لجريدة عمان:
2025-07-05@00:37:43 GMT

وجه الحقيقة

تاريخ النشر: 21st, February 2024 GMT

ينسى المرء أحيانا أن الفترة التي قضاها معتقدا لاعتقادات يرى بطلانها وسخافتها اليوم، ينسى بأنها مكملة لحياته صاقلة لروحه وبصيرته، ولعل الثمرة التي يجنيها المرء لحظة وفاته؛ هي نتاج التجارب المختلفة والمتنوعة بتناقضاتها التي لا سبيل إلى الجمع بينها منطقيا! فكما أن المراحل السنية للإنسان في حقيقتها مناقضة لبعضها البعض -أي أن نزق الطفولة يناقض رجاحة منتصف العمر، وطيش الشباب يناقض حكمة الشيخوخة، وهكذا- كذلك الإنسان نفسه يناقض حاله في فترة ما لسبب ما، وتتشكل شخصيته وحياته الكلية من اجتماع تلك النقائض كلها.

إن احتكار الحقيقة، والمعرفة والمعاني السامية التي نظن أننا نمتلكها ونحاكم بها الآخرين، لا يلزم أن يراها الآخرون بالنظرة التي نراها بها؛ فكما أن الجبل الأخضر له طريق مرصوف تتسنمه السيارات في مدة وجيزة، فكذلك له طرقه الأخرى التي يسلكها الناس صعودا على الأقدام، وفي المحصلة النهائية كلهم يصل إلى قمة الجبل الأخضر، وهذا هو المطلوب والغاية لكليهما.

تعمينا المعرفة المكتسبة والمقدَّرة بالمعلومات الكثيرة التي تراكمت عبر القراءات المتنوعة والمصادر المتعددة للمعرفة، عن عيش الحياة الحقيقية. فينظر الناس إلى المثقف كغريب، ويرميهم هو بالغرابة ذاتها. فلا ذا اقترب من هذا، ولا ذاك دنا وفهم هذا. ولو أنهما اقتربا للنقطة الوسطى التي تلتقي فيهما اهتماماتهما واعتقاداتهما وثقافتهما العامة المشتركة، لوجدا من أواصر القربى ما يَبُتُّ عُقَدَ التنافر أو سوء الفهم. بالنسبة إلي، فالمثقف الحقيقي هو الذي يعرف معارف مجتمعه من مأكل ومشرب وملبس وطبيعة، بجانب معرفته بالمعلومات المتراكمة. ومن كان شيخه كتابه، كان خطؤه أكثر من صوابه كما يُقَال. فمن يقرأ في كتب الطب المعتمدة على الأعشاب عن العشبة المعمرة من جنس الذفراء وفصيلة السذابية التي تعالج الكسور، لن يعرفها «البيدار» ولا «الشاوي» ولا «البدوي»!، لكنهم سيحضرونها لك في طرفة عين إن أخبرتهم بأنك تبحث عن «تفر التيس» أو «المخَيّسة». فمعرفة جانب واحد من الحقيقة لا يعني امتلاك الحقيقة كلها. وهذا يذكرني بالفيلسوف الفرنسي «باشلار» في مقابلة قديمة متحدثا عن نفسه «إنني في طرفة عين أعرف اللحم الجيد من الرديء»، و«باشلار» عند الفرنسيين له شأنه الكبير ومقامه العالي، ولكنه لا يستنكف عن الحياة الطبيعية البسيطة بحاجياتها المتجددة.

والمرء في حياته المعاشة يواجه شتى المآسي والاختبارات، ولربما كانت صعوبة المواقف بأنه يتعامل مع بشر مثله؛ فالطبيعة المختلفة للبشر واستعداداتهم النفسية ومقاربتهم للخير والشر، كلها تجعل من الصعوبة بل الاستحالة التعامل معهم بنفس الكيفية والطريقة. فلو أن البشر آلات أو جمادات، لأمكن التعامل معهم بالمنطق الرياضي والحساب الدقيق، ولكن الإنسان يتأثر ويؤثر بما يطرأ عليه من حوادث. وإحدى فوائد القراءة أنها تذكرنا بما نعرفه بداهة، وتنبهنا إلى ما نكاد ننساه.

