بعد فشلها في البحر… واشنطن تحرك الورقة الأخيرة
تاريخ النشر: 25th, February 2024 GMT
يمانيون – متابعات
على نحو متسارع تمضي الأحداث والتطورات في مستويات المواجهة المباشرة بين اليمن من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها وجيوشها الموازية من جهة أخرى، فلا نكاد نتوقف عند حدث بالقراءة والتحليل حتى يدهمنا آخر ليطوي علينا ما شرعنا بالكتابة عنه، من عجز الولايات المتحدة وبريطانيا عن الحد من تصاعد العمليات اليمنية في البحر، إلى قرار التصنيف الأميركي لأنصار الله منظمة “إرهابية” من نوع خاص، وصولاً إلى تحريك ورقة الإرهاب عبر جيشها الموازي (القاعدة وداعش) ولفيف المرتزقة لتشتيت جهود القوات المسلحة عن معركة البحر المساندة لغزة.
تصنيف أنصار الله منظمة “إرهابية”
بعد فشل واشنطن ولندن في تجييش العالم ضد صنعاء بتشكيل تحالف بحري، توهمتا أن بمقدورهما ردع القوات المسلحة اليمنية والحد من قدراتها من خلال عسكرة البحر الأحمر أولاً، وتالياً باستعراض القوة وشن عدوان ثنائي أميركي بريطاني لامس حتى كتابة هذا المقال 400 ضربة جوية وبحرية.
وقد لجأت واشنطن إلى ورقة تصنيف أنصار الله منظمة “إرهابية”، ليتضح لها أن ذلك التصنيف سخيف وعديم الجدوى، فلا أنصار الله تملك أرصدة، ولا هي تملك تبادلات مالية في واشنطن أو غيرها من عواصم الأطلسي، كما أن صنعاء ليست في وارد التراجع عن عمليات الإسناد أبداً، مهما فعلت واشنطن ولندن.
يتبين ذلك من خلال نقل قوات صنعاء المواجهة إلى مستويات أعلى في قواعد الاشتباك، لناحية الانتقال من العمليات الإجرائية الجراحية إن جاز التعبير ضد السفن الأميركية والبريطانية والإسرائيلية إلى مستوى الإغراق. ومن ناحية أخرى، تصاعدت وتيرة العمليات على نحو غير مسبوق، وبما يؤكد عجزهما وفشلهما في حماية سفن العدو الإسرائيلي وسفنهما التجارية والعسكرية.
وحتى تبينت هذه الحقيقة للولايات المتحدة، اعترفت بأنها تواجه أكبر تحدٍ منذ الحرب العالمية الثانية، وأن 7000 ألف جندي أميركي في البحر يعيشون حالة من الإرهاق والإعياء بعد مرور أكثر من 4 أشهر على المواجهة من دون أخذ قصد كافٍ من الراحة، فضلاً عن الإجازات، إذ إنهم تفاجأوا بقدرات صنعاء العسكرية وامتلاكها مخزوناً كبيراً من الصواريخ والمسيرات بخصائص متطورة قادرة على تجاوز المنظومات الدفاعية الأكبر وصولاً إلى أقرب مستوى في المنظومة الدفاعية، كما نقلت صحيفة الفايننشال عن ليزا فرانشتي قائدة البحرية الأميركية.
ومؤخراً، اعترف الأدميرال براد كوبر نائب قائد البحرية الأميركية في “الشرق الأوسط” في مقابلة مع برنامج ستون دقيقة في قناة CBS، بعدد من الحقائق الصادمة، أولها أن القوات الأميركية الموجودة في البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي، تعمل “بوتيرة قتالية غير معهودة منذ الحرب العالمية الثانية”، وأن سفنهم العسكرية “تتعرض لهجوم” لا يملكون أمامه سوى 9 إلى 15 ثانية لاتخاذ قرار الاعتراض لصواريخ قد تصل إلى نحو 3 آلاف ميل في الساعة، وهذا اعتراف بتفوق القدرات العسكرية اليمنية.
