدو أن مواقف الجيش السياسية باتت تتقدم مهامه الوطنية في الدفاع والحفاظ على الأمن إلى دور ينفرد فيه بقرار الحرب وموجهات السياسة. وهذا الدور، وإن لم يكن ليس مستغرباً عن طبيعة الحكومات العسكرية، إلا أنه لم يعد في ظروف الحرب الحالية مطلوبا. فلا يمكن لأي مؤسسة أو جهة البحث عن حل أو فرضه لا يأخذ بالصوت المدني في شبكة تداخلات السياسة السودانية وأن يذهب الجيش وحده لتحقيق سلام آخذ بما تمليه عليه نتائج الحرب بعيداً عن كل معنى إنساني يتطلب وقف الحرب سيعيد إنتاج الحرب بوسائل أخرى.
كاتب سوداني
نشر بصحيفة القدس العربي اللندنية #عدد اليوم الأربعاء 21/02/2024م.
[email protected]
//////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع قوات الدعم الحرب من
إقرأ أيضاً:
اليمن.. عقدة الجغرافيا التي قصمت ظهر الهيمنة: تفكيك خيوط المؤامرة الكبرى
مثّلت الحرب الشاملة التي شُنّت على اليمن في مارس 2015، التدشين العملي والأخطر لمؤامرة دولية مركبة، حيكت خيوطها بعناية فائقة في الغرف المظلمة بين واشنطن وتل أبيب؛ فالموقع الجيوسياسي لليمن، الحاكم على رئة العالم في باب المندب، جعل منه هدفاً دائماً لأطماع قوى الاستكبار التي ترى في استقلال هذا البلد تهديداً وجودياً لمشاريعها في المنطقة، ولعل المتأمل في مسار الأحداث يدرك بيقين أن ما يجري هو عقاب جماعي لشعب قرر الخروج من عباءة الوصاية.
إن القراءة المتأنية للرؤية الأمريكية والإسرائيلية تجاه اليمن تكشف تحولاً جذرياً في التعامل مع هذا الملف، فمنذ نجاح الثورة الشعبية في الحادي والعشرين من سبتمبر 2014، أدرك العقل الاستراتيجي في البيت الأبيض والكيان الصهيوني أن اليمن قد غادر مربع التبعية التي كرسها “سفراء الدول العشر” لسنوات طويلة، وأن القرار اليمني لم يعد يصاغ في السفارات الأجنبية. لقد كانت تلك اللحظة بمثابة زلزال سياسي دفع بنيامين نتنياهو مبكراً للتحذير من أن سيطرة القوى الثورية الوطنية على باب المندب تشكل خطراً يفوق الخطر النووي، وهو ما يفسر الجنون الهستيري الذي طبع العدوان لاحقاً. وقد تجلت هذه الرؤية بوضوح صارخ في المرحلة الحالية، وتحديداً مع انخراط اليمن في معركة “الفتح الموعود والجهاد المقدس”، حيث سقطت الأقنعة تماماً، وانتقلت أمريكا من إدارة الحرب عبر وكلائها الإقليميين إلى المواجهة المباشرة بالأساطيل وحاملات الطائرات، بعد أن أدركت أن أدواتها في المنطقة عجزت عن كبح جماح المارد اليمني الذي بات يهدد شريان الحياة للاقتصاد الصهيوني.
وعند النظر إلى الخارطة العملياتية للمؤامرة، نجد أن العدو اعتمد استراتيجية خبيثة تقوم على تقسيم الجغرافيا اليمنية وظيفياً، والتعامل مع كل جزء بأسلوب مختلف يحقق غاية واحدة هي “التدمير والإنهاك”. ففي المناطق والمحافظات الحرة التي رفضت الخضوع، لجأ التحالف الأمريكي إلى استراتيجية “الخنق والتجويع” كبديل عن الحسم العسكري المستحيل؛ فكان قرار نقل وظائف البنك المركزي في سبتمبر 2016 الضربة الاقتصادية الأخطر التي هدفت لضرب العملة الوطنية وتجفيف السيولة، مترافقة مع حصار مطبق على الموانئ والمطارات، في محاولة بائسة لكسر الإرادة الشعبية عبر لقمة العيش، ومؤخراً محاولة عزل البنوك اليمنية عن النظام المالي العالمي، وهي ورقة ضغط أخيرة تم إحراقها بفضل معادلات الردع الصارمة التي فرضتها صنعاء.
أما في الجانب الآخر من المشهد، وتحديداً في المحافظات الجنوبية والمناطق المحتلة، فتتجلى المؤامرة في أبشع صورها عبر استراتيجية “الفوضى والنهب”، حيث يعمل المحتل على هندسة واقع سياسي وعسكري ممزق يمنع قيام أي دولة قوية؛ فمن عسكرة الجزر الاستراتيجية وتحويل “سقطرى” إلى قاعدة استخباراتية متقدمة للموساد وأبو ظبي، وبناء المدارج العسكرية في جزيرة “ميون” للتحكم بمضيق باب المندب، إلى النهب الممنهج لثروات الشعب من النفط والغاز في شبوة وحضرموت، بينما يكتوي المواطن هناك بنار الغلاء وانعدام الخدمات. إنهم يريدون جنوباً مفككاً تتنازعه الميليشيات المتناحرة، ليبقى مسرحاً مفتوحاً للمطامع الاستعمارية دون أي سيادة وطنية.
وأمام هذا الطوفان من التآمر، لم يقف اليمن مكتوف الأيدي، بل اجترح معجزة الصمود وبناء القوة، مستنداً إلى استراتيجية “الحماية والمواجهة” التي رسمتها القيادة الثورية بحكمة واقتدار. لقد تحول اليمن في زمن قياسي من وضع الدفاع وتلقي الضربات إلى موقع الهجوم وصناعة المعادلات، عبر بناء ترسانة عسكرية رادعة من الصواريخ الباليستية والفرط صوتية والطائرات المسيرة التي وصلت إلى عمق عواصم العدوان، بل وتجاوزتها لتدك “أم الرشراش” وتفرض حصاراً بحرياً تاريخياً على الكيان الصهيوني، مسقطة بذلك هيبة الردع الأمريكية في البحر الأحمر. هذا المسار العسكري وازاه مسار اقتصادي يرفع شعار الاكتفاء الذاتي والتوجه نحو الزراعة لكسر سلاح التجويع، ومسار تحصين الجبهة الداخلية عبر ترسيخ الهوية الإيمانية التي كانت السد المنيع أمام الحرب الناعمة.
خلاصة المشهد، أن اليمن اليوم، وبعد سنوات من العدوان والحصار، لم يعد ذلك “الحديقة الخلفية” لأحد، بل أصبح رقماً صعباً ولاعباً إقليمياً ودولياً يغير موازين القوى، وأن المؤامرة التي أرادت دفن هذا البلد تحت ركام الحرب، هي نفسها التي أحيت فيه روح المجد، ليصبح اليمن اليوم في طليعة محور الجهاد والمقاومة، شاهداً على أن إرادة الشعوب الحرة أقوى من ترسانات الإمبراطوريات.