ابتهج الإسرائيليون لإنقاذ رهينتين -كانت حماس تحتجزهما في غزة منذ السابع من أكتوبر- الشهر الماضي في غارة جريئة شنها الجيش الإسرائيلي. لم تنجم البهجة فقط عن رؤية الرهينتين على قيد الحياة بين أحضان أسرتيهما. ولكن الإنقاذ ذكّر الكثيرين بعملية إنقاذ الرهائن المذهلة التي قامت بها إسرائيل في عنتيبي بأوغندا عام 1976، عندما تم إطلاق سراح أكثر من مائة رهينة من طائرة اختطفها متشددون فلسطينيون وألمان.

سرعان ما تحولت عملية عنتيبي إلى أسطورة وبرهان على قدرة إسرائيل على إنقاذ مواطنيها ورفض مطالب الإرهابيين. لكن أسطورة عنتيبي؛ أي أسطورة إسرائيل التي لا تقهر، كانت دائما معيبة بمقتل شقيق رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو في الغارة. وجاءت الغارة الأحدث بتكلفة باهظة، إذ قال مسؤولو الصحة في غزة إن سبعة وستين فلسطينيا على الأقل قد لقوا مصرعهم خلال محاولة إنقاذ الرهينتين الإسرائيليتين. اليوم لا يوجد مثل هذا الخيار العسكري لتحرير الرهائن على نطاق واسع، والجهود التفاوضية الرامية إلى إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين من قبضة حماس ليست بالمبهجة على الإطلاق.

لقد فقد الإسرائيليون الروح المعنوية بعد أسابيع من محاولات غامضة للتوصل إلى اتفاق مع حماس. إذ تزايدت الآمال باستمرار -في المحادثات الجارية حاليا للتوصل إلى صفقة جديدة محتملة- بينما تعذر التقدم. فلا يبدو أن القيادة الإسرائيلية أو حماس في عجلة من أمرهما، بينما أسر الرهائن -على أبواب مجمع وزارة الدفاع الإسرائيلية- تصيح صياحا محموما مطالبة بالعجلة راجين أن يسمع مجلس الوزراء الحربي أصواتهم.

وليس من الواضح أي الأصوات حقا هي التي يسمعها المجلس: فمطالب الرأي العام حافلة بالتناقضات. إذ أظهر استطلاع حديث للرأي أن عدد الإسرائيليين الذين يمنحون الأولوية لإطلاق سراح الرهائن أكبر ممن يعطون الأولوية لإسقاط حماس، في حين وجد استطلاعان آخران للرأي أن أغلبية اليهود الإسرائيليين يرفضون شروط اتفاق واسع يشمل وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن. وعلى النقيض، تظهر هذه الاستطلاعات أن أغلبية كبيرة من عرب إسرائيل تفضل صفقات إطلاق سراح الرهائن. لعل الإسرائيليين غير ثابتين على ما يجب أن يفكروا فيه وقد وعدهم رئيس الوزراء نتانياهو ضمنا بأن بوسعهم الحصول على كل شيء. فقد أكد أن الحملة العسكرية سوف تساعد في إعادة أحبائهم إلى الوطن أحياء مع إلحاق الهزيمة بحماس أيضا. لكن أشهر الحرب الطويلة منذ إطلاق سراح الرهينتين الأخير كبدت تكلفة مكتوبة بالدم. ويشكل وضع الرهائن استعارة مخيفة لاعتقادات قديمة راسخة بأن إسرائيل قادرة على تحقيق أهداف غير قابلة للتسوية أساسا، وذلك خطأ أسهم في حرب غزة وفي استمرار الاحتلال وفي سفك الدماء على مدى عقود من الزمن.