أما الحقيقة الثانية التي تؤكّد ورطة حقيقة غير مسبوقة للولايات المتحدة الأميركية وحرب استنزاف مكلفة جداً، فهي اعتراف كوبر بـ”إطلاق البحرية الأميركية نحو 100 صاروخ من صواريخها القياسية أرض – جو، والتي يمكن أن تصل كلفة الصاروخ منها على 4 ملايين دولار” أمام صاروخ أو مسيرة يمنية لا تتجاوز قيمتها آلالاف من الدولارات، ما يعني أنّ الولايات المتحدة أنفقت قرابة نصف مليار دولار كلفة الصواريخ الاعتراضية فقط، فضلاً عن تكلفة الطلعات الجوية وصواريخ التوماهوك التي أطلقت نحو البر اليمني، والنفقات التشغيلية لنحو 7000 مقاتل أميركي، ونفقات الرصد والاستطلاع والأقمار الاصطناعية، والمحصلة صفرية، والنتائج “استهداف سيارة مزارع تحمل أنابيب مياه”، كما أكد السيد عبد الملك بدر الدين في كلمته الأسبوع الماضي، في مقابل استمرار العمليات اليمنية الاستراتيجية، وعلى نحو متصاعد ملموس ومؤثر وفعال قصم ظهر الاقتصاد الإسرائيلي، وامتدت تداعياته إلى واشنطن ولندن، وسجل لليمن باعتراف كوبر نفسه أنه الدولة الأولى في تاريخ العالم التي “استخدمت الصواريخ الباليستية وأطلقتها ضد السفن”.
تحريك ورقة “الإرهاب” لتشتيت قوات صنعاء
بات معروفاً، وباعتراف الأميركيين أنفسهم، من الرئيس السابق دونالد ترامب إلى وزير الخارجية السابقة هيلاري كيلنتون وغيرهما، أنّ “القاعدة” و”داعش” هما صنيعة المخابرات الأميركية، فيما يدرك المراقبون أن هذه التنظيمات الإرهابية بمنزلة الجيش الموازي للجيش الأميركي، وأن واشنطن تحركها متى أرادت، وأنها تختفي متى أرادت، وأنها رهن الطلب الأميركي، من اليمن إلى سوريا، إلى العراق، إلى إيران، وصولاً إلى دول أفريقيا.
في اليمن، اعترفت قيادات القاعدة بمشاركتها ضمن تحالف العدوان الأميركي البريطاني السعودي الأميركي في أكثر من 11 جبهة ضد الجيش اليمني وأنصار الله، وأنتجت كبريات وسائل الإعلام سلسلة من التقارير الميدانية التي تؤكد تلك الحقائق، وأن الولايات المتحدة الأميركية والإمارات والسعودية مكنت هذه التنظيمات من أحدث الأسلحة الأميركية، بما فيها دبابات الإبرامز وعربات البرادلي، فيما كشفت معركة الجيش اليمني عام 2021 ضد القاعدة في البيضاء أن وكالة التنمية الأميركية، “الذراع الاستخباراتية الأميركية”، كانت تمد هذه التنظيمات بصواريخ وقذائف تحت لافطة أنها مساعدات إنسانية، وتنشر ذلك عبر مشاهد في وسائل الإعلام اليمنية الوطنية.
مؤخراً، كشفت الأجهزة الأمنية في وزارة الداخلية اليمنية وجهاز الأمن المخابرات عن إحباط مخطط خبيث برعاية أميركية بريطانية لتحريك التنظيمات الإرهابية انطلاقاً من البيضاء لتنفيذ عمليات اغتيال وتفجيرات في صنعاء وعدد من المحافظات كجزء من استراتيجية التشتيت الأميركية لقوات صنعاء، وكنوع من تخفيف ضغط العمليات البحرية اليمنية في البحر الأحمر والبحر العربي وخليج عدن.
ونقلت وكالة الأنباء الرسمية سبأ عن الأجهزة الأمنية جانباً من تفاصيل العملية الأمنية الاستباقية التي نفذتها فجر الثلاثاء 20 شباط/فبراير 2023 في منطقة الخشعة الواقعة في حنكة آل مسعود في مديرية القريشية في محافظة البيضاء.
