أثار عقد مصر والإمارات الجمعة الماضية، صفقة بيع وتنمية مدينة "رأس الحكمة" في الساحل الشمالي الغربي للبلد العربي الأفريقي، بقيمة نهائية إجمالية للمشروع السياحي والفندقي، تصل 150 مليار دولار، الكثير من الجدل.

كما أثارت الصفقة التي وصفها الإعلام المصري بـ"صفقة القرن السياحية"، التساؤلات حول احتمالات نجاح المشروع في ظل التغيرات الجيوسياسية الجارية بإقليم الشرق الأوسط، وأيضا، في ظل ما يثار عن مخاطر مناخية وبيئية واحتمالات غرق الساحل الجنوبي للبحر المتوسط خلال 3 عقود، بفعل ارتفاع درجة حرارة الأرض.



والجمعة، أعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، عن اتفاق مع الإمارات على بيع مدينة "رأس الحكمة"، مقابل 35 مليار دولار تسددها أبوظبي خلال شهرين، بدفعة أولى 15 مليار دولار تسدد بعد أسبوع، ودفعة ثانية 20 مليار دولار تسدد بعد شهرين مع إسقاط ودائع قيمتها 11 مليار دولار مستحقة للإمارات، 5 منها بالدفعة الأولى، و6 بالدفعة الثانية.

 "رأس الحكمة"، محل الاتفاق، تبعد 350 كيلومترا تقريبا شمال غرب القاهرة، ونحو 200 كيلومترا غربي الإسكندرية، وبين مدينتي الضبعة والعلمين الجديدة، وتمتد داخل البحر المتوسط كمنطقة منتجعات سياحية راقية وشواطئ تشتهر بالرمال البيضاء يقصدها الأثرياء، ولملك مصر السابق فاروق، ورؤسائها اللاحقين جمال عبدالناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك، حضور بها.

 ووفقا للاتفاقية، استحوذ صندوق الاستثمار السيادي في أبوظبي، (إيه.دي.كيو)، على مساحة نحو 40.600 فدان، (170 مليون متر مربع) بالمدينة، لبناء مناطق استثمارية ومواقع سكنية وتجارية ومشروعات سياحية وترفيهية، قد تدر في النهاية بـ 150 مليار دولار، فيما سيكون للدولة المصرية 35 بالمئة من أرباح المشروع، وللإمارات 65 بالمئة.

مدبولي، الذي وصف الاتفاق بأنه "أكبر صفقة استثمارية بتاريخ مصر"،  قال: "من شأنه وضع مصر على خريطة السياحة العالمية وضمان السياحة كمصدر مستدام للعملة الأجنبية".

وبين أن المدينة ستتضمن أحياءا سكنية راقية، وفنادق عالمية، ومشروعات ترفيهية، ومنتجعات سياحية، ومنطقة حرة خدمية، وحيا مركزيا للمال والأعمال، وبجانب إقامة مطار دولي، سيتم تدشين مدينة دولية كبيرة للسفن واليخوت السياحية.


"المخاطر البيئية والمناخية"
لكن تبرز مع "المشروع العملاق" وفق وصف الإعلام المصري، بعض المخاطر البيئية والمناخية على الاستثمار السياحي في الساحل الشمالي الغربي لمصر، خاصة مع ما يثار عن احتمالات غرق الشواطئ والسواحل الجنوبية للبحر المتوسط وبينها المصرية، بفعل الاحترار العالمي، وذوبان جليد القطب الشمالي.

ووفقا لأسوأ توقعات المنظمة العالمية للأرصاد الجوية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة يُتوقع أن يرتفع مستوى البحر المتوسط مترا واحدا خلال الـ30 عاما المقبلة، وأن مستوى البحر المتوسط سيرتفع أسرع من أي مكان آخر بالعالم.

وهي المخاوف التي قلل من تأثيرها الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالنبي عبدالمطلب، قائلا لـ"عربي21": "تلك المخاوف تحتاج لمراجعة؛ فمنذ سنوات نسمع عن تخوفات من ابتلاع البحر لمدينة الإسكندرية، والتهام دلتا مصر ككل"، مبينا أنه "ورغم أهمية أخذ هذه التحذيرات بالحسبان، أعتقد أن تنمية المناطق الساحلية قد يحميها من النحر والتآكل".

من جانبه يرى الخبير الاقتصادي والاستراتيجي الدكتور علاء السيد، أن "المخاطر البيئية والمناخية وتآكل الشواطئ لن توقف السعي لاستثمار تلك الشواطئ أو التنازل عنها أو بيعها لشركات ودول صديقة وحليفة للكيان المحتل أو لحسابه بشكل التفافي".