لنا في الماضي دروس وافرة مفادها أن احتمالات إطلاق سراح الرهائن محدودة دائما. فبعد مرور قرابة خمسين عاما على عنتيبي، لم يبق غير عدد قليل جدا من عمليات إنقاذ الرهائن الناجحة، في حين أن هناك أمثلة كثيرة جدا على الاستسلام للخاطفين، فقد تم إطلاق سراح أكثر من ألف ومائة سجين فلسطيني في عام 1985 مقابل إطلاق سراح ثلاثة جنود، وفي عام 1996 أدت محاولة إنقاذ إلى مقتل الجندي نحشون واكسمان. (وكانت حماس قد طلبت إطلاق سراح أكثر من مائتين من سجنائها في مقابل إطلاق سراح واكسمان). ثم إنه تم، في عام 2011، إطلاق سراح أكثر من ألف فلسطيني في مقابل جندي إسرائيلي آخر، هو جلعاد شاليط، وكان نتانياهو نفسه هو الذي أشرف على الصفقة. إذن فهو يعلم حدود قدرة القوة العسكرية بوصفها أداة لإطلاق سراح الرهائن، أو يجدر به أن يكون على علم بذلك.

أما أسر الرهائن فتتعلم هذا الدرس في وقت وقوع الأحداث نفسها. فبالإضافة إلى الرهينتين اللتين تم إنقاذهما هذا الشهر وجندي إسرائيلي تم تحريره في أواخر أكتوبر، يفترض أن أكثر من ثلاثين رهينة لقوا مصرعهم منذ هجمات السابع من أكتوبر. ولقي ثلاثة رهائن مصرعهم على أيدي جنود إسرائيليين اعتقدوا أنهم إرهابيون، برغم توسل الأسرى للإنقاذ.

لقد قطع نتانياهو مرارا وتكرارا بأن «الضغط العسكري المستمر هو الكفيل وحده بإعادة الرهائن المتبقين إلى وطنهم» والواقع أن هذه العبارة كانت شعار الحكومة الدائم منذ صفقة الرهائن الأولى في الخريف الماضي. ففي نوفمبر عقد الجانبان هدنة لمدة أسبوع تقريبا وأطلقت إسرائيل سراح مائتين وأربعين سجينا فلسطينيا، أغلبهم من النساء والصغار غير المدانين. وفي المقابل أطلقت حماس سراح مائة وخمسة من الرهائن.

ومنذ ذلك الحين، أفادت التقارير بأن الجهود المبذولة للتوصل إلى اتفاق لإطلاق سراح الرهائن لم تؤد إلا إلى مطالبات بالمزيد من التنازلات التي تسعى إليها حماس في مقابل الرهائن. تضمنت صفقة أواخر نوفمبر الأولى وقف إطلاق النار لمدة أسبوع، وسجناء فلسطينيين قليلي الأهمية، أغلبهم من النساء والقصَّر غير المدانين. لكن في أوائل شهر فبراير، كشفت تقارير أن حماس تطالب بسجناء أمنيين رفيعي المستوى مدانين باتهامات كبيرة بالإرهاب فضلا عن وقف أطول أو وقف دائم لإطلاق النار، ويبدو أنه تم تخفيض هذه المطالب في المفاوضات الحالية -لكن وقف إطلاق النار سيكون أطول من الاتفاق الأول وإطلاق سراح السجناء سيشمل مدانين بارتكاب جرائم أكثر خطورة.

في بعض الأحيان، لم يبدِ القادة إلا القليل من العجلة، فقد استغرقت حماس أكثر من أسبوع للرد على مسودة الاتفاق المطروح في أواخر يناير، وتابعت وسائل الإعلام الإسرائيلية الانتظار المشحون بالتوتر. وتدرك أسر الرهائن جيدا أن كل يوم يمر دونما توصل إلى اتفاق إنما هو يقرِّب رهينة أخرى من أكثر من مائة رهينة متبقية إلى موت محتمل، سواء على يد الخاطفين أو بسبب الحرب.

ولا يمكن التوفيق بين هدفي العودة الآمنة للرهائن والاستمرار في حرب غير مقيدة ولا نهاية لها. وينعكس هذا الحساب الخاطئ في النهج الذي تتبعه إسرائيل في التعامل مع الصراع ككل. وقد تشبثت إسرائيل بثنائيات لا يمكن التوفيق بينها منطقيا لعقود من الزمن. فمن ذلك أن إسرائيل تستطيع احتلال المناطق الفلسطينية بشكل دائم، وتظل دولة يهودية من خلال وجود أغلبية يهودية. ومن الثنائيات الزائفة أيضا أن إسرائيل يمكن أن تظل إلى أجل غير مسمى قوة احتلال وأن تظل دولة ديمقراطية. أما الأسطورة الأكثر عنفا على الإطلاق فهي أن إسرائيل قادرة على خنق حرية الفلسطينيين إلى الأبد، في حين تعيش هي في سلام.

