قدّمت سلطنة عُمان مرافعة شفوية تاريخية أمام محكمة العدل الدولية بمدينة لاهاي، بشأن "الممارسات الإسرائيلية ضد حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية".

وأكدت سلطنة عُمان في المرافعة التي ألقاها نيابة عن حكومة سلطنة عُمان السفير الدكتور الشيخ عبدالله بن سالم الحارثي سفير سلطنة عُمان لدى مملكة هولندا، أنه منذ أكثر من 75 عامًا يعيش الفلسطينيون تحت الاحتلال والقمع والظلم والإذلال اليومي الذي يُرتكب بحقهم من قِبَلِ الإسرائيليين، وفي الوقت نفسه فشل المجتمع الدولي والمنظمات الدولية في مساعدة الشعب الفلسطيني على تحقيق تطلعاته من خلال إقامة دولته المستقلة.


وأوضحت سلطنة عُمان أن العالم يشهد في غزة منذ 4 أشهر واحدةً من أبشع الجرائم وأعمال الإبادة الجماعية في العصر الحديث، استشهد على إثرها أكثر من 29 ألفَ شخص، وأكثر من 68 ألفَ جريح، بالإضافة إلى 2.2 مليون يعيشون تحت وطأة الفقر في ظروف لا تطاق، ونقلهم من مكان إلى آخر في انتهاك واضح للأعراف الدولية.
وأكّد أن سلطنة عُمان تؤيد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 77/247 المؤرخ في 30 ديسمبر 2022 والذي طلبت فيه الجمعية من المحكمة إصدار رأي استشاري في مسألتين محددتين وهما: العواقب القانونية الناجمة عن انتهاك إسرائيل المستمر للاتفاقية، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، واحتلال الأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، بما فيها مدينة القدس الشريف، علاوة على إجراءاتها الهادفة إلى تغيير التركيبة السكانية، وطابعها، ووضعها، واعتمادها للتشريعات والتدابير التمييزية ذات الصلة.
وتابع: المسألة الثانية تتمثل بأن سياسات إسرائيل وممارساتها تؤثر على الوضع القانوني للاحتلال، وما يترتب على هذا الوضع من آثار قانونية على كافة الدول والأمم المتحدة.
وقال: إن سلطنة عُمان تطلب أخذ الأمور التالية بعين الاعتبار، أولا: إن انتهاك الحق في تقرير المصير والاحتلال والاستيطان وضم الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967 يؤدي إلى إعاقة تحقيق حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة وغير القابلة للتصرف، بما في ذلك حقه في تقرير المصير، وحقه في العودة.
وأردف أن هناك إجماعا دوليا واسعا يؤكد وجود حق تقرير المصير، ولكن يتواصل إنكار هذا الحق في قضية الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن هذا الحق ثابت في جملة أمور في المادة 1 من ميثاق الأمم المتحدة، وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة باستمرار على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ومطالبة مجلس الأمن الدولي بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولتين على حدود 1967.
كما يعترف مجلس حقوق الإنسان باستمرار بـ "الحق غير القابل للتصرف والدائم وغير المشروط للشعب الفلسطيني في تقرير المصير"، ونتيجة لهذه الانتهاكات الواضحة للقانون الدولي في استمرار الاحتلال منذ 75 عامًا فإنه يجب على المحكمة أن تقرر وجوب قيام حكومة إسرائيل بوضع حد فوري وغير مشروط على كافة الأنشطة والسياسات والقوانين التي تمنع وتعيق الفلسطينيين من تقرير المصير، والحل يتمثل بالدرجة الأولى في إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية. مطالبا المحكمة بالاعتراف بالمسؤولية الواضحة الملقاة على عاتق جميع الدول لدعم إقامة تحقيق تقرير المصير الفلسطيني بما يتماشى مع قرارات وميثاق الأمم المتحدة.

