الجبل والكهف: هل السودان قابل للقسمة؟ «2- 2»

د. عبد الله علي إبراهيم

أنفقنا شفقة كثيرة، وحدساً مجازفاً، ومقارنات غير مدروسة في الإجابة على سؤال هل السودان قابل للقسمة أكثر مما أنفقنا في النفاذ إليه بفكر نقدي غير رحيم. وأكثر ما حجبنا عن هذه الفكر النقدي هو اقتصارنا على توزير الحكومة (المركز)، في جعل السودان آيلاً للقسمة دائماً وأبداً.

وقل من اعتبر المعارضين لهذه الحكومات في الهامش في حسابات أيلولة السودان للتفرق أيدي سبأ.

فصح، إذا كانت الأمة، في قول المؤرخ الفرنسي أرنست رينان، هي إرادة العيش معاً، أن نخضع فكر حركات الهامش وممارستها لمعيار امتثالها لهذه الإرادة. وسنجد أنه اعتور إرادة هذه الحركات عوارض قدمت فيها الهوية الإثنية والمناطقية على هوية الوطن الجامعة مما أوقعها في ما نطلق عليه، جرياً وراء الفيلسوف الأميركي مارك ليلا، بالتراجع عن الجبل، الوطن، إلى الكهوف، أي الهويات الأصاغر فيه.

وسنأخذ فيما تبقى من حديث اتفاق سلام جوبا الموقع في أكتوبر 2021 بين غالب حركات دارفور المسلحة والحكومة السودانية كشاهد عيان على استعصامه، بتركيزه على الهوية المناطقية، بالكهف دون الجبل.

من الدلائل على كهفية اتفاق جوبا أنه قضى، وهو المستمد من الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية (2019-2022)، بأنه إذا تعارضت مادة منه مع الوثيقة الدستورية الحاكمة لفترة الحكم الانتقالي صحت تلك المادة وأزيل نقيضها الذي في الوثيقة. فمن علو العين على الحاجب، والكهف على الجبل، خضوع الدستور لنوازل اتفاق للسلام كان قد أخذ شرعيته منه.

ولا يسفر الاتفاق عن كهوفيته في مثل إلغائها المركز نفسه في مسعى قوى الهامش اقتسام الثروة الوطنية مع المركز. فانته إلى إلغاء المركز في حين كان يكفيها تفكيك قبضته على الثروة بما يأذن لها بتلك القسمة. فألغى الاتفاق وزارة المالية فالجمعية التشريعية فالدولة نفسها.

فبمقتضى الاتفاق ستقوم هيئتان بالقوامة على المال العام. فالهيئة الأولى هي الصندوق القومي للعائدات (المادة 22 من الاتفاق) وستودع فيه “كافة الإيرادات والعائدات المالية القومية وينظم بالقانون ويكون هو المؤسسة الوحيدة لإيداع العائدات”. أما الهيئة الأخيرة فهي “المفوضية القومية لقسمة وتخصيص ومراقبة الموارد والإيرادات المالية” (المادة 23). وهذه المادة ملزمة ضمان الشفافية ومعالجة أوجه الخلل في تخصيص وتوزيع الإيرادات القومية بعدالة بين أقاليم السودان المختلفة، سيما الولايات المتضررة من الحرب والمظالم التاريخية.

استدعى الاتفاق، الصندوق والمفوضية، نصاً من اتفاق السلام الشامل بين الإنقاذ والحركة الشعبية الجنوبية في 2005. غير أن ما جاء في اتفاق جوبا اختلف عما جاء في نظيره الذي جرى عام 2005 بوجوه مهمة. فالأخير أقر بوجود وزارة خزانة أو مالية مركزية في حين تغاض اتفاق جوبا عنه، أو دلس.

قال اتفاق 2005 بوجوب إيداع كل العائدات المتحصلة في الصندوق القومي للعائدات “الذي تديره الخزانة العامة”. أما اتفاق جوبا فبدأ بالنص بأن الصندوق هو الذي ستودع فيه كافة العائدات وانتهى بقوله إن الصندوق هو “المؤسسة الوحيدة” لإيداع العائدات. وبدا أن هذا الصندوق ربما اسم آخر لوزارة المالية حتى نرى تلاشيها فيما سيرد.