إن فكرة أن إسرائيل قادرة على احتلال الأراضي الفلسطينية والاحتفاظ بأغلبيتها اليهودية هي وهم سياسي. فاليوم، يكاد يكون عدد السكان اليهود ومجموع السكان الفلسطينيين (بمن فيهم المواطنون الإسرائيليون) في الأرض بأكملها متساويا تقريبا. والإصرار على أن إسرائيل لا تزال تتمتع بأغلبية يهودية لا يمكن تسويغه إلا بإحصاء المواطنين الإسرائيليين فقط، دون الفلسطينيين غير المواطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة. ولقد أوضحت إسرائيل للمجتمع الدولي منذ عام 1967 أنها تسيطر على الأراضي بموجب احتلال عسكري مؤقت، برغم أن إسرائيل تجعل وجودها وسيطرتها على الضفة الغربية يتزايدان من عقد إلى آخر.

ولقد أصبح هذا البنيان الزائف واضحا بشكل صارخ في عام 2020، عندما صرح نتانياهو علنا بخططه لضم الأرض. وقد أكد ائتلافه الحالي على حق الشعب اليهودي حصريا في جميع أراضي إسرائيل ذات السيادة والضفة الغربية (التي يسمونها يهودا والسامرة). وأنشأت الحكومة الجديدة منصبا وزاريا جديدا داخل وزارة الدفاع، ومنحت هذا الوزير المدني مجموعة من الصلاحيات على الضفة الغربية التي كان الجيش يسيطر عليها سابقا، وتشير هذه الخطوات إلى أن الاحتلال ينتقل من سيطرة الدولة الإسرائيلية المؤقتة إلى سيطرتها الدائمة. وقد عهد بهذا المنصب إلى بتسلئيل سموتريتش، وهو من أنصار ضم الأرض القوميين المتطرفين.

والاحتلال والديمقراطية تناقض مستحيل آخر؛ فالنظام الإسرائيلي الذي يحكم الفلسطينيين يعتمد على خليط لا يمكن اختراقه تقريبا من القوانين غير الديمقراطية، ومنها الأنظمة الاستعمارية البريطانية المتبقية والأحكام العرفية الإسرائيلية، والنظر في القضايا المتعلقة بالاحتلال إما أمام المحاكم المدنية أو العسكرية الإسرائيلية. ولم يعد يمكن الفصل بين آليات الاحتلال العسكري البيروقراطية والدولة المدنية. وفي الوقت نفسه، طالما تصادمت القيم الديمقراطية الليبرالية مع سرقة الممتلكات، والتهجير، وأنظمة العدالة المنفصلة وغير المتكافئة وغير الديمقراطية.

في مطلع عام 2023، جاءت جهود الحكومة اليمينية لإضعاف استقلال القضاء لتمثل صدمة كبيرة للعديد من اليهود الإسرائيليين الذين اكتشفوا أنهم أيضا يمكن أن يكونوا ضحايا في ظل ديمقراطية متداعية.

ومع ذلك، وبرغم الحركة الضخمة المؤيدة للديمقراطية التي قامت على سبيل رد الفعل، لم تظهر دلائل تذكر على أن عددا كبيرا من الإسرائيليين رأوا في الاحتلال سرطانا أساسيا للديمقراطية. ففي استطلاع غير منشور أجريته في الصيف الماضي بين الإسرائيليين ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و21 عاما بدعم من التحالف من أجل السلام في الشرق الأوسط والمعهد الأمريكي للسلام، وافقت نسبة مذهلة بلغت 78% مع عبارة تقول بأن «إسرائيل يمكن أن تكون دولة ديمقراطية برغم سيطرتها على الضفة الغربية وقطاع غزة (بحكم الأمر الواقع)، وبرغم أن الفلسطينيين لا يستطيعون التصويت في الانتخابات الإسرائيلية». ومن بين الشباب اليهود، أيَّد 88% عبارة مفادها أن إسرائيل لا يمكن أن تكون ديمقراطية حقا في ظل هذه الشروط.