ولفت إلى ثاني الاعتبارات المتمثل في أن الاحتلال المطول والاستيطان وضم الأراضي الفلسطينية والنقل غير القانوني المستمر والمنهجي للمواطنين الإسرائيليين إلى المستوطنات في الأرض الفلسطينية المحتلة على مدى عقود من الزمن، يهدف إلى إدامة الاحتلال وجعله مستمرا، ويرتبط بهذه السياسة تهجير الفلسطينيين وإنشاء نظام قسري للتمييز، وتقسيم المناطق، والتخطيط، والاستيلاء غير القانوني على الأراضي، والاعتقال التعسفي، والعنف الممنهج منذ عام 1967، وهذا التهجير القسري للشعب الفلسطيني ونقل مواطني دولة الاحتلال إلى الأرض المحتلة محظور بموجب المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، وتنص المادة 1 من تلك الاتفاقية على أن كل طرف متعاقد في الاتفاقية ملزم بضمان الالتزام بها في جميع الظروف، وقد أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشكل مستمر ومتكرر جهود إسرائيل لتغيير الطابع الديمغرافي ووضع الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وأوضح في ثالث الاعتبارات أن على المجتمع الدولي التزام منع الضم غير القانوني للأراضي الفلسطينية، وأن أحد المبادئ الأساسية للقانون الدولي كما ينعكس في ميثاق الأمم المتحدة هو أن استخدام القوة بأي شكل من الأشكال محظور، وبالتالي فإن الاستيلاء على الأراضي باستخدام القوة أمر غير قانوني، وأنّ سياسة الاحتلال والاستيطان التي تنتهجها دولة إسرائيل منذ 75 عامًا تمنع إنشاء دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة وتشكل إهانة للقانون الدولي.
وينبغي للمحكمة أن تقضي بأن العواقب القانونية بالنسبة لحكومة إسرائيل في هذا الصدد يلزم أن تشمل الوقف الفوري لجميع الأعمال غير القانونية بما في ذلك المستوطنات والأطر القانونية والإدارية المرتبطة بها، ومن الضروري أن يتم تقديم التعويضات عن المستوطنات والأطر غير القانونية وتفكيكها.
وأضاف سعادته: إن الدول الأطراف في اتفاقية جنيف المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب ملزمة بضمان امتثال إسرائيل للقانون الإنساني الدولي كما هو منصوص عليه في الاتفاقية، بما في ذلك النقل غير القانوني للمواطنين في الأراضي المحتلة.
ودعا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 77/25 جميع الدول بما يتفق مع التزاماتها بموجب الميثاق وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة إلى اتباع سياسة عدم الاعتراف وعدم التعاون وعدم المساعدة للاحتلال الإسرائيلي وضمان احترام القانون الدولي في هذا الصدد.
وقال: إن العواقب القانونية الأولية الناشئة عن سلوك إسرائيل تُثبت وجود استيلاء وضم فعلي للأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل، مبينًا أنه لا يوجد أي مبرر قانوني لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي وحرمان الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير.
وختمت سلطنة عُمان مرافعتها بالتأكيد على أن سلوك وممارسات سلطة الاحتلال موثقة جيدًا، وينظمها القانون الدولي بشكل صارم، وأن اتفاقية جنيف الرابعة واضحة في أنه لا يجوز لقوة الاحتلال نقل سكانها المدنيين إلى الأراضي المحتلة، بالإضافة إلى ذلك فإن القانون الدولي لا يجيز الاحتلال الدائم أو الاحتلال الممنهج من خلال فرض تركيبة سكانية مغايرة.
كما أكدت سلطنة عُمان أن مدة الوجود الإسرائيلي بلغ 75 عامًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وسياسة الاستيطان المستمرة تجعل الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني وينتهك ميثاق الأمم المتحدة وينبغي للمحكمة أن تُقَرر بأنه ينبغي لإسرائيل أن تضع حدًا فوريًا وغير مشروط لهذا الوضع غير القانوني، وينبغي للدول دعم هذه الجهود.

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: فلسطين غزة فلسطينية فلسطيني سفير هولندا السفير الفلسطينية فلسطينيون الجمعیة العامة للأمم المتحدة الأراضی الفلسطینیة المحتلة الشعب الفلسطینی فی تقریر المصیر الأمم المتحدة غیر القانونی بما فی

إقرأ أيضاً:

لماذا تخذل الأنظمة العربية الاستبدادية غزة؟

عقب مرور أكثر من ثمانية أشهر على حرب إبادة الشعب الفلسطيني في غزة؛ التي تشنها المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية بدعم وإسناد من الولايات المتحدة الأمريكية، لا تزال مواقف الأنظمة العربية الاستبدادية تصر على خذلان غزة ونسيان القضية الفلسطينية، على الرغم من أن هجوم الإبادة الجماعية الإسرائيلي يبث على الهواء مباشرة في جميع أنحاء العالم. وقد بلغ خذلان الأنظمة العربية حد التواطؤ مع جرائم الإبادة، فلم تنفذ الدول العربية أي عقوبات دبلوماسية أو اقتصادية ضد المستعمرة الإسرائيلية، ولم تمارس أي ضغوطات حقيقية على راعية المستعمرة الصهيونية الولايات المتحدة الأمريكية، في الوقت الذي قامت دول من أمريكا اللاتينية مثل البرازيل وبوليفيا وتشيلي وكولومبيا باستدعاء سفرائها، أو قطعت أو خفضت العلاقات الدبلوماسية مع الدولة الصهيونية، وهو ما لم تجرؤ أي دولة عربية مطبعة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي على مجرد التهديد به، ناهيك عن إرسال قوات عسكرية للدفاع عن الشعب الفلسطيني، كما فعل أسلاف قادة الأنظمة العربية في عام 1948.

أسفرت حرب الإبادة الوحشية المستمرة التي تنفذها المستعمرة الصهيونية في غزة تحت أنظار العالم عن استشهاد أكثر من أربعين ألف (40,000) فلسطينيّ معظمهم من الأطفال والنساء، وإصابة أكثر من ثمانين ألفا (80,000) في قِطاع غزّة، وتدمير قرابة 70 في المئة من المباني السكنيّة والـمَرافق العامّة والمستشفيات والمساجد والمدارس والبنى التحتيّة. وعلى الرغم من حجم الجرائم والدمار والقتل المشهدي الهائل، تتصرف الأنظمة العربية كما لو أنها عاجزة ولا تملك الموارد ولا النفوذ ولا القدرة على فعل أي شيء؛ سوى التوسل إلى الأمريكيين بتقليل الخسائر وسرعة القضاء على المقاومة الفلسطينية وعمودها الفقري حركة حماس، كما لو كانت الولايات المتحدة حيادية وليست مشاركة في حرب الإبادة، فأمريكا العميقة تعتنق الصهيونية الاستعمارية صراحة وتشارك في حرب الإبادة من خلال الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي، وتعمل على تصفية القضية الفلسطينية وتمكين المستعمرة وتطبيع وجودها في المنطقة.

على الرغم من حجم الجرائم والدمار والقتل المشهدي الهائل، تتصرف الأنظمة العربية كما لو أنها عاجزة ولا تملك الموارد ولا النفوذ ولا القدرة على فعل أي شيء؛ سوى التوسل إلى الأمريكيين بتقليل الخسائر وسرعة القضاء على المقاومة الفلسطينية وعمودها الفقري حركة حماس، كما لو كانت الولايات المتحدة حيادية وليست مشاركة في حرب الإبادة
برهنت حرب غزة على انفصال الأنظمة العربية الاستبدادية عن تطلعات وطموحات شعوبها، وأكدت على فقدان الأنظمة العربية للشرعية الشعبية، وأن وجودها ومصالحها لا تتحقق مع تطبيق الديمقراطية، وإنما بمزيد من الاستبداد والقهر والتخلي عن أي طموح قومي وترسيخ النزعة القطرية والهوية الوطنية الضيقة. فلم تعد الأنظمة الاستبدادية الغربية تنظر إلى الفلسطينيين باعتبارهم شعبا شقيقا يعاني من ظلم عميق ويتشارك معه التاريخ والهوية والمصير، وبات يُنظر إلى القضية الفلسطينية كعائق يحول دون تحقيق مصالحها، وأصبح ينظر إلى الشعب الفلسطيني باعتباره مشكلة عفا عليها الزمن وتزعزع الاستقرار الإقليمي وتعيق الرخاء الاقتصادي.