من جهة أخرى، نجد اتفاق 2005 قضى أن تكون عمليات الحكومة المالية، تخصيصاً وصرفاً، في إطار الموازنة العامة العلنية، أي تلك التي تجيزها مؤسسة تشريعية، في حين صمت اتفاق جوبا عن دور المؤسسة التشريعية في أي من صورها في عمليات الدولة ومعاملاتها المالية.

ليس المفوضية القومية لقسمة وتخصيص ومراقبة الموارد بدعة. فهي ما تواثقت عليه دول كثيرة لرد ظلامة أقوام في الأمة فاتهم قطار التنمية زماناً. فهذه الدول تتواضع عند نسب مدروسة من المال الوطني تخصص لهذه الجهة أو تلك استدراكاً لما فاتها. وتضطلع المفوضية بمراقبة إن كانت الهيئة التشريعية ووزارة المالية التزمت بتلك النسب وحولت أنصبة تلك الجهات في وقتها.

أما مفوضية اتفاق جوبا فلم تكتفِ بتحديد نسب أنصبة ولايات البلد ومراقبة التزام الدولة بها فحسب، بل قضت أن تقوم هي نفسها أيضاً بتوزيع الأنصبة المقررة. وبدا من بعض واجباتها أنها الكفيلة حتى بتحديد نصيب الدولة المركزية وضمان صرفه لها. فجاء في الاتفاق، “كما تضمن المفوضية عدم حرمان الحكومة الاتحادية، أو أي طرف آخر، من التمتع بمستحقاته المالية، وضمان انسيابها في المواقيت المتفق عليها”.

فبعد استبعاد وزارة المالية والمؤسسة التشريعية من اختصاصاتهما المالية صارت المفوضية ولية المال عن الدولة نفسها تنفق عليها. وهكذا انتهى من أراد اقتسام الثروة مع المركز القابض إلى إلغائه.

وفي طلب أمن الكهف اعتدت قوى الهامش في اتفاقية جوبا على الحقوق الديمقراطية لغيرها. فصادرت الحق في المدينة لأهل عاصمة القطر. فرتبت لها إدارة خاصة يراعى فيها التمثيل العادل لأهل السودان. فتشترك بالنتيجة أطراف اتفاق سلام جوبا في أجهزة إدارة العاصمة القومية. فقضت بأن ينعقد بعد التوقيع عليها مباشرة مؤتمر يتواثق على طبيعة هذه الأجهزة وفقهها.

حجة أطراف جوبا على هذا التمدد لإدارة العاصمة أنها قومية ومتنوعة فيها من كل جنس جوزين. وجازت لهم إدارتها بحظهم هذا منها. وبهذا التطفل على إدارة العاصمة يقع طلاق بينونة بين السلام والديمقراطية. فأرادت أطراف اتفاقية جوبا الاستئثار بالشراكة في إدارة العاصمة لنفس السبب الذي من شأنه أن يكفها عنه. فتنوع العاصمة وقوميتها سبب لديمقراطية إدارتها اقتراعاً من قبل سكانها المسجلين في قوائم الانتخابات بها، ودافعي الضرائب لخزائنها، والأعرف بدخائلها وحقوقهم عليها وواجباتهم لها. ففرض إداريين عليها سواء من أهلها، أو مستوردين بإرادة مسلحي الهامش، فشطط.

صرفنا مداداً كثيراً بليغاً في نقد المركز لتفريطه في الوحدة الوطنية السودانية. وأعفينا قوى الهامش التي سعت لاقتسام السلطة والثروة معه من الحساب عن هذا التفريط. فيكفي أن الحركة الشعبية لتحرير السودان (العقيد قرنق) دعت بقوة إلى سودان جديد إرادة منها للعيش المشترك. ولكنها انتهزت أول سانحة لتغادر الجبل إلى كهفها باستخدامها حق تقرير المصير الذي كفله لها اتفاق السلام الشامل. ورأينا من اتفاق جوبا كيف رتب الهامش الدارفوري وحلفاؤه بحذق، وربما بإهمال، للعيش في كهفهم العرقي والإثني والمناطقي، لا جبل الوطن.