بعد السابع من أكتوبر، انفضحت أكذوبة أن إسرائيل تستطيع الحصول على كل شيء في ما يتعلق بالأمن. فليس من الممكن خنق تقرير المصير الفلسطيني وتهميشه، والتنعُّم بالتطبيع الإقليمي، والعيش أيضا بمستوى معقول من السلام. ومع ذلك، يتوصل العديد من الإسرائيليين إلى نتيجة معاكسة: فحتى قبل الحرب، أظهرت الاستطلاعات أن أقلية فقط من الإسرائيليين هي التي تؤيد حل الدولتين، ثم انخفضت هذه النسبة أكثر خلال الحرب.

للأمم جميعا أساطير، وهي ليست مخطئة بطبيعتها أو بصورة تامة. ولكن تسليط الضوء على المسار التصادمي للمواقف غير القابلة للتوفيق يوضح لنا السبب الذي يجعل إسرائيل مرغمة على التخلي أخيرا عن هذه الأساطير المحددة. فالإسرائيليون يطلبون من الفلسطينيين دائما التنازل عن رغبات أساسية، من قبيل امتلاك فلسطين التاريخية كاملة، أو المطالبة بحق العودة الكامل إلى إسرائيل لجميع أجيال اللاجئين.

وبينما كنت أسير في الساحة المعروفة الآن باسم «ساحة الرهائن» في تل أبيب يوم الاثنين، وبينما أثارت تقارير وسائل الإعلام الإسرائيلية الآمال بشأن التوصل إلى اتفاق مرة أخرى، تحدثت مع أشخاص يقيمون وقفة احتجاجية في خيمة تحمل ملصقات للرهائن من ناحال عوز. وبينما كنت أتحدث مع أحد السكان السابقين في الكيبوتس فقال إنه ما من ثمن باهظ لإطلاق سراح الرهائن، كانت فتاتان مراهقتان تجلسان بجانبنا وتتجاذبان أطراف الحديث. كانت إحداهما ابنة لأحد الرهائن، والأخرى كانت هي نفسها رهينة وتم إطلاق سراحها في نوفمبر. كان من المروع أن نتخيل محوها، هي أو أي من الرهائن المتبقين من المشهد، بوصفها ضحية حرب سوف يلقى فيها المزيد من الأبرياء مصرعهم، حرب لا يمكن الفوز بها دون إرساء الأساس للحرب القادمة.

داليا شيندلين محللة سياسية وكاتبة عمود في صحيفة هآرتس الإنجليزية.

خدمة نيويورك تايمز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لإطلاق سراح الرهائن إطلاق سراح الرهائن إطلاق سراح أکثر من الضفة الغربیة إطلاق النار أن إسرائیل إلى اتفاق یمکن أن لا یمکن فی عام

إقرأ أيضاً:

صحف إسرائيلية: هدنة ترامب تريح طهران وتنعش مفاوضات غزة

أثار إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران فجر اليوم الثلاثاء موجة من التحليلات في الصحف الإسرائيلية، ركزت على أن هذه الهدنة جاءت تتويجًا لهجوم إسرائيلي غير مسبوق حقق توازن ردع جديد، ولكنها تمنح طهران فرصة للتعافي وإعادة بناء قوتها.

كما أنها تترك أسئلة مفتوحة بشأن مستقبل البرنامج النووي الإيراني ومصير غزة، فيما اعتبر باحث مختص بالشأن الإيراني بأن موافقة إسرائيل على ذلك هو قرار غير عقلاني، ويسمح لإيران بالتعافي والخروج أقوى.

الصحفي الاستقصائي والمحلل الأمني البارز في صحيفة يديعوت أحرونوت، رونين بيرغمان افتتح مقاله المطول في الصحيفة بالقول، "وقف إطلاق النار ساري المفعول الآن. من فضلكم لا تخرقوه! بهذه الكلمات التي تحمل طابعًا ساخرًا ومقتضبًا، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عبر تغريدة، انتهاء واحدة من أكثر جولات التصعيد خطورة بين إسرائيل وإيران، وربما تدشين مرحلة جديدة تقوم على "اتفاقات مصيرية"، تشمل حسم ملف غزة والتوصل إلى صيغة تسوية للبرنامج النووي الإيراني".