العملية أسفرت عن “تطهير المنطقة ومصرع عدد من أخطر العناصر التابعة لما يسمى بـ”تنظيم داعش”، بينهم قيادات، أثناء مقاومتهم للحملة الأمنية”. وبهذا، تمكنت الأجهزة الأمنية من إفشال “عمليات انتحارية” كان الإرهابيون يخططون لها في العاصمة صنعاء وبعض المحافظات”، من دون كشف مزيد من التفاصيل، على أن تكشف خلال الفترة المقبلة.
الخلاصة من هذه العملية أن الولايات الأميركية التي صنفت أنصار الله منظمة “إرهابية”، هي نفسها جذر الإرهاب ومصنعه وجذوره، وهي أم الإرهاب، فخلال طوفان الأقصى، نفذت عبر أذرعها الاستخباراتية “داعش والقاعدة” عملية مزدوجة في كرمان شاه بإيران راح ضحيتها أكثر من 80 شهيداً، ونفذت عمليات في سوريا، وكانت على وشك أن تنفذ عمليات في اليمن، كجزء من عمليات الإسناد الأمنية والعسكرية لكيان العدو الإسرائيلي ونوع من توفير الغطاء الأمني والعسكري لاستمرار جرائم الإبادة والتجويع في غزة.
في الخلاصة، وبناء على ما سبق، ندرك أن القوات المسلحة وأجهزة الأمن اليمنية نجحت نجاحاً مذهلاً في إحراق الأوراق الأميركية العسكرية والأمنية والسياسية، من التجييش واستعراض القوة إلى استخدام القوة، وصولاً إلى التصنيف وتحريك الإرهاب، واستطاعت نقل عمليات الإسناد إلى غزة على في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن وبامتداد بحري يفوق 2000 كيلومتر إلى مستويات أعلى من المواجهة حد الإغراق، وسجلت خلال عمليات طوفان الأقصى أكثر من 47 عملية، برية وبحرية وجوية، على أن الحساب لم يغلق بعد، ولن يغلق ودماء الفلسطينيين تنزف، ودموع الأطفال والنساء تذرف، وهذا التزام أكدته القيادة اليمنية ولا تزال تتمسك به، حتى وقف العدوان وإدخال الماء والغذاء والدواء إلى غزة.
علي ظافـــر
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الولایات المتحدة أنصار الله منظمة البحر الأحمر فی البحر أکثر من
إقرأ أيضاً:
كيف تغيّر شكل القنبلة النووية الأميركية منذ آخر اختبار؟
في خريف 1992، كانت صحراء نيفادا تشهد ختام فصل طويل من التجارب النووية الأميركية، ففي 23 سبتمبر/أيلول من ذلك العام، نفّذت الولايات المتحدة اختبارها النووي الأخير في القرن العشرين، الذي حمل الاسم الرمزي "ديفايدر" (Divider)، ضمن سلسلة تجارب عُرفت باسم "العملية جولين"، تحت إشراف المختبر الوطني في لوس ألاموس.
كان التفجير محدود القدرة، بما يناسب نهاية مسار بدأ قبل نحو نصف قرن، مع تجربة "ترينيتي" (Trinity) عام 1945، التي دشّنت أول تفجير نووي في تاريخ البشرية.
اقرأ أيضا list of 3 itemslist 1 of 3قناع الغرب الذي نعرفه يسقط ووجهه "القبيح" يوشك أن يظهرlist 2 of 3هل ينقلب المسيحيون الإنجيليون في أميركا ضد إسرائيل؟list 3 of 3نايف بن نهار يكتب: هل تحتاج أميركا إلى استقلال ثان؟end of listجاء "ديفايدر" في لحظة انتقالية حساسة، فالحرب الباردة تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ والاتحاد السوفياتي ينهار بعد خمسة عقود من المواجهة الأيديولوجية والعسكرية مع الغرب، والولايات المتحدة تحاول إعادة تعريف دورها بوصفها قوة عظمى في نظامٍ أحادي القطبية، في حين برزت ضغوط داخلية ودولية متزايدة تدعو إلى وقف سباق التسلّح النووي وإعادة النظر في جدوى التفجيرات الميدانية.
