ينسى المرء أحيانا أن الفترة التي قضاها معتقدا لاعتقادات يرى بطلانها وسخافتها اليوم، ينسى بأنها مكملة لحياته صاقلة لروحه وبصيرته، ولعل الثمرة التي يجنيها المرء لحظة وفاته؛ هي نتاج التجارب المختلفة والمتنوعة بتناقضاتها التي لا سبيل إلى الجمع بينها منطقيا! فكما أن المراحل السنية للإنسان في حقيقتها مناقضة لبعضها البعض -أي أن نزق الطفولة يناقض رجاحة منتصف العمر، وطيش الشباب يناقض حكمة الشيخوخة، وهكذا- كذلك الإنسان نفسه يناقض حاله في فترة ما لسبب ما، وتتشكل شخصيته وحياته الكلية من اجتماع تلك النقائض كلها.
إن احتكار الحقيقة، والمعرفة والمعاني السامية التي نظن أننا نمتلكها ونحاكم بها الآخرين، لا يلزم أن يراها الآخرون بالنظرة التي نراها بها؛ فكما أن الجبل الأخضر له طريق مرصوف تتسنمه السيارات في مدة وجيزة، فكذلك له طرقه الأخرى التي يسلكها الناس صعودا على الأقدام، وفي المحصلة النهائية كلهم يصل إلى قمة الجبل الأخضر، وهذا هو المطلوب والغاية لكليهما.
تعمينا المعرفة المكتسبة والمقدَّرة بالمعلومات الكثيرة التي تراكمت عبر القراءات المتنوعة والمصادر المتعددة للمعرفة، عن عيش الحياة الحقيقية. فينظر الناس إلى المثقف كغريب، ويرميهم هو بالغرابة ذاتها. فلا ذا اقترب من هذا، ولا ذاك دنا وفهم هذا. ولو أنهما اقتربا للنقطة الوسطى التي تلتقي فيهما اهتماماتهما واعتقاداتهما وثقافتهما العامة المشتركة، لوجدا من أواصر القربى ما يَبُتُّ عُقَدَ التنافر أو سوء الفهم. بالنسبة إلي، فالمثقف الحقيقي هو الذي يعرف معارف مجتمعه من مأكل ومشرب وملبس وطبيعة، بجانب معرفته بالمعلومات المتراكمة. ومن كان شيخه كتابه، كان خطؤه أكثر من صوابه كما يُقَال. فمن يقرأ في كتب الطب المعتمدة على الأعشاب عن العشبة المعمرة من جنس الذفراء وفصيلة السذابية التي تعالج الكسور، لن يعرفها «البيدار» ولا «الشاوي» ولا «البدوي»!، لكنهم سيحضرونها لك في طرفة عين إن أخبرتهم بأنك تبحث عن «تفر التيس» أو «المخَيّسة». فمعرفة جانب واحد من الحقيقة لا يعني امتلاك الحقيقة كلها. وهذا يذكرني بالفيلسوف الفرنسي «باشلار» في مقابلة قديمة متحدثا عن نفسه «إنني في طرفة عين أعرف اللحم الجيد من الرديء»، و«باشلار» عند الفرنسيين له شأنه الكبير ومقامه العالي، ولكنه لا يستنكف عن الحياة الطبيعية البسيطة بحاجياتها المتجددة.
والمرء في حياته المعاشة يواجه شتى المآسي والاختبارات، ولربما كانت صعوبة المواقف بأنه يتعامل مع بشر مثله؛ فالطبيعة المختلفة للبشر واستعداداتهم النفسية ومقاربتهم للخير والشر، كلها تجعل من الصعوبة بل الاستحالة التعامل معهم بنفس الكيفية والطريقة. فلو أن البشر آلات أو جمادات، لأمكن التعامل معهم بالمنطق الرياضي والحساب الدقيق، ولكن الإنسان يتأثر ويؤثر بما يطرأ عليه من حوادث. وإحدى فوائد القراءة أنها تذكرنا بما نعرفه بداهة، وتنبهنا إلى ما نكاد ننساه.