وكتب أن الضربات التي نُفذت ضد إيران الليلة الماضية لم تكن عادية، بل كانت "الأعنف منذ بداية الحرب"، مشيرا إلى أن تقارير متعددة ذكرت أن إسرائيل استهدفت رمز النظام ذاته، بما في ذلك المقر الرسمي للمرشد الأعلى علي خامنئي في طهران، في غارة شملت مؤسسات سيادية ومصرفية في قلب العاصمة.

وأضاف "لكن في ذروة هذه المواجهة، أُعلن وقفٌ لإطلاق النار بدا هشًّا، حتى مع إعلان ترامب عنه بأسلوب استعراضي لا يخلو من المفارقة"، ووصف تغريدة ترامب بأنها "أقرب إلى احتفال ختامي لمشروع تخرج ماراثوني"، بل وأضاف ساخرًا: "هكذا هم من يقبلون بتواضع ترتيبات ترامب، ينتهي بهم الأمر إلى تلقي ابتسامة، وقبعة، ومعاملة متساوية".

إعلان

وعلق المحلل العسكري على الاتفاق قائلا "ليس من المؤكد أننا سنشهد جولة أخرى أو جولة ونصف من تبادل الضربات"، مشيرا إلى أن خيبة أمل أصابت بعض الأوساط اليمينية عند سماعهم باتفاقٍ مفاجئ لم يكن متوقعًا، ولكنه استدرك بالقول، "يبدو أن كلا الجانبين كانا مستعدين لتقديم تنازلات كبيرة من أجل إغلاق مشهد المواجهات".

وقال: "الشريك الثالث، الولايات المتحدة، وبشكل أدق: ترامب، فضّل هو الآخر التهدئة بدلًا من الدخول في حرب استنزاف طويلة"، في إشارة إلى وجود تيارات أميركية داخل الحزب الجمهوري الأميركي تعارض العملية برمتها.

آثار القصف الإسرائيلي على أحد المواقع في أصفهان في وسط إيران (الفرنسية) رواية مزدوجة للنصر

وفيما عبّر بيرغمان عن التناقض الصارخ بين تغريدة ترامب التهكمية، وبين حقيقة أن هذا الرجل نفسه، قبل أقل من 48 ساعة، أطلق أكبر أسطول جوي أميركي منذ حرب الخليج لضرب أهداف إيرانية، فإنه يستنتج أن ذلك تم في إطار "مسرحية سياسية معقدة، تحاول إنهاء الحرب من دون إهانة أي طرف".

وفي تفسيره لخطوة إسرائيل، يكشف بيرغمان أن ما حصل ليس ارتجالًا، بل يُحتمل أنه جزء من "إستراتيجية خروج" تمت مناقشتها في أروقة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وتقوم الخطة على التالي: تُعلن واشنطن وقف إطلاق النار، مع تنسيق مسبق مع إسرائيل، وتسمح للإيرانيين بإطلاق "الطلقة الأخيرة"، ثم يدخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ خلال 24 ساعة.

ويتابع: "هكذا، يمكن لخامنئي أن يقول إنه دمر تل أبيب، ويمكن لنتنياهو وترامب أن يدّعيا بأنهما دمّرا المشروع النووي الإيراني".

هذه الخطة، بحسب بيرغمان، لم تكن موضع ترحيب في إسرائيل حين طُرحت لأول مرة، بل قوبلت بهجومٍ واسع من قبل محللين وسياسيين رأوا فيها "وهمًا وانهزامًا"، لكن المفارقة "أنها قد تم تبنّيها لاحقًا من قِبل الأطراف باعتبارها الخيار الوحيد لتجنّب حرب استنزاف طويلة كانت ستشعل المنطقة بأسرها".

غير أن المحلل العسكري لا يزال يطرح أسئلة كبرى بعد انتهاء الضربات وتثبيت التهدئة، يرى أنها تظل بلا إجابات، ويقول "ماذا عن المنشآت النووية؟ هل فُككت أم ضُربت؟ هل لا تزال إيران قادرة على إعادة بناء البنية التحتية للتخصيب بسرعة؟ كم تبقّى من الصواريخ الباليستية ومنصات الإطلاق؟ وهل الاتفاق المفترض سيعالج كل ذلك؟".