وبما أن معرض الكتاب عاد إلينا بعد طول فراق، فلنتذكر الحقائق التي تهمنا وتحسّن من حياتنا ومسارنا العلمي والعملي. فلا نلتفت إلى ما يتوقع الآخرون منا قراءته وما يريدنا الأصدقاء أن نقرأه وحده، وليس في هذا دعوة إلى أن نهمل اقتراحات الأصدقاء رأسا؛ وإنما بأن نقرأ ما نراه مناسبا ومتسقا لنا ولمسارنا الخاص. ففي نهاية حياتنا ونحن ننظر إلى الوراء، إلى ما حققنا وما أسفنا على عدم تحقيقه أو محاولة السعي إليه؛ لن تفيدنا نظرة الآخرين لنا أو رأيهم فيما قرأنا وفعلنا. وأختم بعبارة لم يزل أبي يرددها على مسامعنا مذ كنا صغارا «السيفُ بحدِّهِ والقلمُ بمدِّهِ والرَّجُلُ بِسَعْدِهِ لا بأبيهِ ولا بجدِّهِ». فعلى المرء أن يختار طريقه ويشقه بسعده غير آبه ولا ملتفت لمسار أقرانه، إلَّا بالقدر الذي ينفعه في تصحيح مساره وتقويم طريقه، فـ «الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها» كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الخمر المغشوش.. سمّ يباع على قارعة الفساد

#الخمر_المغشوش.. #سمّ يباع على #قارعة_الفساد

بقلم: م #مدحت_الخطيب

يتزايد عدد ضحايا الخمور المغشوشة يوماً بعد يوم. وفيما تمتلئ المستشفيات بحالات التسمم، وتُسجّل الوفيات تِباعاً، لا تزال الأسئلة الجوهرية غائبة عن الساحة:
من صنع هذه الخمور؟ من وزّعها؟ وكيف وصلت إلى هذا العدد من الخمارات والمستهلكين دون أن يُكشف أمرها؟

هذا الحديث لا يحمل تنمّراً، ولا شماتة، ولا وصاية دينية. نحن لا نحلّ مكان الله في محاسبة الناس، بل نُخاطب الدولة بعقلها وقانونها ومسؤولياتها وواجباتها …

مقالات ذات صلة الخوف من الذكاء الاصطناعي 2025/07/02

ما حدث ليس “ظاهرة فردية” ولا “حادثة طارئة”، بل جريمة مركبة، بدأت القصة من مكان يقال أنه مصنع مرخص ، وتم الحصول على مادة شديدة السمية بطريقة سهلة، ساهم في تحضيرها يدٍ اثمه لا يهمها الا المال ، وغُطيت بعيون لا بل أُغمضت عنها عيون عمد أو بجهل وتقاعص من قبل جهات واجبها أن تحمي المجتمع وتحافظ عليه..
فمن الذي سمح لهذا السم أن يُصنّع وبهذه الطريقة ؟؟؟

وأين الجهات الرقابية، من مؤسسة الغذاء والدواء، إلى الجمارك، إلى أجهزة إنفاذ القانون؟؟؟ وهنا يسجل للطب الشرعي الذي دقق في أول حالات الوفاة وقام بالتشريح للجثث والوقوف على أسباب الوفاة الحقيقية ، وكذلك لنشامى الأمن العام والأجهزة الأمنية على الإسراع في كشف خيوط القضية ومتابعتها والوصول الى السوق والمصنع المزعوم وسحب المنتجات بشكل كامل وبوقت قياسي وتوقيف من له علاقة بالأمر ..
من حقي كمحب لهذا الوطن أن أسأل هل من المعقول أن تنتج هذه الكمية من الكحول القاتل وتُوزع على عشرات المحال دون أن يستوقفها أحد؟؟؟
الواقع يقول: نعم، هذا ممكن… لأن الرقابة الأهم إما نائمة أو مُنومة…وهنا أتحدث عن الرقابة الذاتية والتي ولد من رحمها مصطلح الانتماء الصادق للوطن والمواطن وتعريف المواطنه الحقيقية ..

أستحضر في هذا المقام صوتاً صادقاً لطالما سبَق زمنه؛ صوت الوزير الراحل د. عبدالرحيم ملحس، حين تحدث في التسعينيات من القرن الماضي واعلنها بمرارة عن الغذاء والدواء : حيث قال وعلق الجرس
“لقد دخلت السموم إلى غذائنا ودوائنا”..
عندها سُخر منه كهنة الاتجار بالوطن وحاربوه حتى استقال ، لكنه كان مُحقاً في كل ما قال ..
اليوم، وبعد أكثر من عقدين، يبدو أن السم لم يخرج من نفوس وعقول شياطين الإنس .. بل تبدل فقط في شكله…
اليوم تحولت تجارتهم من غذاء ودواء.. إلى زجاجات خمر مغشوشة تفتك بشباب في عمر الزهور…
اليوم، يبدو أن السم لم يغادر حياتنا وهنا لم يتوقف الأمر على هذا المنتج فمن باع ضميره ممكن ان يفعلها في العصائر والشيبس والالبان و الاجبان واللحوم والدواجن وغيرها ..