وأضاف لـ"عربي21": "أرى أن المقابل مهما أثر إيجابيا بصورة مرحلية على سعر الدولار الأمريكي مقابل الجنيه أو تم استخدامه لسداد جزء من الديون أو وفر بعض الفرص الوظيفية أو تسبب في تحريك المياه الراكدة في بركة الاقتصاد المصري الآسنة فإن هذا لا يوازي المخاطر التي يمكن أن تحدق بالأمن القومي المصري".

وحذر "من استمرار التنازل عن أصول مصر وأراضيها وجزرها وآثارها ومواردها الطبيعية وموانئها وشركاتها بهذه الصورة الاستفزازية المتواصلة، دون اعتبار لحقوق الشعب، وبالمخالفة للدستور وللقانون، ودون أدنى تقييم لمخاطر الأمن القومي والمخاطر الاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية المتوقعة".


"الإضرار بالعلمين"
كما أنه ومع الإعلان عن تدشين المشروع السياحي العملاق في "رأس الحكمة" بما ستضخه الإمارات من مليارات الدولارات، يتخوف البعض على مستقبل مدينة "العلمين الجديدة"، خاصة مع ما أنفقته الدولة المصرية من مليارات الدولارات لبناء المدينة القائمة غرب "رأس الحكمة"، كمدينة فندقية وسياحية لجذب أثرياء مصر والعالم العربي.

و"العلمين الجديدة"، و"رأس الحكمة"، يقعان بمحافظة مطروح، ووضع رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، حجر الأساس لها في آذار/ مارس 2018، تحت إشراف الجيش المصري، وتصل مساحتها نحو 48 ألف فدان، تنقسم لشريحة سياحية استثمارية على ساحل البحر المتوسط، وشريحة تاريخية وأثرية تتمثل بمقابر العلمين.

وفي 3 تموز/ يوليو 2019، أُعلن أن المرحلة الأولى بمساحة 24 ألف فدان، بتكلفة استثمارية تبلغ 75 مليار جنيه، فيما أكد  وزير الإسكان عاصم الجزار، إنفاق 65 مليار جنيه حتى نهاية 2021، على المدينة، فيما يبلغ إجمالي مساحة الفنادق 296 فدانا، بعدد غرف فندقية 15.500 غرفة.

وفي تعليقه على هذه النقطة يعتقد عبدالمطلب، أنه "لا تنافس بين (رأس الحكمة)، (والعلمين الجديدة)، فكل استثمار جديد يزيد من الدخل القومى هو استثمار جيد؛ لكن تبقى كل الأمور مرهونة بمدى كفاءة إدارة هذه المشروعات".

وأكد أن "تنمية الساحل الشمالى الغربى تحتاج تنمية عمرانية شاملة، وليس تنمية سياحية فقط"، مبينا أن "(جائحة كورونا) أثبتت أن فخامة المباني وروعة المناظر قد لا يكفيان للجذب السياحي".

ولا يتوقع السيد، أن "تؤثر المشروعات التي ستقيمها الإمارات وقطر بعدها ثم السعودية ودولة الاحتلال الإسرائيلي بعد ذلك، على المشروعات القائمة سواء في العلمين أو شرم الشيخ أو العاصمة الجديدة، بل أتوقع أن تباع هذه المدن تباعا أو بمعنى أدق يتم التنازل عنها للدول والجهات الدائنة لمصر، بدلا عن سداد أقساط الديون وخدمة الدين الخارجي".

"منافسة جنوب أوروبا"
ومع الاحتفاء الرسمي والإعلامي الكبير بمشروع "رأس الحكمة"، يجدر الحديث عن مدى قدرة المدينة الجديدة على منافسة المدن السياحية جنوب أوروبا وسواحل شمال البحر المتوسط، في تركيا وقبرص واليونان وفرنسا وأسبانيا، وكذلك دولة المغرب.

وبالإضافة إلى المدن الشهيرة مثل برشلونة بإسبانيا، ونابولي بإيطاليا، ومرسيليا بفرنسا، وإسطنبول بتركيا؛ هناك سواحل "الريفييرا" الفرنسية، و"كوستا ديل سول" بإسبانيا، و"أمالفي" بإيطاليا، بجانب جزر اليونان ببحر "إيجه".

وهنا قال عبدالمطلب، إن "منافسة (رأس الحكمة) لسواحل ومدن جنوب أوروبا يتوقف على نوع الخدمات التي يتقديمها المدينة ومشروعاتها السياحية، وأيضا يتوقف على السائح المستهدف"، مضيفا: "سواحل أوروبا لها خصوصيتها وعشاقها؛ لكن الساحل المصري قد يجذب السائح الخليجي على وجه التحديد".