وبما أن معرض الكتاب عاد إلينا بعد طول فراق، فلنتذكر الحقائق التي تهمنا وتحسّن من حياتنا ومسارنا العلمي والعملي. فلا نلتفت إلى ما يتوقع الآخرون منا قراءته وما يريدنا الأصدقاء أن نقرأه وحده، وليس في هذا دعوة إلى أن نهمل اقتراحات الأصدقاء رأسا؛ وإنما بأن نقرأ ما نراه مناسبا ومتسقا لنا ولمسارنا الخاص. ففي نهاية حياتنا ونحن ننظر إلى الوراء، إلى ما حققنا وما أسفنا على عدم تحقيقه أو محاولة السعي إليه؛ لن تفيدنا نظرة الآخرين لنا أو رأيهم فيما قرأنا وفعلنا. وأختم بعبارة لم يزل أبي يرددها على مسامعنا مذ كنا صغارا «السيفُ بحدِّهِ والقلمُ بمدِّهِ والرَّجُلُ بِسَعْدِهِ لا بأبيهِ ولا بجدِّهِ». فعلى المرء أن يختار طريقه ويشقه بسعده غير آبه ولا ملتفت لمسار أقرانه، إلَّا بالقدر الذي ينفعه في تصحيح مساره وتقويم طريقه، فـ «الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها» كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
بوصلة الأمة بعد الإبادة في غزة.. تحديد المصير أو مواجهة الحقيقة
كل قذيفة سقطت، وكل صرخة طفل ارتفعت، وكل قطرة دم سُكبت في غزة، لم تكن مجرد أخبار عابرة أو صور تُعرض على الشاشات، بل مثّلت زلزالا استراتيجيا ضرب صميم وعينا ومستقبلنا كأمة عربية وإسلامية.
لقد انكشفت حقيقة مُرة؛ لا يمكن لجسد الأمة أن ينعم بالسلامة والأمن ما دام قلبها، المتمثل في القضية الفلسطينية، ينزف ويُستباح. لم يعد الأمر يحتمل التردد أو التغاضي، فالخطر اليوم ليس مجرد احتلال لأرض مقدسة، بل هو تحدٍ وجودي صريح يهدف إلى تفكيك الركائز الأخلاقية والأمنية للأمة بأسرها، لم تعد فلسطين قضية للتعاطف فحسب، بل أصبحت المفتاح الأوحد للأمة، وإهمالها إعلان ضمني ببدء التآكل الداخلي، وعقليا واستراتيجيا، يتجاوز التعامل مع هذا الخطر مرحلة إصدار بيانات الإدانة العابرة إلى ضرورة تبني عقيدة عمل شاملة وواضحة.
لقد فرضت الأحداث المزلزلة الأخيرة حقيقة لا تقبل التأويل، بوصلتنا الاستراتيجية بحاجة إلى إعادة ضبط جذرية تخرج بها من ردود الفعل إلى صناعة الفعل المنهجي المُحكَم، من خلال رؤية استراتيجية، ووضع مرتكزات متكاملة، تشكل معا خارطة طريق لا غنى عنها لضمان أمننا ومستقبلنا المشترك، بدءا من مسؤولية الشعب الفلسطيني نفسه تجاه توحيد الصف ووصولا إلى تفعيل قوة الردع الموحدة للأمة.
إننا أمام لحظة فارقة تحدد مصير الأجيال، فإما أن نتحول من مُتلقين للصدمات، متجاوزين بها ردود الفعل إلى صناعة الفعل الاستراتيجي، وإلى مهندسين وفاعلين للمستقبل، ويتحمل الجميع مسؤولياته، وإما أن نستسلم لحتمية التآكل والاندثار.
لنتجاوز الأوصاف المضللة ونقف على حقيقة الأمر:
1. الكيان الصهيوني لا يمثل مجرد نزاع حدودي أو أزمة إنسانية عابرة، بل هو التناقض الأساسي والتهديد الوجودي لاستقرار وسيادة الأمة بأسرها. إن استمرار احتلاله وعدوانه الوحشي ليس قنبلة موقوتة محلية، بل هو المحور الذي تتوالد وتدور حوله جميع دوائر التوتر في المنطقة. فلسطين هي صمام الأمن القومي، ولا يمكن تحقيق أي استقرار إقليمي مستدام إلا عبر تفكيك هذا التناقض الوجودي وحلّه جذريا ونهائيا.
2. مسؤولية الفلسطينيين الذاتية: إن الالتزام العربي والإسلامي لا يمكن أن يكتمل أو يُثمر دون وحدة وتفعيل الدور الفلسطيني المحوري، لذلك يتوجب على القيادة والمؤسسات الفلسطينية العمل بجدية على:
- إنهاء الانقسام الداخلي وتوحيد الصف تحت مظلة وطنية جامعة لا تُقصي أحدا.
- تفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية المعٌطلة والعمل على بناء استراتيجية عمل موحدة توازن بين المقاومة بجميع أشكالها وبين الحنكة السياسية والدبلوماسية، مما يمنح الدعم العربي والإسلامي أساسا صلبا للانطلاق.
3. خط الدفاع الأول؛ شرعية ودعم المقاومة الاستراتيجية في مواجهة آلة الاحتلال والحرب: تظل المقاومة الفلسطينية هي الجدار الأخير في وجه مشاريع الهيمنة والتذويب، هي ليست مجرد فصائل، بل هي التعبير الحيّ والمشروع عن حق الشعب في الدفاع عن نفسه وخط الدفاع الأول عن مقدسات الأمة.