وقد ظهرت هذه الأفكار السياسية الداروينية عند الطغاة العرب بصورة مروعة عقب الانقلاب على انتفاضات الربيع العربي، حيث ظهرت تصورات جديدة حول مهددات استقرار الأنظمة العربية في ظل الهيمنة الأمريكية، فاختفت النظرة إلى الكيان الإسرائيلي كعدو مهدد للاستقرار وبات الكيان الاستعماري بمنزلة الصديق، لكن تحول نظرة الأنظمة العربية إلى المستعمرة الاستيطانية اليهودية جاء بعد سلسلة من التحولات ترتبط بعلاقة الاستبدادية العربية بالإمبريالية الأمريكية، حيث أصبحت الصهيونية الإسرائيلية صلة الوصل بين الأنظمة الاستبدادية والإمبريالية الأمريكية.

يشير الانحدار الرسمي العربي وخذلان القضية الفلسطينية إلى مسار طويل من الفشل وغياب الرؤية والمشروع وفقدان الذات الأخلاقية، والخضوع التام للهيمنة الأمريكية، والترتيبات الاستعمارية. فقد كان الرئيس جمال عبد الناصر الزعيم العربي الأخير الذي أدرك بعد خلق المستعمرة الصهيونية بحلول نكبة 1948؛ حجم التهديد الذي فرضته الصهيونية الاستعمارية على تقرير المصير العربي، ومركزية القضية الفلسطينية ودورها في تحقيق الطموحات العربية بالوحدة والاستقلال والتنمية.

وقد شكلت الهزيمة العربية الصادمة عام 1967 لحظة الانهيارات العربية الكبرى، إذ لم تقتصر الخسارة على ما تبقى من فلسطين التاريخية، في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، بل امتدت إلى خسارة شبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية، وسرعان ما انتهى صوت العرب بوفاة عبد الناصر عام 1970.

وسرعان ما استغلت الولايات المتحدة الأمريكية غياب عبد الناصر، للتخلص من النزعة العربية المناهضة للاستعمار وتثبيت وبناء إسرائيل وضمان تفوقها العسكري في المنطقة، والعمل دون كلل على عزل قضية فلسطين عن الدول العربية، من خلال دعم الأنظمة الاستبدادية الموالية المناهضة للديمقراطية، والعمل على محاربة الوعي المناهض للاستعمار المتمركز حول فلسطين.

يشير الانحدار الرسمي العربي وخذلان القضية الفلسطينية إلى مسار طويل من الفشل وغياب الرؤية والمشروع وفقدان الذات الأخلاقية، والخضوع التام للهيمنة الأمريكية، والترتيبات الاستعمارية
فقد أصرت مذكرة بحثية لوزارة الخارجية بعد حرب 1967، على أن الفشل العربي بالتحول إلى "رجل عصري" ديمقراطي علماني متجذر في أسباب داخلية قديمة كامنة في العقلية الإسلامية، وليس أن الفشل هو نتاج أسباب جيوسياسية بتدخلات خارجية. وتوصي المذكرة بأن المطلوب في جوهره هو "اجتثاث تعريب" العرب، أي جعلهم يقبلون القيم العقلانية المفترضة للغرب، والتي تتضمن دعمه لإسرائيل. وتشير المذكرة ببساطة في مضمونها إلى أنه يتعين على العرب قبول الهيمنة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، ورفض أسطورة الوحدة العربية العلمانية، والخضوع لهندسة الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط الغني بالنفط. ومن أهم ركائز هذه الهيمنة الاعتماد على الدول الاستبدادية الغنية بالنفط، مثل إيران في عهد الشاه والمملكة العربية السعودية، أما الركن الآخر فكان يعتمد على إسرائيل، التي سُمح لها ببدء استعمارها للضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة وسيناء ومرتفعات الجولان"

وعوضا عن أن تشكل الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 التي ساندت فيها الولايات المتحدة الجيش الإسرائيلي بشكل علني لأول مرة بروز سردية عربية مناهضة للإمبريالية الأمريكية والاستعمارية الصهيونية، دشنت الحرب النهاية المأساوية للتضامن العربي والتنسيق المشترك لمقاومة إسرائيل عسكريا واقتصاديا، والتصدي للهيمنة الأمريكية، وسرعان ما دخلت الأنظمة الاستبدادية العربية الواحدة تلو الأخرى في نظام وبنية الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط.