وسط هذا التحول، لم يكن الهدف من التجربة استعراض القوة كما في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حين كانت التجارب النووية تُستخدم كعروض للهيبة العسكرية، بل اختبار مكونات فيزيائية متقدمة داخل رأس نووي تكتيكي صغير لضمان موثوقية الترسانة الأميركية.
وبعد أقل من أسبوعين من التفجير، أعلن الرئيس جورج بوش الأب وقفًا مؤقتًا لجميع التجارب النووية مدة تسعة أشهر، بعدما أقرّ الكونغرس الأميركي قانون "إكسون هاتفيلد ميتشل" الذي نصّ على وقف التجارب، مدفوعًا بانتهاء الحرب الباردة وإغلاق موقع الاختبارات السوفياتي في كازاخستان عام 1989، وإعلان موسكو وقفًا أحاديًّا لتجاربها في أكتوبر/تشرين الأول 1991.
وسرعان ما تحوّل هذا التوقف المؤقت إلى قرار دائم مع مجيء إدارة بيل كلينتون، التي تبنّت سياسة "عدم العودة إلى التفجير"، وأطلقت عام 1995 "برنامج الحفاظ على الترسانة" (Stockpile Stewardship Program)، الذي يُعنى بمتابعة سلامة الرؤوس النووية عبر المحاكاة الحاسوبية والتجارب دون الحرجة بدل التفجير الكامل.
إعلاندوافع هذا القرار لم تكن سياسية فحسب، بل أيضًا نتيجة التحوّل العميق في فهم الفيزياء النووية التطبيقية. فبعد أكثر من ألف تجربة نووية منذ عام 1945، كانت الولايات المتحدة قد راكمت كمًّا هائلًا من البيانات حول السلوك الانشطاري والاندماجي للمواد النووية، مما مكّن علماءها من تطوير نماذج حاسوبية عالية الدقة تحاكي ديناميات الانفجار النووي، دون الحاجة إلى تفجير فعلي.
ومع مطلع التسعينيات، أصبح هذا التحوّل أساسًا لبرنامج الحفاظ على الترسانة، الذي انتقلت معه الاختبارات من التفجير تحت الأرض إلى المحاكاة داخل الحاسوب العملاق، حيث تُستخدم النمذجة الفيزيائية والاختبارات دون الحرجة لضمان موثوقية الترسانة النووية من دون أي تفجيرٍ جديد.
ومع مرور الوقت، ترسّخ هذا النهج العلمي بوصفه السياسة النووية الأميركية المعتمدة. فخلال العقود التالية، التزمت 6 إداراتٍ أميركية متعاقبة (بما فيها فترة ترامب الرئاسية الأولى)، بوقف طوعي عن إجراء أي تفجيرات نووية جديدة، مكتفيةً ببرامج المحاكاة الفيزيائية وصيانة الترسانة عبر النماذج الحاسوبية المتقدمة. وقد مثّل هذا الالتزام الطويل إعلانًا غير رسمي بأنّ عصر الاختبارات النووية الأميركية قد انتهى فعليًّا.
لكنّ القرار الأخير للرئيس دونالد ترامب باستئناف التجارب النووية، يُعدّ انكسارًا لهذا الإجماع التاريخي الذي استمر أكثر من ثلاثة عقود، إذ يُعيد إلى الواجهة فكرة التفجير النووي بوصفه أداة سياسية ورسالة ردع، بعد أن ظنّ كثيرون أن الولايات المتحدة قد طوت صفحته إلى الأبد.
لذلك يبرز السؤال: هل ثمة جدوى فنية واقتصادية وسياسية من عودة التفجيرات، أم أن منظومة المحاكاة والتجارب دون الانفجار الحالية كافية لاختبار موثوقية وصلاحية الترسانة رغم تقادمها؟
من صخب نيفادا إلى "صفر العائد"الفترة الممتدة بين أول تفجير نووي في ترينيتي عام 1945 حتى اختبار ديفايدر في 1992، شكّلت ذروة السباق النووي بين القوى العظمى. فخلال تلك الحقبة، أجرَت الولايات المتحدة أكثر من 1,054 تجربة نووية، وكانت صحراء نيفادا وحدها مسرحًا لأكثر من 800 اختبار تحت الأرض. في هذه الاختبارات كانت الشحنات النووية تُنزل في آبار عميقة قد تصل إلى خمسة آلاف قدم، ثم تُغطى بطبقات من المواد العازلة مثل الإيبوكسي لمنع تسرب الإشعاع إلى السطح والمحيط.