ويؤكد في المقابل أن "الطريقة الصحيحة لمنع إيران من امتلاك مشروع نووي يُعرّض إسرائيل للخطر هي اتفاقٌ يخضع لرقابة صارمة، وبنود عقابية قاسية، وتاريخ انتهاء صلاحية أبعد بكثير من 10 سنوات".

ويقتبس عن شخصية أمنية بارزة قولها: "هذه الفترة (10 سنوات) هي الحد الأقصى الذي يمكن أن يتحمله العالم، وخصوصًا دولة مثل إيران. وكانت هذه نقطة الضعف الحقيقية في اتفاق 2015 الذي وقّعه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مع إيران". ويختم هذه الفقرة بالقول: "سيُظهر الاتفاق الجديد، إذا تم، حدود النجاح الحقيقي للحرب التي خاضتها إسرائيل".

آثار القصف الإيراني على موقع في تل أبيب (رويترز) اتفاقات مصيرية

ورأى بيرغمان أن التطورات في غزة لا تنفصل عن مشهد الاتفاق مع إيران. فإعلان هدنة في القطاع، وسحب القوات، وعودة "الرهائن" المحتجزين، كلها ملفات قد تم بحثها في مكالمة حاسمة جرت بين ترامب ونتنياهو في 9 يونيو/حزيران، هي نفسها المكالمة التي وافق فيها ترامب على الهجوم الإسرائيلي ضد إيران.

إعلان

وكتب: "قد تكون لهذا الاتفاق، إذا اكتمل، تداعيات هائلة على السياسة الداخلية الإسرائيلية، بدءًا من إنهاء إحدى أعقد حلقات أزمة الرهائن، إلى استقرار ائتلاف نتنياهو". بل إن توقيت الانتخابات الإسرائيلية المقبلة -كما يقول- قد يتأثر بمآلات هذه الاتفاقات، وجودًا أو غيابًا.

وفي عنوانه الرمزي "في الطريق إلى زمن الاتفاقات المصيرية"، يطرح بيرغمان قراءة شاملة لتطور يبدو أنه سيشكل نقطة تحوّل في النزاع مع إيران. فالاتفاقات الثلاثة التي تُنسج في الخفاء -وقف إطلاق النار مع إيران، وإنهاء الحرب في غزة، والعودة إلى طاولة التفاوض النووية- قد لا تكون نهائية أو مثالية، لكنها تُنهي 3 جبهات في آنٍ واحد، وتفتح صفحة جديدة من إدارة الصراع بدلاً من تصعيده.

ويختم مقاله بالتساؤل: هل ما تحقق هو انتصار أم أنه مجرد خروج مشرف من مأزق خطير؟ والأهم: هل ستقبل طهران وتل أبيب وواشنطن بتثبيت هذه التسوية أم أن جولةً جديدة تُخبئها الأيام المقبلة؟

ضربة قاسية لإيران

وفي مقاله بصحيفة هآرتس، قال المحلل العسكري الإسرائيلي البارز عاموس هرئيل إن وقف إطلاق النار شكّل تتويجًا لموجة قتال غير مسبوقة، أسفرت عن "توازن ردع جديد"، لكنه أضاف أن الطريق إلى اتفاق فعلي ومُلزم لا يزال طويلًا، وغامضًا، وربما مشروطًا بتنازلات إسرائيلية في غزة.

وافتتح هرئيل مقاله بتعليق ساخر على إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن وقف إطلاق النار، حيث غرّد قائلاً: "جاءتني إسرائيل وإيران، في آن واحد تقريبًا، وقالتا: سلام!… سيشهد كلا الشعبين الحب والسلام والازدهار الرائع في مستقبلهما"، ويعلّق المحلل السياسي على هذه الصيغة بقوله: "الحياة كبرنامج تلفزيوني الواقع، مرة أخرى. لولا هذا الواقع المحزن، لكان المرء ليضحك".

وبحسب هرئيل، فإن استمرار إيران في إطلاق الصواريخ لفترة قصيرة بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار كشف عن ضعف القدرات النارية الإيرانية، لكنه كشف أيضًا عن ثغرات في منظومة الدفاع الإسرائيلية.