ولا يتصور السيد، أن "هناك منافس بالعالم لشواطىء مصر وإمكانياتها السياحية المبهرة، المدعومة بالمناخ المعتدل، والعمالة الودودة، والتي ستصبح يوما ما معارة للعمل بأراضي داخل مصر لم تعد ملكا لشعبها والتي ستصبح بعد مسلسل التنازلات خارجة عن سيطرة الدولة بالكلية، وتحت وصاية وحماية وإدارة دول على رأسها الكيان المحتل نفسه".


"تأثر شرم الشيخ"
كذلك تثار المخاوف بشأن احتمالات تأثير مشروع "رأس الحكمة"، وما يجري من مشروعات سياحية أخرى في الساحل الشمالي المصري على مستقبل مدينة "شرم الشيخ" الواقعة بين خليجي العقبة والسويس على البحر الأحمر ، وذائعة الصيت عالميا، وتأثر الاستثمار السياحي الهائل الذي أنفقته مصر على المدينة وما حولها من إنشاءات وبنية تحتية في عهد حسني مبارك، وحتى في عهد السيسي.

وهنا يتوقع عبدالمطلب، أن "يكون الهدف من تنمية السواحل الشمالية الغربية لمصر هدفه البعد عن منافسة مدينة (نيوم)، التي تبنيها السعودية على الساحل الشرقي لخليج العقبة"، مضيفا: "ورغم ذلك فمنطقة شرم الشيخ، والبحر الأحمر، وسياحة المنتجعات، والغوص، والشواطئ، تختلف طبيعتها عن شواطئ مرسى مطروح والساحل الشمالي".

ووافقه السيد بالقول: "تختلف الأنشطة السياحية بالبحر الأحمر عن ساحل البحر المتوسط، ولكل منهما خصوصيته وعشاقه"، مستدركا: "لكن المؤلم أن كل أصل، ومبنى، وساحل، ومدينة، وأرض، وجزيرة، وبحيرة، وحقل، ومنجم، ومصنع، وشركة بمصر معروضة بمعرض السلع المخفضة، سدادا للدين، وجلبا للعملة الصعبة، واستقطابا لكل طامع بمصر وموقعها الاستراتيجي، وسوقها، وجيوب شعبها، وسواعد أبنائه".

"لماذا الاقتصاد الريعي فقط؟"
وفي السياق، وجه العديد من الخبراء والمحللين إصرار مصر وشركائها الخليجيين على الاستثمار في القطاع السياحي فقط رغم أنه اقتصاد ريعي، ولا تسعى للاستثمار الإنتاجي عبر استصلاح الأراضي وزراعتها وإنشاء المصانع ودعم القائمة منها.

ووفق حديث رئيس الوزراء، الجمعة الماضية، خلال الإعلان عن مشروع رأس الحكمة، قال إن "مخطط التنمية العمرانية حدد مجموعة من المدن والتجمعات بساحل البحرين الأحمر والمتوسط، والتي من شأنها أن تكون تكرارا لمثل هذه النوعية من المشروعات.


وفي رؤية عبد المطلب، لأسباب إصرار الخليجيون على المشروعات السياحية، أنه "قد يكون ذلك لخبرتهم ونجاحاتهم بهذا المجال"، مضيفا: "لاشك أن نجاح تجاربهم بدبي شجعهم على إعادة التجربة بمدن وبلاد أخرى".

لكن السيد، قال إن "مصر ودول الخليج تعتبر مجرد أرفف بسوبر ماركت كبير تُعرض فيه منتجات الغرب والشرق، وطالما فقدت الشعوب إرادتها وتم استعبادها ورضخت لعصا الراعي الدولي فلن تمتلك قرارها، ولن تنتج غذائها، ولا دوائها، ولا سلاحها، ولن تحكم نفسها، ولن تكون لها قيادات ولا جيوش وطنية، وستظل مجرد مناطق تابعة وخاضعة ومستعبدة للسادة البيض والصفر وكل من طغى وتكبر".

وختم مؤكدا أن "الاقتصاد القوي لا يكون إلا بدولة قوية يحكمها قادة وطنيون لصالح شعوب حرة واعية تعرف قدر نفسها وتفخر بدينها وهويتها وتاريخها وثقافتها".


"أوضاع الإقليم"
كما أنه من اللافت أيضا، الحديث عن مخاطر تطوير مدينة "رأس الحكمة"، وطرد سكانها الأصليين منها، وإنفاق مليارات الدولارات، في ظل التطورات الدولية والأوضاع الجيوسياسية بإقليم الشرق الأوسط الذي لا يخلو من الصراعات، والتساؤل: هل هذا الوضع يسمح بانتعاش المشروعات السياحية واستمرارها وعدم تعرضها للخسارة والغلق مستقبلا.