على المستوى العلمي، كان الغرض من هذا الكمّ الهائل من التجارب تحسين تصميم الرؤوس الحربية وقياس العائد التفجيري، فضلًا عن فهم تأثير الانفجارات في المنشآت والمعدات العسكرية. لكن الثمن في المقابل كان باهظًا، فبعض مناطق الاختبار مثل جزر مارشال، لا تزال تعاني تبعات تجارب بلغت ذروة قوتها 108 ميغاطنات، وهي قوة هائلة تُقارن بإجراء تفجير يشبه قنبلة هيروشيما يوميًّا لسنوات طويلة.
لكن مع دخول الألفية الجديدة تغيّر النهج، إذ اتّجهت الولايات المتحدة إلى ما يُسمّى التجارب دون انفجار (subcritical experiments)، كبديل عملي وآمن لجمع معلومات حيوية عن سلوك المواد الانشطارية.
في هذه التجارب، يُحاط قلب صغير من البلوتونيوم أو اليورانيوم بشحنة متفجِّرة كيميائية تولّد ضغطًا وحرارةً شديدَيْن، لكن شروط التصميم (من حيث الكتلة والتشكيل وتوقيت التفجير) تُبقي المادة دون الحالة الحرجة التي تقود إلى سلسلة انشطارية مستمرة. بمعنى آخر لا يحدث انفجار نووي. ومع ذلك، فإن الضغوط والنبضات المولِّدة كافية لبثّ إشعاعات مؤقتة (أشعة سينية ونيوترونات)، وإحداث تغييرات فورية في الكثافة والسرعات الداخلية داخل العينة.
إعلانهذه الإشارات والقياسات تُسجَّل بدقة، ثم تُحلَّل لاستخلاص معطيات حول كيفية تصرّف المادة الانشطارية في ظروف قريبة جدًّا من الانفجار. وتُستخدم نتائج هذه التجارب لتغذية نماذج المحاكاة الحاسوبية التي تشكّل العمود الفقري لبرنامج "الحفاظ على الترسانة"، مما يتيح إعادة بناء ديناميكيات الانفجار النووي بدقة عالية، وتقييم موثوقية الرؤوس الحربية القائمة أو إدخال تعديلات على تصاميمها، دون الحاجة إلى تفجير جديد.
وبحسب وزارة الطاقة الأميركية، نفّذت الولايات المتحدة حتى عام 2024 نحو 33 تجربة دون انفجار، جميعها متوافقة مع معيار "صفر العائد". وهي تجارب تهدف إلى جمع بيانات دقيقة حول سلوك المواد الانشطارية (مثل البلوتونيوم واليورانيوم) عند تعرّضها لضغوط وحرارة هائلة قريبة من ظروف الانفجار، من دون الوصول إلى مرحلة التفاعل الانشطاري الكامل أو إنتاج طاقة نووية.
ويشير تقرير وزارة الطاقة الأميركية حول خطة "الحفاظ على الترسانة" لعام 2025، إلى أن الولايات المتحدة تستثمر بكثافة في بناء جيل جديد من المختبرات والمنشآت العلمية، التي تسمح بدراسة مكوّنات السلاح النووي في بيئة واقعية، دون الحاجة إلى تفجيرات حقيقية.
ففي موقع بانتكس بولاية تكساس، يجري بناء مركز علوم وهندسة المتفجرات العالية، وهو مجمّع حديث يهدف إلى اختبار المتفجرات التقليدية المستخدمة في الرؤوس النووية وتطوير مواد أكثر أمانًا وثباتًا.