وسلّط المحلل العسكري الإسرائيلي الضوء على ردة فعل الرئيس الأميركي على إطلاق إيران النار على قاعدة العديد في قطر التي توجد فيها قوات أميركية ردًّا على قصف الولايات المتحدة منشآت إيران النووية في فوردو ونطنز وأصفهان، حيث قال ترامب علنًا إنه "يشكر الإيرانيين على التحذير المسبق"، وهو ما يراه الكاتب تعبيرًا عن اتفاق مسبق غير معلن بين الجانبين لضبط حدود المواجهة، مع المحافظة على قواعد اللعبة.

عملية اعتراض لصاروخ إيراني في سماء قاعدة العديد القطرية (رويترز)

ورأى هرئيل أن إسرائيل وجّهت "ضربة موجعة ومباغتة لإيران"، استهدفت منشآت نووية ومستودعات صواريخ ومواقع للقيادة والسيطرة، ضمن عملية مشتركة ومنسقة مع الولايات المتحدة. ويقول: "ما حدث في الأيام الـ12 من الحرب مع إيران يبدو على النقيض تمامًا من الفشل الذي واكب إدارة الحرب في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول".

وبينما يتساءل كثيرون عن مدى استدامة هذه الضربة، أشار المحلل العسكري إلى أن "نجاح سلاح الجو الإسرائيلي في تدمير منظومات الدفاع الجوي الإيرانية ترك طهران مكشوفة للهجمات"، مضيفًا أن المشروع النووي والصاروخي الإيراني تلقّى ضربة إستراتيجية غير مسبوقة، وقد تكون لذلك تداعيات على استقرار النظام الإيراني نفسه، ولو في المدى المتوسط أو البعيد.

لكنه، في المقابل، حذّر من المبالغة في تصوير هذه الضربة على أنها نهاية الطريق. فالحديث، حتى الآن، لا يدور حول "اتفاق" فعلي، بل "تفاهمات ميدانية" أو "هدوء مقابل هدوء"، وهو ما يعني -بحسبه- أن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو غياب اتفاق رسمي، مع بقاء الوضع عرضة للاشتعال مجددًا عند أول خرق.

إعلان

وقال: "ما الذي يُعدّ انتهاكًا في غياب اتفاق مفصل؟ وهل يُسمح لإسرائيل بالهجوم مجددًا لمجرد عودة الطرد المركزي إلى الدوران؟ هل يُمكن إعادة فرض عقوبات مشددة دون غطاء قانوني دولي؟".

واعتبر أن الإيرانيين سيحاولون -كما فعلوا في الماضي حسب زعمه- كسب الوقت، والمناورة، والعودة لاحقًا إلى خرق القيود إذا لم تُفرض عليهم آليات رقابة صارمة.

ماذا طلب ترامب من نتنياهو؟

ينتقل هرئيل إلى الجانب السياسي، متسائلًا عن ثمن هذا الاتفاق غير المُعلن. فقد أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بيانًا قال فيه إن إسرائيل أزالت "التهديد المزدوج الفوري، في المجالين النووي والصاروخي"، وأعلنت وقف الحرب بعد تحقيق أهدافها. لكنه لم يوضح -حسب الكاتب- ما جرى الاتفاق عليه مع ترامب خلف الكواليس.

وهنا يطرح المحلل العسكري تساؤلات لافتة:

"هل طلب ترامب من نتنياهو دفع ثمن في غزة؟" "هل يشمل ذلك إنهاء القتال هناك، أو الانسحاب الكامل مقابل إطلاق سراح الرهائن؟" "هل هناك التزام إسرائيلي بتقديم تنازل سياسي في المسار الفلسطيني مقابل إعادة إحياء اتفاق التطبيع مع السعودية؟".

ويؤكد في هذا السياق أن ترامب لم يتخلَّ عن حلمه بتدشين تحالف إستراتيجي إقليمي جديد، يُضم إليه العرب السُّنة وإسرائيل، وربما أيضًا يُتوّج بجائزة نوبل للسلام، على حد تعبيره.