وبالقرب من رأس الحكمة، وعلى الحدود الغربية لمصر يدور الصراع الليبي الليبي، منذ العام 2014، والذي تورطت فيه مصر عدة سنوات بدعم أحد أطرافه "خليفة حفتر"، بمواجهة حكومة طرابلس المعترف بها دوليا.

كما أن حرب الإبادة الدموية الإسرائيلية الجارية على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وتسببت في سقوط نحو 30 ألف ضحية، جمدت إلى حد كبير قطاع السياحة المصري، وأصابته بالشلل، خاصة مع تصاعد المواجهة بين جماعة الحوثي في اليمن الداعمة للمقاومة الفسطينية، والتحالف الدولي بقيادة أمريكا، جنوب البحر الأحمر.

وتوقعت "وكالة فيتش"، أن يؤدي الصراع في غزة وتعطيل الحوثيين لحركة المرور بقناة السويس بهبوط عائدات السياحة المصرية بالعام المالي الجاري لتبلغ 12.7 مليار دولار، مقابل 13.6 مليار دولار العام الماضي.

وفي تعليقه على هذا الجانب، قال عبدالمطلب: "قد تكون هذه المشروعات حافزا للوصول إلى شكل من أشكال التسوية والاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط؛ وهناك الكثير من المؤشرات والبيانات التي تتحدث عن غاز شرق المتوسط، واحتمالات ظهور الغاز والنفط بصحراء مصر الغربية، وقد يكون هدف المشروعات السياحية بالمنطقة تشجيع شركات التنقيب".

وقال السيد: "يُتوقع دخول الاقتصاد العالمي ومنه مصر بدورة ركود وكساد لسنوات قادمة، تنهار فيها أسعار الأصول والأراضي والشركات والعملة، وسيكون ذلك مناسبا للسيطرة على كل شبر يمكن أخذه من النظام الحالي وفاء لحجم الديون الهائلة التي ورط فيها مصر وشعبها".

وأضاف: "كذلك فإن بناء مشروعات جديدة على الأراضي والأصول والمدن والشواطئ والجزر المنهوبة يحتاج سنوات يتوقع أن ينتعش بعدها الاقتصاد العالمي، ليتم إعادة بيعها لقوى متربصة بمصر ومتعطشة لامتلاكها بأي ثمن كسلعة تشترى دون إراقة دم أو إطلاق رصاصة".

وفي رؤيته، قال الباحث المصري في العلاقات الدولية خالد فؤاد، إن "الصفقات الضخمة التي يُضخ بها مليارات الدولارات من غير المناسب النظر إليها بنظرة اقتصادية فقط، فلها أكثر من زاوية خاصة الجانب الجيوسياسي".

وفي حديثه لـ"عربي21"، أوضح أن "هذه النقطة تقول أن مصر مازالت على مدى عقد تعتمد بشكل كبير على شركائها الخليجيين السعودية والإمارات، وهذا يؤدي لتآكل نفوذها الإقليمي ويجعل هذا الاعتماد المتزايد على الرياض وأبوظبي للأسف مواقف مصر وخياراتها دائما مرتبطة بخيارات شركائها الخليجيين، وهذا سياسيا يقلل من قدرة الدولة على انتهاج سياسة مستقلة عنهم".

وأكد أن "أثر  هذا النوع من الصفقات والاعتماد العميق على أموال وودائع بالمليارات وصفقات ضخمة له شواهد وانعكاسات واضحة على ملفات حساسة لها صلة وتأثير بالأمن القومي، مثلما يحدث بالسودان وليبيا والصومال وإثيوبيا، فنجد الدور المصري متراجع في مقابل تزايد دور الإمارات بتلك المناطق وقوى إقليمية ودولية أخرى، لها دور كبير بالملفات الحساسة لمصر".


المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية مصر السيسي مصر السيسي محمد بن زايد راس الحكمة المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ملیارات الدولارات المخاطر البیئیة العلمین الجدیدة الساحل الشمالی البحر المتوسط البحر الأحمر ملیار دولار رأس الحکمة شرم الشیخ

إقرأ أيضاً:

د.الدرديري محمد احمد: ملحمة الصمود .. الهدية التي قدّمتها لنا الإمارات وهي لا تدري!!