ففي عام 1978، أصبحت مصر في عهد الرئيس أنور السادات أول دولة عربية تنفصل علنا عن الإجماع العربي حول فلسطين، حيث وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل وتركت الفلسطينيين لمصيرهم في ظل النظام الاستعماري الإسرائيلي. وتختصر اتفاقية "كامب ديفيد" صورة الشرق الأوسط الجديد بتسليم النظام الرسمي المصري للهيمنة الأمريكية والخضوع لنظام سياسي إقليمي يتمحور حول إسرائيل، وهو ما سيحافظ عليه ورثة السادات العسكريين الاستبداديين من حسني مبارك إلى عبد الفتاح السيسي، وبهذا تبدلت عقيدة الجيش المصري المجهز بمعدات أمريكية من الخارج إلى الداخل، فلم تعد محاربة إسرائيل تتمتع بالأولوية، وبات الجيش يقوم بمهام بوليسية لقمع التطلعات الديمقراطية في مصر.

بعد أن خرجت مصر من العالم العربي وخضعت للهيمنة الأمريكية الإسرائيلية، انهارت المنظومة العربية بصورة دراماتيكية، حيث قامت إسرائيل بغزو لبنان عام 1982، وهو الاجتياح الذي كشف الاستسلام والإذعان الكامل للنظام الاستبدادي العربي الرسمي للهيمنة الأمريكية على المنطقة. فعلى مدى ثلاثة أشهر، قصفت إسرائيل عاصمة عربية، وأشرفت على مذبحة للمدنيين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين، كل ذلك برعاية أمريكية بعد أن تفاوضت على نفي منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس. ورغم أن إسرائيل قتلت أكثر من 20 ألف مدني لبناني وفلسطيني آنذاك، فإن الأنظمة العربية في ظل الهيمنة الأمريكية لم تحرك ساكنا.

وجاء غزو العراق للكويت في العام 1990 والذي تزامن مع سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، ليؤذن بتفكك ما تبقى من شعارات شكلية حول الوحدة العربية الرسمية.

تخلت الأنظمة الاستبدادية العربية عن أي ادعاء بالمقاومة العسكرية للاستعمار الإسرائيلي، وانصبت جهودها على إثبات عدم دعمها للإرهاب والانخراط في سياسة الحرب الأمريكية على الإرهاب، وهو مصطلح يشير إلى الإسلام في زمن الأحادية القطبية الأمريكية، وانصبت جهود الأنظمة العربية على العدو الداخلي المتخيل
بعد أن تفردت الولايات المتحدة بالهيمنة الأحادية القطبية ونهاية الحرب الباردة، بدأت العمل بجهد أكبر لتصفية القضية الفلسطينية من خلال ما سمي "عملية السلام"، حيث استسلمت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في المنفى علم 1993، ومن ثم تبعها الأردن عام 1994، وأصبحت السلطة الفلسطينية الجديدة التي أنشأتها اتفاقيات أوسلو وكيلة للاحتلال وأداة مساعدة للسيطرة العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، حيث أغرقت إسرائيل الضفة الغربية بالمستوطنات ونحو 800 ألف مستوطن، وطبقت نظام الفصل العنصري، واقتصرت مهمة العالم العربي الرسمي على المناشدات بتطبيق القانون الدولي.

في حقبة الحرب على الإرهاب التي دشنتها الولايات المتحدة بعد هجمات أيلول/ سبتمبر 2001، تخلت الأنظمة الاستبدادية العربية عن أي ادعاء بالمقاومة العسكرية للاستعمار الإسرائيلي، وانصبت جهودها على إثبات عدم دعمها للإرهاب والانخراط في سياسة الحرب الأمريكية على الإرهاب، وهو مصطلح يشير إلى الإسلام في زمن الأحادية القطبية الأمريكية، وانصبت جهود الأنظمة العربية على العدو الداخلي المتخيل، الأمر الذي أفضى إلى عرض الحكومات العربية في عام 2002 على إسرائيل السلام الكامل مقابل حل الدولتين على أساس حدود عام 1967، وهو ما رفضته إسرائيل بصورة قاطعة، وأدى إلى مزيد من الخضوع الرسمي العربي، لمقتضيات سياسة الولايات المتحدة التي تجاهلت القضية الفلسطينية، ودعمت الأنظمة الاستبدادية العربية.