أما في موقع نيفادا الوطني للأمن النووي، فتتوسّع الأعمال في مشاريع أكثر طموحًا، أبرزها نظام زيوس، وهو منصة تجريبية تحت الأرض تُستخدم لدراسة كيفية تفاعل البلوتونيوم عندما يتعرض لتدفقات مكثفة من الجسيمات النيوترونية. الغاية من هذه التجارب ليست إنتاج طاقة نووية، بل فهم التغيرات التي تطرأ على المادة الانشطارية في بيئة إشعاعية تشبه ما يحدث داخل الانفجار النووي.
وفي الموقع نفسه يجري تحديث مجمع "يو–1 إيه"، الذي أصبح يُعرف اليوم باسم "مختبر النبض الرئيس للتجارب تحت الأرض"، وهو النواة الأساسية للتجارب غير التفجيرية الأميركية. داخل هذا المختبر تُستخدم شحنات كيميائية صغيرة وأجهزة تصوير بالأشعة السينية متعددة النبضات، لتسجيل ما يجري داخل العينة الانشطارية في أجزاء من المليار من الثانية.
كما يشهد الموقع تطوير مشروع سكوربيوس، وهو أحد أكثر أنظمة الأشعة السينية تطورًا في العالم. مما يسمح بمعاينة كيفية تفاعل كميات صغيرة جدًّا من البلوتونيوم عند تعرضها لموجة صدمة ناتجة عن متفجرات تقليدية، حيث تُلتقط سلسلة من الصور بالأشعة السينية في أجزاء من المليار من الثانية، وهو ما يتيح مشاهدة "الانفجار المُصغّر" داخل العيّنة كما لو كان فيلمًا بالحركة البطيئة.
وتهدف هذه التجارب إلى أمرين: فهم آثار الشيخوخة الذرّية على البلوتونيوم، وتوفير بيانات دقيقة يمكن اعتمادها في عمليات التحديث والصيانة المستقبلية للرؤوس النووية.
ويشرح إيفان أوتيرو من مختبر ليفرمور كيف تسمح هذه المنشآت بمراقبة عينات البلوتونيوم التي يبلغ عمرها 80 عاما، موضحًا أن هذه المادة، مع مرور الزمن، تتحلل إشعاعيًّا وتُنتِج ذرات هيليوم صغيرة تظل حبيسة داخل بنيتها المعدنية. ومع تراكمها، يمكن أن تتكوّن فقاعات دقيقة تُضعف الشبكة البلورية للمعدن وتؤثر في سلوكه تحت الضغط، مما ينعكس على أداء السلاح بأكمله.
أول رأس نووي مصمم ببرنامج الحفاظ على الترسانةفي ظل هذا التحول الجذري في منهجية الاختبار، تمكّنت الولايات المتحدة من تطوير وتحديث رؤوسها النووية دون الحاجة لتجارب تفجيرية.
إعلانمن أبرز هذه التحديثات قنبلة "بي 61-12″، وهي نسخة مطوّرة من قنابل الجاذبية التقليدية، أُكمل إنتاجها ودخلت الخدمة بنهاية 2024، وتمتاز بنظام زعنفة موجهة ونظام ملاحة داخلي يرفع من دقتها، مع إمكانية اختيار "العائد التفجيري" ضمن نطاق يتراوح بين عشرات ومئات الكيلوطنات، فضلًا عن إطالة عمرها التشغيلي لعقدين قادمين، مما يعني زيادة الدقة وخفض الضرر غير المقصود، من دون تغيير الخصائص العسكرية الإجمالية للمخزون.
وفي خطوة تكميلية، أُعلن في خريف 2023 عن "بي 61-13″، وهي نسخة تجمع تقنيات التوجيه والسلامة في "بي 61-12" مع عائد تفجيري أعلى يذكّر ببعض نسخ فترة الحرب الباردة، بغرض استخدامه في تدمير المخابئ أو الأهداف المُحصّنة. صُمِّمت هذه النسخة لتحلّ محلّ نماذج أقدم مثل B61-7، بما يمنح المخزون خيارات عائد ومرونة تشغيلية أكبر، مع الاحتفاظ بميزات السلامة والدقّة الحديثة. هذه التغييرات لا تزيد العدد الإجمالي للأسلحة، بل تعيد توازن الأنواع داخل المخزون بحسب المهام المطلوبة(8).