قرأت مقالا رائعا للدكتور كرار التهامي استعرض فيه صمود لندن تحت قنابل القصف النازي في الحرب العالمية الثانية. وهي قصة جديرة بالوقوف عندها واستخلاص العبر منها.
وقد عرِفت البشرية قصص الصمود الاسطوري منذ امد بعيد. ومن أشهر ذلك صمود مدينة صور اللبنانية عام ٣٣٢ م في وجه الاسكندر الأكبر لمدة سبعة أشهر مستخدمة تحصيناتها البحرية ولاتزال تلك القصة حية في وجدان أهل غزة.
وبالرغم من ان ملاحم الصمود تشبه بعضها في الكثير من الملامح، الا انه لكل منها شخصيتها المتميزة التي تجعلها تتفرد بجانب ما .. لذا رأيت أن اضيف في هذا المقال ثلاث قصص لقصة لندن هي :
_معركة استالينغراد،
_وحصار سراييفو،
_ثم حصار غزة الراهن
مستعرضا ما ميز كل ملحمة من هذه الملاحم.
وفي الختام يشير المقال للفرصة النادرة التي تأتَّت بسبب الاستهداف الإماراتي لتحويل معركة الكرامة الى ملحمة اسطورية من الصمود والبأس.
■ تعتبر معركة استالينغراد احدى أعنف المعارك في التاريخ البشري .. ففي صيف 1942، أطلق الزعيم النازي أدولف هتلر حملة هجومية كبرى نحو الجنوب الشرقي للاتحاد السوفيتي، بهدف الاستيلاء على حقول النفط في القوقاز.
لكن في طريقه إلى هناك، كانت تقف مدينة استالينغراد (فولغوغراد اليوم) عائقاً رمزياً واستراتيجياً.
لم تكن المدينة مجرد هدف عسكري، فهي كانت تحمل اسم الزعيم السوفيتي “ستالين” ولذلك تحولت إلى رمز لصراع الارادة بين هتلر وستالين.
قرر هتلر أن يسحق المدينة بأي ثمن، بينما أصدر ستالين أوامره الشهيرة: “لا خطوة إلى الوراء” !
استهلت المعركة، التي بدأت في أغسطس 1942 واستمرت حتى فبراير 1943، بقصف جوي عنيف دمّر المدينة بأكملها وحوّلها إلى ركام.
لكن بين الأنقاض، تحصّن الجنود والمدنيون السوفييت كل شارع، كل غرفة، وكل قبو أصبح ميدان معركة .. فكان القتال وجهاً لوجه ..
ولعب القناصة دوراً محورياً وكان أشهرهم القناص السوفيتي فاسيلي زايتسيف، الذي أصبح أسطورة تروى.
لم يغادر المدنيون المدينة بل شاركوا في القتال وعملوا في المصانع الحربية رغم القصف، وصمدوا في الشتاء دون مأوي في درجات حرارة وصلت إلى 30 درجة مئوية تحت الصفر.
في نوفمبر 1942، نفذ الجيش الأحمر عملية “أورانوس” التي طوق بها الجيش السادس الألماني فأصبح أكثر من 300,000 جندي ألماني محاصرين وسط الشتاء القاسي، دون مؤن أو إمدادات. وبالرغم من أن هتلر أمرهم “بالصمود حتى الموت”، إلا أن الجوع والبرد والقصف أنهكهم.
وفي 2 فبراير 1943، استسلم قائدهم باولوس، رغم ترقيته إلى رتبة مشير لمحاولة منعه من ذلك. فأصبح أول مارشال ألماني يُؤسر حيًّا.
تشير تقديرات الضحايا الى انه سقط أكثر من مليوني شخص من الجانبين بين قتيل وجريح وأسير ..
وفي النهاية انتصرت استالينغراد في وجه التفوق العسكري النازي، وبدأ بعدها الجيش الألماني بالتقهقر لأول مرة.
ما يجعل صمود استالينغراد مميزا ليس فقط تحقيق النصر المستحيل، بل الطريقة التي تحقق بها. فالمدنيون قاتلوا جنباً إلى جنب مع الجنود. ولم يتراجع أحد رغم الجوع والبرد والقصف المتواصل.
كما تميز صمود استالينغراد بالإرادة الجماعية التي جعلت من مدينة مدمّرة قلعة حية للمقاومة. أصبحت استالينغراد درساً في أن الحرب لا تُحسم فقط بالسلاح، بل بالصبر والعقيدة.
اسقطت استالينغراد خرافة التفوق النازي، وفيها أثبت الإنسان انه قادر – رغم الضعف والدمار – على تحدي أقوى الآلات العسكرية، حين يمتلك الإيمان بالأرض والحق والكرامة.
وإذا كان انتصار استالينغراد قد تحقق بسبب توقف كل اوجه الحياة الاخرى فان انتصار سراييفو – الذي نتناوبه ادناه – قد تأتى رغم الاصرار على ان تستمر الحياة.
■ في عام 1992، أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عن يوغوسلافيا مما أشعل غضب القوميين الصرب الذين سعوا لضم أراضيها إلى “صربيا الكبرى”.
وفي 5 أبريل من العام نفسه بدأت القوات الصربية فرض حصار شامل على سراييفو استمر لمدة 1,425 يوماً، وهو أطول حصار في التاريخ الحديث.
طُوِّقت سراييفو من جميع الجهات واتخذت القوات الصربية مواقعها على المرتفعات التي تحيط بالمدينة، لتحكم السيطرة عليها تماما بكثافة النيران.
كانت القذائف تمطر شوارع سراييفو يومياً بمعدل وصل احيانا إلى أكثر من 3,700 قذيفة.