نتنياهو في أحد مواقع القصف الإيراني في إسرائيل (الفرنسية) الثمن في غزة

أشار هرئيل إلى أن نتنياهو قد يُجبر على تقديم تنازلات داخلية، فاستمرار قضية "الرهائن"، واستنزاف الجيش الإسرائيلي في غزة، يُعدّ "جرحًا وطنيًّا مفتوحًا"، ولا يمكن -كما يقول- التوجه إلى انتخابات جديدة دون معالجته.

وكتب: "خلافًا للرسالة التي يُحاول أنصار نتنياهو ترويجها، فإن نجاح 13 يونيو/حزيران (في ضرب إيران) لا يُمحي وصمة 7 أكتوبر/تشرين الأول"، في إشارة إلى يوم هجوم حماس، الذي يُعد في إسرائيل يوم الفشل الأمني الأكبر منذ تأسيس الدولة.

وختم المحلل العسكري بالقول: "إنجازات إسرائيل ضد إيران مُبهرة، وقد لا تكون تحققت لولا إصرار نتنياهو… لكن لا يمكن لهذه الإنجازات أن تُخفي التاريخ الحديث، ما دام رئيس الوزراء يرفض الاعتراف بأي مسؤولية عن الكارثة في غزة، ويستعدّ لشن حملة جديدة ضد أسس النظام الديمقراطي الإسرائيلي".

من ناحية أخرى، نشرت صحيفة معاريف تقريرا تناول موقف الباحث الإسرائيلي المختص في الشأن الإيراني بيني تسيفتي، عبّر فيه عن استيائه من قرار وقف إطلاق النار.

ونقلت الصحيفة عن تغريدة للباحث على شبكة التواصل الاجتماعي "إكس" (تويتر سابقا)، جاء فيها "وقف إطلاق النار وسط إطلاق الصواريخ على إسرائيل وكذلك القتلى، قرار غير عقلاني انقلب ضد أنفسنا".

وأضاف أن "إيران ستخرج من هذا بقوة لأن أرواح المدنيين والدمار ليسا مهمين بالنسبة لها" حسب زعمه. وذكر أنه "ذات مرة، خلال حرب يوم الغفران (حرب أكتوبر 1973)، قطعنا الهاتف عن الأميركيين، والآن لن يتم حل المسألة إلا من قبلهم".

ويبدو أن الباحث تجاهل أن الجسر الجوي الذي قدمته الولايات المتحدة آنذاك أنقذها من هزيمة منكرة بعد أن تمكنت الجيوش العربية من استرجاع الجولان وسيناء.

كما قال في تغريدة ثانية "أسمع أصوات وقف إطلاق النار مع إيران وأقول: يجب ألا نتوقف! تتدحرج كرة الثلج وأي شخص يحاول إيقافها سيؤذي نفسه. لا ينبغي السماح لإيران بالتعافي والخروج أقوى. لا تترك مريضا في منتصف العملية! وإلا فلن يكون اليوم الذي سيتم فيه افتتاح المنشآت النووية وإعادة تأهيل حزب الله بعيدا. وسترفض حماس أيضا إعادة الرهائن. لذا فكر مرة أخرى!".

مقالات مشابهة

  • ترامب: تقدم كبير في غزة لهذا السبب واتفاق قريب بشأن الرهائن
  • جهود مصرية قطرية لإحياء مفاوضات غزة.. وحماس تبدي استعدادًا أوليًا
  • إسرائيل وافقت على وقف إطلاق النار مع إيران.. هل تكون غزة التالية؟
  • صحف إسرائيلية: هدنة ترامب تريح طهران وتنعش مفاوضات غزة
  • ‏زعيم المعارضة في إسرائيل يدعو إلى إنهاء الحرب في قطاع غزة
  • هل تستفيد غزة من نهاية الحرب بين إسرائيل وإيران؟
  • عائلات الأسرى الإسرائيليين تطالب بضم غزة لاتفاق وقف إطلاق النار مع إيران
  • تفاؤل بتقدم - صحيفة تكشف آخر مستجدات مفاوضات غزة
  • القوات الإسرائيلية تستعيد جثث ثلاثة رهائن في غزة
  • إسرائيل تستعيد جثامين ثلاثة رهائن من غزة قُتلوا في هجوم 7 أكتوبر