وعلى صعيد الأسلحة الإستراتيجية، يقدّم مشروع "دبليو-93" رأسًا نوويًّا جديدًا كليًّا يُعد الأول منذ الحرب الباردة، إذ يعد الجيل الأول من الرؤوس التي صُممت تصميمًا كاملًا باستخدام أدوات برنامج "الحفاظ على الترسانة النووية". وهو مخصص لمنظومات الغواصات من فئة كولومبيا وصواريخ ترايدنت.
المشروع يُطوَّر في مختبرات لوس ألاموس وسانيديا، ويعتمد في تصميمه على مكوّنات سبق اختبارها أو كانت قيد الاستخدام، مع إدخال تقنيات حديثة تهدف إلى زيادة معايير السلامة والأمن وتسهيل التصنيع والصيانة، بهدف إحلاله رؤوسًا أكثر أمانًا واستقرارًا أثناء التخزين والنقل محلّ رؤوس "دبليو-76″ و"دبليو-88". وتؤكد الجهات المسؤولة أن "دبليو-93" لن يحتاج إلى اختبارات تفجيرية نووية جديدة لاعتماد أدائه.
جدير بالذكر أن الأحرف في أسماء الأسلحة النووية الأميركية تحمل معنى وظيفيًّا، فالحرف "دبليو" (W) يشير إلى رؤوس حربية مصمَّمة لتركيبها على صواريخ، أما الحرف "بي" (B)، فيدل على قنابل مخصصة للإسقاط الجوي، في حين لا تشير الأرقام اللاحقة إلى قوة السلاح بل إلى ترتيب تصميمه. تاريخيًّا، منذ تطوير أول سلاح نووي أميركي عام 1945 دخل إلى المخزون نحو 63 تصميمًا مختلفًا، صمّم مختبر لوس ألاموس 46 منها.
هذا التوجه العام يعكس تحولا عمليًّا في شكل السلاح، فالرؤوس الأميركية صارت أصغر وأكثر دقة وقابلة للضبط، عبر ما يُعرف بـ"هندسة العائد المتغيّر"، التي تتيح اختيار مستوى العائد التفجيري بحسب الهدف. ضمن هذا السياق، ظهرت أيضًا فئة الأسلحة المنخفضة العائد، مثل نسخ "دبليو 76-2″، التي تمنح صانعي القرار خيارات تكتيكية لردع الخصوم من دون اللجوء إلى دمار شامل. وينظر المحلّلون إلى هذه التطوّرات بوصفها دلالة على ثقة متزايدة في قدرات المحاكاة الرقمية والتحليلية لتحديد العائد المطلوب علميًّا بدلاً من اختباره تفجيريًّا.
رغم ذلك، لا يخلو المجتمع العلمي من تحفّظات موضوعية، فهناك سيناريوهات فنية نادرة، خاصةً عند إدخال تصميمات جديدة أو مواد جديدة لم يُرصد سلوكها تاريخيًّا، قد تُفضي إلى ظواهر فيزيائية لم تُختبر مسبقًا، وبالتالي قد تفلت من قدرة المحاكاة على التنبؤ.
بناءً على ذلك، تصبح المحاكاة سببًا في جعل الحاجة إلى تفجيرات واقعية نادرة جدًّا وغير روتينية، لكنها ليست مستحيلة في الحالات القصوى، وهو ما يبرّر موقف المسؤولين الفنيين في الإدارة الوطنية للأمن النووي، الذين يؤكدون إمكانية الحفاظ على الترسانة دون اختبارات تفجيرية، بينما يظلّ بعض الخبراء العسكريين والإستراتيجيين متمسّكين بخيار العودة إلى الاختبار في حالات استثنائية.