إلى جانب القصف، نُصِب القناصة على أسطح المباني يحصدون أرواح المدنيين العُزّل عندما يخرجون من بيوتهم لجلب الماء والغذاء والدواء. وباتت شوارع مثل “شارع القناص” رمزاً للرعب المستمر.
ومع مرور الأيام وانقطاع الكهرباء والماء والغاز تحول البقاء على قيد الحياة إلى معركة يومية.
استخرج الناس الماء من الآبار القديمة، وجمعوا الحطب من أنقاض المنازل، واقتاتوا على الأعشاب، بل حتى لحاء الأشجار.
راح ضحية الحصار حوالي 11,000 مدني. جُرح عشرات الآلاف، وتعرض الآلاف لإعاقات دائمة. كانت المرافق الحيوية من مستشفيات ومدارس وأسواق هدفاً للقصف المتكرر، في خرق فاضح للقوانين الدولية والمواثيق الإنسانية.
لم تستسلم سراييفو قط للصرب رغم حصارهم القاسي. لكن ما ميز حصار سراييفو وجعل منه ملحمة خالدة ليس الصمود على عظمته وانما ان سراييفو رفضت الموت البطيء.
ففي قلب المأساة لم تتوقف الحياة الثقافية .. اذ قاوم السكان ببرنامج “إحياء الثقافة في وجه القذائف” .. حيث
أُقيمت حفلات موسيقية،
وعُرضت مسرحيات،
واحتُفل بالمهرجانات السينمائية، في الأقبية وتحت القصف.
وقاوموا باستمرار المدارس تحت الأرض .. اذ تابع الأطفال تعليمهم في الملاجئ، متحَدّين الموت بقوة العلم.
وقاوموا بأن حفروا نفق الأمل، الذي هو نفق سري بطول 800 متر تحت المطار، لربط المدينة بالعالم الخارجي .. وكان شريان حياة لنقل الغذاء والسلاح والمصابين.
وقاوموا بأن أقاموا شبكات التكافل ..
فتعاون السكان في تبادل الحاجات، وتقاسموا لقيمات العيش والماء وحطب الوقود.
والأهم من ذلك كله كان برنامج “إيمان لا يُقصف”. اذ تمسّك الناس بإقامة الصلوات الخمس في وقتها في جماعة – رجالا ونساء – وبالتزام دعاء النوازل؛ القنوت .. وهكذا أصبحت العبادة شكلاً من أشكال المقاومة ..
رغم فظاعة ما جرى في سراييفو وقفت المنظمات الدولية عاجزة وتُركت سراييفو وحدها .. بل فشلت قوات الأمم المتحدة في حمايتها.
لكن الصمود الاسطوري لم يكن لينتظر المجتمع الدولي وما يتفضل به، فاستمر حتى انتصرت سراييفو بتوقيع اتفاقية “دايتون” للسلام أواخر 1995. واضطر الصرب لرفع الحصار.
■ اما ملحمة تحدي الموت والدمار في غزة فهي الأسطورة التي لا تزال تتخلق .. ولا نحتاج لكثير قول في بيان هذا الصمود المعجز. فمنذ عام 2007 يعيش قطاع غزة تحت حصار خانق فرضته إسرائيل، بأن جعلت من القطاع “سجن مفتوح” لأكثر من 2.3 مليون نسمة. وقد أدى الحصار إلى تدهور الأوضاع الإنسانية والاقتصادية بشكل حاد، حيث ارتفعت معدلات الفقر والبطالة، وانهارت البنية التحتية، وتدهورت الخدمات الأساسية.
في 7 أكتوبر 2023، شنت إسرائيل عدوانًا واسع النطاق على غزة، لا يزال مستمرا. أسفر ذلك العدوان عن استشهاد ما لايقل عن 50ألف فلسطينيًا بينهم 30 ألف طفل وامرأة، وإصابة أكثر من 100,000 آخرين.
كما أدى إلى تسوية 70% من منازل غزة بالأرض.
فتهجر أكثر من 85% من سكان القطاع، أي ما يزيد على 1.93 مليون مواطن، بعد ان دُمرت منازلهم ولم يعد لهم مكان يعودون اليه.
رغم هذا الدمار الهائل والمعاناة المستمرة، صمد سكان غزة صمودًا أسطوريًا في وجه العدوان فهم يصرون على البقاء في غزة مهما كلفهم ذلك ومهما كان البقاء فيها جحيما.
واستمروا في حياتهم اليومية، ويعملون ما في وسعهم لبناء ما دمر ..
ولا يزالون يتمسّكون بالأمل في مستقبل أفضل ان لم يكن لهم فللجيل القادم.
وهكذا جعلوا ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل اختبار لضمير العالم .. خاصة في ظل استمرار الصمت الدولي والتقاعس عن اتخاذ إجراءات حاسمة لوقف العدوان ورفع الحصار.
وتظل غزة، رغم الجراح، شامخة، تروي للعالم قصة شعب لا يعرف الانكسار.
وقديما قال محمود درويش في قصيدته بطاقة هوية التي تحوّلت إلى شعار للكرامة الفلسطينية:
“سجّل! أنا عربي …
ورقم بطاقتي خمسون ألف وأطفالي ثمانية …. وتاسعهم… سيأتي بعد صيف”.
وقال سميح القاسم في قصيدة ارهابي:
“تقدّموا … تقدّموا …
كل سماء فوقكم جهنمُ …
وكل أرض تحتكم جهنمُ … تقدّموا”!
وقد اوصاهم أمل دنقل من مصر:
“لا تُصالِح !
ولو منحوك الذهب …
أترى حين أفقأ عينيك …
ثم أثبت جوهرتين مكانهما…
هل ترى؟
هي أشياء لا تُشترى”!
وهي مجرد قصيدة ..
لكنها صارت مرجعًا أخلاقيًا للثبات على المبادئ. هذه نماذج من الصمود الأسطوري في عالمنا المعاصر.