ومن هنا ولنكن واضحين:
لسنا نناقش الآن حرمة الشرب من عدمه… نحن أمام قضية قتلٍ متسلسل، يُنفذ بهدوء عبر زجاجات مغشوشة، بينما من يفترض أن يحمي الناس مشغول بـ”الإجراءات” الورقية .واللقاءات التلفزيونية

رسالتي إلى دولة الرئيس وعندي يقين أن الأمر لن يمر مرور الكرام فمن يعرف دولته يعلم أن الأزمة لم تنتهي عند هذا الحد ولن تنتهي ، فنحن في دولة لها في وجدان دولته الكثير، ومن هنا يا دولة الرئيس عجل بالبتر والضرب بيد من حديد فكان يكفي أن تسجّل حالة وفاة واحدة فقط لتهتزّ الأجهزة المختصة، وتُغلق المحال، وتبدأ التحقيقات.
أما اليوم، فالضحايا بالعشرات، ولم نشاهد إلى الآن ما يا يريح قلوب الأردنيين وانت منهم..
نحن لا نطلب معجزة. فقط نريد من الأجهزة المختصة أن تحمي الناس من الغش، من الموت، من الاستهتار، من الفساد…

ما نريده ببساطة:
– محاسبة من استورد أو صنع أو روّج لهذه الخمور القاتلة
– محاسبة كل مسؤول قصّر أو تغافل أو تستر على هكذا مجازر..
– في الختام نحتاج جميعا الى وقفة حقيقية، لا لمؤتمرات صحفية
لأن بعض الأرواح، لا تُغفر خسارتها بالصمت أو التنظير ..
لسنا هنا في مقام وعظ، ولا نحمل سوطاً لنجلد به من قرر أن يشرب، اليوم من واجبنا ككتاب ومواطنيين وصناع محتوى أن لا نُقحم أنفسنا في مكان الله جل جلاله، ولا نمارس وصاية على أحد. هذه ليست دعوة دينية، بل صرخة إنسانية وقانونية وصحية وأخلاقية. إن ما يحدث ليس مجرد “مخالفة” أو “تقصير”، بل جريمة مكتملة الأركان، تبدأ من المصنع ، وتمرّ عبر شبكات توزيع، وتنتهي بأجهزة رقابة من واجبها مراقبة الأسواق ..

نعم لنضع جانباً الجدل الديني

ما نطالب به ليس إغلاق “الخمارات” فهذا محال أو جلد الناس على خياراتهم، بل ما هو أبسط بكثير:
نطالب بحماية الناس من الغش، من السم، من الفساد.
نطالب بتحقيق شفاف، ومحاسبة المتورطين في تصنيع أو استيراد أو توزيع هذه المواد السامة، ومحاسبة من قصّر أو تواطأ من المسؤولين لكي لا تتكرر المأساة في منتج مغشوش أخر قد يصل الى يد إبني وابنك وعندها لن ينفع الندم ولا الشعارات ولا المطالبات…
Medhat_505@yahoo.com
م مدحت الخطيب

مقالات مشابهة

  • المحرضون على أذية الناس..«كفى»!
  • عوض بابكر : رحيل من لا يُعوَّض
  • الموت أهون من النزوح.. استشهاد الحياة على شاطئ بحر غزة
  • اعترافات فيلسوف جهادي
  • مقررة أممية: مؤسسة غزة الإنسانية فخ موت مصمم لقتل أو تهجير الناس
  • الخمر المغشوش.. سمّ يباع على قارعة الفساد
  • الحب في زمن التوباكو (15)
  • في ذكرى ميلاده.. وحيد حامد صوت الحقيقة في زمن الصمت (تقرير)
  • تقرير الزمالك المسرب .. الرمادي يكشف الحقيقة ويبرئ صلاح مصدق
  • هل يحدث تسونامي بالبحر المتوسط.. أستاذ المناخ يكشف الحقيقة