من جهة أخرى، تشير تحليلات مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية إلى أن "العودة الفورية" إلى التفجيرات النووية لم تعد ممكنة عمليًّا، إذ إن مواقع الاختبار والمعدات التشخيصية وسلاسل الإمداد فقدت جاهزيتها منذ التسعينيات، واستعادتها تتطلب استثمارات ضخمة ووقتًا طويلًا لإعادة بناء البنية التحتية اللازمة.
وفق ذلك، فإن العودة إلى الاختبارات النووية لن تُحسم بالإرادة السياسية وحدها، بل ترتبط أيضًا بالقدرات التقنية ومدى جاهزية البنية التحتية، إلى جانب اقتناع فنيّ يقول بإمكانية حماية الترسانة وتحديثها دون الحاجة إلى تفجيرات فعلية.
إعلانفي هذا الإطار، يُستعمل الحديث عن استئناف التجارب النووية أحيانًا أداةً داخلية لإظهار الحزم واستعادة صورة "أميركا القوية"، لا بوصفه إجراءً علميًّا ضروريًّا. ويبرز هنا قرار ترامب بوصفه مثالًا واضحًا لما يمكن تسميته بـ"الترامبية النووية"، أي توظيف لغة الردع والتهديد لإرضاء الأنصار والمؤسسات المحافظة التي تعتبر الاختبارات رمزًا للهيبة الوطنية. فالعودة إلى الحديث عن التفجيرات تخاطب العاطفة القومية أكثر مما تستند إلى منطق إستراتيجي، وتعيد إلى الواجهة مشهد الحرب الباردة في الوعي الجماهيري الذي يرى في التفوق النووي تجسيدًا لمكانة الولايات المتحدة وكونها قوة عظمى.
ويشير ريمو ريجينولد، الباحث المتخصص في شؤون الأمن النووي والعلاقات عبر الأطلسي في المعهد السويسري للشؤون العالمية، إلى أنه بحلول الوقت الذي يمكن فيه إجراء مثل هذه الاختبارات، لن يكون ترامب في منصبه على الأرجح. ويرى ريجينولد أن الرئيس الأميركي يحاول صرف الأنظار عن قضايا أخرى أكثر إلحاحًا في السياسة الخارجية، مثل تراجع فعالية ورقته في الصراع التجاري مع الصين، وتقلّص تأثيره في القمم والمنتديات الآسيوية، فضلًا عن فشل واشنطن في تحقيق نتائج ملموسة في أوكرانيا أو التقدّم نحو تسوية حقيقية في الشرق الأوسط.
ويضيف ريجينولد أن إثارة الجدل حول العودة إلى الاختبارات النووية تشبه تمامًا الجدل المصطنع حول إمكانية الترشح لولاية ثالثة، فعندما يُطرح هذا النوع من النقاشات، ينبغي النظر بعناية إلى ما يُراد صرف الأنظار عنه فعليًّا.
غير أن الكلفة الدبلوماسية لمثل هذا القرار تفوق مكاسبه الرمزية، فإظهار رغبة واشنطن في استئناف التجارب يقوّض دورها القيادي في ملفات نزع السلاح وعدم الانتشار. كما سيمنح خصومها (وعلى رأسهم روسيا والصين) مبرّرًا لتوسيع الاختبارات، بما يعيد سباق التسلّح إلى مرحلة ما قبل التسعينيات.
فضلًا عن ذلك، يعكس قرار استئناف الاختبار تنافرًا واضحًا بين الخطاب السياسي والواقع العلمي، فبينما تُثبت العقود الثلاثة الماضية أن المحاكاة والاختبارات دون الحرجة كافية للحفاظ على ترسانة موثوق بها، يفضّل بعض الساسة إحياء رموز القوة القديمة لاستثارة العاطفة الجماهيرية. غير أن اللعب على هذا الوتر لا يهدد فقط مصداقية السياسة النووية الأميركية، بل يُقوّض أيضًا الثقة بالعلم ذاته، إذ يستبدل بالمعرفة الدقيقة خطابا تعبويا يقوم على الخوف والحنين إلى زمن الردع الناري. وفي عالمٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتراجع فيه الثقة بالمؤسسات العلمية، قد تكون أخطر التجارب هي تلك التي تُجرى في وعي الجماهير، لا في أنفاق نيفادا.