????فماذا نستفيد منها في التصدي للعدوان الإماراتي!
انني لا اقول ان الامارات قادرة على ان تُطبِق على بورتسودان وتدير فيها معركة في ضراوة معركة استالينغراد.
فالنازي ما كان يقاتل من وراء جدر، فيرمي بالمسيرات من وراء الاف الكيلومترات. وانما يلتحم التحاماً، رجلا لرجل.
ولن تجترئ الامارات على ذلك .. فقد آتى ربنا فرعونها وملأه زينة واموالا في الحياة الدنيا ليضلّوا عن سبيله .. لكنه لم يؤتهم خيلا ورجِلا.
ولا هي بقادرة على ان تُحكِم علينا حصارا كحصار سراييفو ..
ولا هي بقادرة على ان تدك بورتسودان – بله السودان – كما دكت اسرائيل غزة.
لكنها اهدتنا احساسا جديدا وروحا جديدة
انه إحساس الملحمة
وإنها روح التحدي..
ولطالما افتقدنا ذلك الاحساس وتلك الروح.
الآن عندما تلبسناهما سارعنا لقطع العلاقات مع الامارات..
تصوروا اننا لم نقدم على ذلك والامارات تفعل بنا كل ما فعلت دعما للمليشيا، وما كان ذلك الا لأنه لم يواتينا ذلك الاحساس ولم توافينا تلك الروح.
بل حتى ونحن نقاضي الامارات وننسب لها أكبر جريمة عرفتها البشرية لم نقطع معها العلاقات .. ومن ثم فقطع العلاقات هو أول الغيث.
بل زالت منا غشاوة كانت تُعشي ابصارنا..
فنحن ندرك الآن ان معركة الامارات ليست مع الحركة الاسلامية كما تقول الأبواق.. وهي ليست مع جيش يسيطر عليه الاسلاميون
وانما هي معركة تستهدف كرامة السودان وقراره المستقل وسيادته الوطنية.
اذ لن يشفي غليل الأمارات ان يستقيل البرهان … وان استقال ومعه ألف من قيادات الجيش.
ولن يرضيها ان يُعدم كرتي .. ولو أعدم ومعه من معه من قيادات الاسلاميين.
وانما هي تود التحكم في قرار السودان وذهبه وموارده وارضه وبحره.
فبعد ان انهزمت المليشيا واعوانها عسكريا – ودُكت قاعدتها الخلفية في نيالا دكاً دكا – فان الامارات تسعى اليوم لفرض ازلامها علينا بذراعها الطويلة. ومن ثم علم السودانيون ان الهدف هو السودان وليس “الكيزان”.
ها هي الخديعة قد انكشفت … وما عادت لتنطلي على أحد … فماذا نصنع!
لا أود ان أقف واعظا بشأن ما ينبغي فعله بعد ان بعث اعتداء الامارات هذه الروح الجديدة.
لكنه صار واضحا اننا اليوم لم نعد نأبه للأمارات او لما تحب او تكره.
ولم نعد ننتظر من المجتمع الدولي – ان كان لا يزال هناك كائن بهذا المسمى – أي دور يكف به اذى الامارات عنا.
إذا كان ذلك كذلك
فما بالنا ننتظر!
بل مَن ننتظر!
لماذا لا نعلن تعيين رئيس وزراء أصيل ليشكل حكومة حرب او طوارئ تدير هذه الفترة!
ولماذا لا نعلن انتقال حكومتنا للخرطوم فتباشر سلطتها من هناك مهما كانت ظروف الخرطوم ومخاطرها.
ولماذا لا نعلن حالة الطوارئ ونعطي الحكومة سلطات الطوارئ.
ولماذا لا نَجمع كافة القوى السياسية في هذا الظرف الدقيق في صعيد واحد فيتجاوزون المسميات القديمة والاحزاب والكيانات وينشئون تحالف الكرامة من كل الذين اصطفوا وراء الجيش. ولماذا لا نقطع اجلا قريبا للانتخابات، عامان او ثلاثة، فنجريها ولا نبالي.
ولماذا لا نجعل لقضائنا دوائر ناجزة تحاكم من يخونون الوطن او يخالفون القانون فتصدر احكاما تعيد الثقة في القانون وسلطانه.
ولماذا لا نعلن التعبئة العامة فننشئ كتائب الاحتياط تحت راية الجيش بعشرات وربما مئات الالاف من المجندين، فيأمن الناس في بيوتهم وشوارعهم واحيائهم ومدنهم وقراهم …
ضربتها الامارات او لم تضربها، استهدفتها المليشيا او عجزت عن ان تطالها.
ولماذا لا نعلن فتح ابواب جامعاتنا ومدارسنا ومصانعنا ومصارفنا ومزارعنا ومتاجرنا في كل مكان.
فنُطبِّع الحياة ونحرك الاقتصاد. ولماذا لا نعيد للحياة صُحُفنا، ورقية وإلكترونية، واذاعاتنا وقنواتنا فنقلل من تسقّط الاخبار من الواتساب والفيسبوك ونحد من قدرة الآخرين على تشكيل الرأي العام لدينا.
ولماذا لا تكون لدُعاتِنا ندوات ولقاءات، ولمُقرئينا ليالي للقيام والدعاء والتضرع.
ولماذا لا تنشط كرة القدم ودورياتها ومبارياتها
ولماذا لا تكون لشعرائنا ليالي ولمطربينا حفلات ولرسامينا معارض …
كل هذا تحت القصف ورغما عنه.. ولماذا، ولماذا، ولماذا! هذه هي روح ما بعد الضربة الاماراتية.. روح ملحمة الصمود.
وهذه هي الهدية التي قدمتها لنا الامارات وهي لا تدر، بل ان فَعلنا، يكون هذا هو الرد الأبلغ على الامارات !