بعد عقود من الجهود الأمريكية الإسرائيلية لتهميش وتصفية القضية الفلسطينية، نجحت الجهود عقب الانقلاب على ثورات الربيع العربي 2011 مع جيل جديد من المستبدين العرب، لكن الشعوب العربية حافظت على فلسطين كأيقونة للهوية العربية والذات الأخلاقية التي تتجاوز الانقسامات المناطقية والطبقية والطائفية والدينية. وقد كشفت حرب غزة والقضية فلسطينية مرة أخرى عن الفجوة الكبيرة في العالم العربي بين الحكام المستبدين العرب المعتمدين على الغرب؛ وبين الشعوب العربية التواقة إلى الحرية والكرامة وتقرير المصير والتضامن ونصرة فلسطين.

وقد بلغ الانهيار السياسي والأخلاقي للنظام الاستبدادي العربي مداه الأقصى بالتخلي عن القضية الفلسطينية، عقب اعتراف الولايات المتحدة في عام 2017، في عهد إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب، بضم إسرائيل غير القانوني للقدس، وما تلى ذلك من نقل سفارتها إلى هناك، وهو ما أكد الاستخفاف الرسمي الأمريكي للمشاعر الشعبية العربية والثقة في النظام الاستبدادي العربي، الذي برهن على ولائه لعقيدة الاستقرار في ظل الهيمنة الأمريكية، التي ترغب بقيادة إسرائيل للمتطقة بعد دمجها وتطبيعها، وهو ما أسفر عن الاتفاقيات الإبراهيمية عام 2020، والتي قام فيها المغرب والإمارات العربية المتحدة والبحرين "بتطبيع" علاقاتها مع حكومة إسرائيلية عنصرية متطرفة؛ لا تعترف بحق تقرير المصير للشعب لفلسطينيي,

في هذا السياق لم تكن عملية "طوفان الأقصى" سوى استجابة حيوية ضرورية لما أفضت إليه محاولات تصفية القضية الفلسطينية على مدى عقود، وزيادة زخم مشاريع التصفية بعد الانقلاب على ثورات الربيع العربي وإعادة بناء الأنظمة الاستبدادية العربية في المنطقة، في لحظة تاريخية تماهى فيها الخطاب الاستبدادي العربي عن العنف الاستعماري الإسرائيلي في قطاع غزة الذي حولته إلى معتقل وسجن كبير؛ مع المقاربة الصهيونية الإسرائيلية والإمبريالية الأمريكية والغربية، التي تجاهلت الخلفية التاريخية والسياقية للمشروع الاستعماري الاستيطاني لإسرائيل الذي يستند إلى الإخضاع والإبادة والمحو والتطهير، وتناست طبيعة المقاومة الفلسطينية المناهضة للاستعمار الصهيوني وكحركة تحرر وطني، الأمر الذي جعل من تكرار إسرائيل لجرائمها في غزة شيئا ممكنا، بل واجبا يقوم على حق الدفاع عن النفس.

فقد أصبح الوهم القائل بأن الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية يمكن محوها أو نسيانها حقيقة مقبولة لدى المستوطنين الإسرائيليين وحلفائهم الدوليين، وتنامى الاعتقاد بأن المقاومة الفلسطينية باتت قضية منسية ومهجورة، وأن إسرائيل قادرة على الحفاظ على وجودها غير القانوني إلى أجل غير مسمى لأنها صاحبة اليد العسكرية العليا. وعززت مسارات تطبيع الكيان الاستعماري مع الدول الاستبدادية العربية برعاية إمبريالية أمريكية في جعل الاحتلال حقيقة دائمة وحالة طبيعية، فقد تماهت الخطابات الإمبريالية والصهيونية والاستبدادية مع خرافة أن الشعب الفلسطيني هو مرتكب الإرهاب وأن الإسرائيليين المستعمرين هم ضحايا الإرهاب دوما.

خذلان النظام الاستبدادي العربي لغزة يعبر عن حالة من الفزع بعد عملية "طوفان الأقصى"، حيث اتسعت الهوة بين الأنظمة الاستبدادية العربية وشعوبها، وفضحت حرب الإبادة الصهيونية على غزة خضوع الحكام المستبدين العرب للهيمنة الأمريكية. فقبل عملية "طوفان الأقصى" كانت الهوة بين الشعوب العربية الأنظمة الاستبدادية واسعة، وأصبحت بعد حرب الإبادة أكثر اتساعا وشمو
خلاصة القول أن موقف الأنظمة الاستبدادية العربية بخذلان غزة يقع في مسار طويل من الانحدار السياسي والأخلاقي الرسمي العربي، الذي جاء ضمن سلسلة من الخضوع والاستسلام للهيمنة الأمريكية، وتصوراتها الرغبوية بإدماج المستعمرة الصهيونية في المنطقة، ونسيان وتصفية القضية الفلسطينية.