4. هندسة الأمن الجماعي الجديد؛ من التشتت إلى التكافل الفعّال: لا يمكن للأمن المشترك أن يُقام على أعمدة التبعية أو التفرقة، يجب على دول الأمة العربية أن تنتقل فورا من حالة التشرذم إلى تطوير آليات فاعلة للتعاون العربي والإسلامي. المطلوب صياغة منظومة أمن جماعي جديدة وذات مخالب، تضمن التكافل والتنسيق المنهجي في المجالات السياسية، والاقتصادية، والأمنية، التهديد لأي جزء من الأمة يجب أن يُعتبر تهديدا مُعلنا للكل، وهذا هو الدرع الاستراتيجي الحقيقي في وجه الأطماع الخارجية والعدوان الصهيوني المتكرر.
5. بناء جدار الردع؛ تحديد كلفة باهظة للعدوان: كيف يمكن لآلة العدوان أن تتوقف عن التمادي في القتل والتهجير؟ الإجابة تكمن في خلق معادلة ردع استراتيجية حقيقية وذات مصداقية مؤلمة. هذه المعادلة تتطلب إيصال رسالة قاطعة للكيان المحتل بأن ثمن أي جريمة أو توسع جديد سيكون باهظا وفوريا على كافة المستويات الإقليمية والدولية؛ الردع هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الاحتلال، ويجب أن تُصاغ أدواته عبر قوة موحدة ومُفعلة تستخدمها الأمة بأسرها.
6. تفعيل السلاح الصامت؛ الحصار والعزل السياسي والاقتصادي الشامل: لا يجب أن يستمر العالم العربي والإسلامي كممر آمن أو سوق مفتوح للكيان المعتدي، يجب استخدام أوراق القوة الاقتصادية والسياسية التي نمتلكها، وأولها العزل الشامل والضغط الممنهج غير القابل للتراجع:
- الإلغاء الفوري والكامل لكل أشكال التطبيع الاتفاقيات الموقعة أو المجمدة مع هذا الكيان.
- الوقف التام والشامل للتجارة بكافة أشكالها وتحت أي غطاء.
- حظر الطيران الصهيوني في سماء دولنا، خاصة وأن المجال الجوي الإقليمي يُستغل كجسر حرب لتسهيل العدوان، التناقض بين القصف الذي يمر فوقنا وبين السيادة يجب أن يُحسم الآن.
7. العدالة تنتظر؛ ملاحقة مجرمي الحرب بلا حصانة: لا يجب أن يظل مجرمو الحرب الصهاينة يتمتعون بأي شكل من أشكال الحصانة فوق القانون، يجب علينا تفعيل ودعم الأطر القانونية الدولية والوطنية العاملة على ملاحقة وتقديم هؤلاء المجرمين إلى العدالة الدولية.
كل قطرة دم لها ثمن، ويجب أن يواجه القتلة المحكمة، من أصغر جندي إلى أعلى رأس في هرم الكيان الصهيوني. هذه الخطوة ليست مجرد واجب أخلاقي، بل هي جزء لا يتجزأ من استراتيجية الردع والعزل الدولي طويل الأمد.
8. الدبلوماسية الهجومية؛ تفكيك الرواية وتأطير الحق: على الصعيد الدولي، يجب تبني دبلوماسية مضادة نشطة وهجومية، مهمتها تفكيك الرواية الصهيونية التي تُغلف الاحتلال بالشرعية الزائفة، وتأطير القضية الفلسطينية كـقضية تحرر وطني، وفقا للقانون الدولي الواضح، ويجب استثمار كافة المنابر الدولية (الأمم المتحدة، محكمة العدل الدولية، المحكمة الجنائية الدولية)، لـتجسيد الحق الفلسطيني واستصدار القرارات التي تُجرم الاحتلال وتُعزله.
ختاما، إن الأولوية الفلسطينية ليست ترفا سياسيا، بل هي ضرورة وجودية وشرط أساسي لضمان استقرار ومستقبل الأجيال القادمة، لقد أثبتت صدمة الأحداث الأخيرة أن أمننا القومي لا يمكن أن يُبنى إلا على أسس متينة من التكافل والردع في مواجهة هذا الخطر المتجذر.
إن إعادة تفعيل هذه المرتكزات الثمانية هي بمثابة إعلان عن بداية مرحلة جديدة من الوعي والعمل الجماعي العربي والإسلامي، الذي يضع المصير المشترك فوق كل المصالح الضيقة. فالحماية الحقيقية لانتصار المقاومة ولصمود الشعب الفلسطيني تبدأ من هنا، من خلال استراتيجية جامعة تُفضي إلى عزل الاحتلال، وتقديمه للعدالة.