د.الدرديري محمد احمد

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • «تمكين الحياة واحتضان التقدم».. الإسكندرية تحتفل باليوم العالمي لأنيميا البحر المتوسط
  • الحرية المصري: زيارة الرئيس لليونان تضع البلدين في موقع متقدم ضمن تحالفات شرق المتوسط
  • الحرية المصري: زيارة الرئيس لليونان تعزز حضور مصر في معادلة المتوسط
  • د.الدرديري محمد احمد: ملحمة الصمود .. الهدية التي قدّمتها لنا الإمارات وهي لا تدري!!
  • بعد فشل كل المسارات التي اتبعها السودان، يكون قطع العلاقات هو بداية للحل
  • الإمارات تؤكد التزامها بتعزيز جهود الحد من المخاطر
  • تفاصيل لقاء رئيس جامعة أسيوط مع رئيس جمعية البحر الأبيض المتوسط لجراحات أورام المسالك البولية
  • قرقاش: الإعلان عن «عالم ديزني» في جزيرة ياس يعزز جاذبية الإمارات السياحية
  • ورشة بأبوظبي حول «دور الأعشاب البحرية في استدامة النظم البيئية»
  • بسمة وهبة تكشف أهمية وقيمة وقوة التحالف الثنائي بين مصر واليونان