IbrahimA@missouri.edu

الجبل والكهف: هل السودان قابل للقسمة؟ «1- 2»

الوسومأرنست رينان اتفاق سلام جوبا الجبل السودان الكهف الهامش الوحدة الوطنية السودانية جوبا عبد الله علي إبراهيم

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: اتفاق سلام جوبا الجبل السودان الكهف الهامش جوبا عبد الله علي إبراهيم إدارة العاصمة اتفاق جوبا

إقرأ أيضاً:

وزير المالية السوداني: وقف الحرب أولا وشعبنا سيحكم نفسه بنفسه

وفي حلقة جديدة من بودكاست "ذوو الشأن"، سلط الدكتور جبريل إبراهيم، الذي يترأس حركة العدل والمساواة، الضوء على مسيرته الحافلة بالتحولات، من قرية طينية نائية على الحدود التشادية إلى أروقة السياسة والاقتصاد في السودان، مرورا بتجربة دراسية وعملية غنية في اليابان والسعودية ولندن.

وتناول الوزير السوداني الأوضاع الاقتصادية الراهنة، معترفا بصعوبتها جراء الحرب، لكنه نفى وجود مجاعة شاملة، مشيرا إلى وفرة الإنتاج الزراعي ومشكلة رئيسية في إيصال الغذاء للمتضررين، كما تطرق إلى جذور الصراع في دارفور، وخلفيات تأسيس حركة العدل والمساواة، وموقفه من حمل السلاح.

بدأ الدكتور جبريل إبراهيم حديثه مستذكرا طفولته في قرية صغيرة قرب الطينة، المحاذية لتشاد، حيث الحياة القاسية وشظف العيش. وقال "الناس تتنقل نصف اليوم للوصول إلى مصادر المياه، وتعُود نصف اليوم الآخر"، واصفا كيف قاده إعجابه بمظهر أخيه الأكبر الأنيق إلى الالتحاق بالمدرسة.

وروى كيف تنقل بين المدارس الداخلية من الطينة إلى الفاشر، ثم إلى جامعة الخرطوم، مواصلا "انزياحا شرقا" أوصله إلى اليابان، التي يسميها البعض "بلاد الوقواق"، موضحا أن اسمها الحقيقي "واكوكو" يعني "بلاد السلام".

إعلان

وأمضى إبراهيم 7 سنوات في اليابان، حيث درس الاقتصاد وأتقن اللغة اليابانية، التي بدأت تتآكل بمرور الزمن، على حد قوله. وعن تجربته هناك، ذكر كيف كان الأفارقة منظرا غريبا لليابانيين، خاصة في القرى، حيث كان الأطفال يتجمعون حولهم.

تكوين ورؤى اقتصادية

وبعد اليابان، انتقل وزير المالية للعمل في السعودية لمدة 4 سنوات، مدرسا للاقتصاد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، قبل أن يعود إلى السودان حيث كُلف بتأسيس شركة "عزة" للنقل الجوي، وهو الاسم المستعار الذي كان يُطلق على السودان إبان الاستعمار.

ثم غادر إلى تشاد ومنها إلى الإمارات، قبل أن يستقر في لندن لاجئا بعد أن طلبت الحكومة السودانية آنذاك تسليمه، وأوضح أن اتهامه بدعم الثورة في دارفور كان السبب وراء طلب تسليمه.

وعن الأوضاع الاقتصادية الحالية، أقر إبراهيم بصعوبتها، مشيرا إلى أن معظم النشاط الاقتصادي ومصادر إيرادات الدولة كانت متمركزة في العاصمة الخرطوم التي تضررت بشدة، وأكد أن الدولة لم تصل إلى الصفر في إيراداتها، وتعتمد حاليا على مواردها الذاتية من ضرائب وجمارك وعوائد الذهب.