وقد ظنت الولايات المتحدة الأمريكية بعد جهود لعقود طويلة أنها نجحت في مسعاها الرامي إلى إرغام العرب على قبول الاستسلام والهزيمة، لكن "طوفان الأقصى" كشف زيف الأوهام الرغبوية الأمريكية والاستيهامات الصهيونية، فلم تُحدث عقود من الجهود المضنية سوى خدوش سطحية للوعي، حيث تبدد الوهم بأن الشعب الفلسطيني سيقبل مصيره كشعب مستعمر إلى الأبد، واختفت معه الأوهام بنسيان الشعوب العربية لفلسطين، ذلك أن الداروينية السياسية للاستبدادية العربية والإمبريالية الأمريكية والاستعمارية الصهيونية، لا تستطيع فهم الذات الفلسطينية والعربية التي تشكل فلسطين عنوان وجودها كأمة ومحور أخلاقها ونظرتها للعالم. فالنظر الاستيهامي المريض القاصر يخيل إليه إمكانية فرض الصهيونية الاستعمارية العنصرية بالقوة الأمريكية، دون أي مقاومة، ولعل حجم الإبادة التي تمارسها إسرائيل وأمريكا في غزة يعكس حالة الخوف والقلق من قرب نهاية المستعمرة وأفول الهيمنة الأمريكية، وزوال الأنظمة الاستبدادية.

فخذلان النظام الاستبدادي العربي لغزة يعبر عن حالة من الفزع بعد عملية "طوفان الأقصى"، حيث اتسعت الهوة بين الأنظمة الاستبدادية العربية وشعوبها، وفضحت حرب الإبادة الصهيونية على غزة خضوع الحكام المستبدين العرب للهيمنة الأمريكية. فقبل عملية "طوفان الأقصى" كانت الهوة بين الشعوب العربية الأنظمة الاستبدادية واسعة، وأصبحت بعد حرب الإبادة أكثر اتساعا وشمولا، وقد تعمقت الفجوة بين الشعوب مع تكشف حالة عجز وخضوع وتواطؤ الأنظمة الاستبدادية العربية، وتصاعد التأييد العالمي للقضية الفلسطينية ومناهضة المستعمرة الصهيونية.

x.com/hasanabuhanya

مقالات مشابهة

  • البيان الختامي لمؤتمر الاستجابة الإنسانية الطارئة في غزة: يجب إنهاء العملية العسكرية المستمرة في رفح وتنفيذ تدابير محكمة العدل الدولية
  • طلاب جامعة "ليستر" الإنجليزية تهتف لنميرة نجم وتدين محامي إسرائيل أمام "العدل الدولية"
  • مستشار الأمن القومي الأمريكي يكشف الطريقة الوحيدة للإفراج عن المحتجزين
  • خبير: المجازر في غزة مستمرة.. أين القانون الدولي؟
  • خبير: مجازر تل أبيب في غزة مستمرة.. أين القانون الدولي من ذلك؟
  • الخارجية: سورية التي وقفت دائماً في الخندق الفلسطيني لمواجهة الفاشية الصهيونية تؤكد مجدداً ضرورة محاسبة مرتكبي هذه الجرائم ومساءلة “إسرائيل” وحكومتها الفاشية أمام المحاكم الدولية بهدف وقف هذه المذبحة والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفل
  • الخارجية: لم تعد الكلمات قادرة على وصف الإجرام الصهيوني الذي رفضته محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وأصبحت دعوة المجتمع الدولي والأمم المتحدة إلى التحرك الحاسم لوقف هذه المجازر والاعتداءات أمراً حتمياً
  • لماذا تخذل الأنظمة العربية الاستبدادية غزة؟
  • باقري كني: على حكومات الدول العمل على وقف جرائم الإبادة الجماعية الصهيونية في قطاع غزة
  • خبير سياسات دولية: المقاومة الفلسطينية لم تقع في فخ نتنياهو