ونفى الوزير وجود مجاعة شاملة، مؤكدا أن إنتاج السودان من الغلال يفوق الحاجة، وأن برنامج الغذاء العالمي يشتري الذرة من السودان لتصديرها، وأرجع شح الغذاء في بعض المناطق إلى ممارسات "المليشيا المتمردة" التي تمنع وصوله، فضلا عن فقدان القدرة الشرائية للمواطنين النازحين.

رؤية لإعادة البناء

وطرح الدكتور جبريل إبراهيم رؤيته لإعادة بناء الاقتصاد السوداني، مرتكزة على محورين: الأول هو الاستثمار في "رأس المال البشري" عبر التعليم النوعي والخدمات الصحية، والثاني هو تطوير البنية التحتية المادية من طرق وجسور والسكك الحديدية وموانئ وشبكات خدمات.

وأشار إلى سعي وزارته قبل الحرب لرفع نصيب التعليم والصحة في الميزانية إلى 40%. ولتمويل البنية التحتية، دعا إلى شراكات إستراتيجية بنظام البناء والتشغيل ثم تحويل الملكية "بي أو تي" (BOT)، مؤكدا تهيئة البيئة التشريعية لذلك.

إعلان

وفيما يتعلق بالمساعدات الخارجية، أوضح أن أموال الغرب "مُسيّسة"، وأن الدعم حاليا يأتي عبر طرف ثالث، غالبا وكالات الأمم المتحدة، بعد تصنيف التغيير في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 انقلابا، وأشاد بالدعم الإغاثي من الدول العربية والخليجية وإيران وتركيا.

الحرب والسياسة والمستقبل

وتطرق وزير المالية إلى الحرب الدائرة مع قوات الدعم السريع، معتبرا إياها "مشروعا إقليميا ودوليا كبيرا" وأن الدعم السريع "مجرد أداة تستخدم مرحليا"، وربط الصراع بأطماع في سواحل البحر الأحمر وموارد السودان المائية والزراعية والمعدنية، وربما بمحاولة "تغليف المسألة بمحاربة الإسلام السياسي".

وبشأن الأوضاع في الفاشر، أكد صمود المدينة أمام هجمات الدعم السريع المتكررة، قائلا "لن تسقط بإذن الله"، مشيرا إلى رمزيتها التاريخية كعاصمة لإقليم دارفور.

وعن موقفه من الحكم العسكري، قال إبراهيم إنه مع الحكم المدني تماما، وإن الظرف الحالي فرض وجودا عسكريا في السلطة، مددت الحرب عمره.

وأعرب عن ثقته في قدرة الشعب السوداني على تغيير الأنظمة العسكرية عبر الثورات، متوقعا حوارا سودانيا-سودانيا شاملا بعد الحرب لرسم خارطة طريق نحو انتخابات حرة.

وردا على تصريحات الفريق البرهان حول أداء بعض الوزراء، نفى الدكتور جبريل أن يكون من المقصودين، مؤكدا أن التعيينات في الدولة تخضع لإجراءات وقوانين تحد من سلطة الوزير المطلقة، وأن صلاحياته في التعيين المباشر تقتصر على 3 أشخاص.

جذور الصراع في دارفور

وعاد إبراهيم بالذاكرة إلى نشأة حركة العدل والمساواة، مؤكدا أنها حركة قومية وليست قبلية أو إقليمية، تهدف إلى تحقيق العدالة والتنمية المتوازنة في كل أقاليم السودان. وأوضح أن فكرة الحركة تبلورت منذ عام 1995 نتيجة شعور بالظلم والتهميش.

وكشف الوزير أنه كان "الوحيد الذي اعترض على حمل السلاح" في المؤتمر الذي تقرر فيه ذلك بألمانيا، مفضلا الحوار، لكن قناعة الأغلبية كانت أن الحكومة آنذاك "لا تسمع إلا أصوات المدافع". ورغم ذلك، أكد أنه ليس نادما على خيار التمرد المسلح الذي فرضته الظروف.

إعلان

وأرجع أسباب الصراع في دارفور إلى الشعور بالظلم من قبل المركز في توزيع الفرص والمشروعات التنموية، وإلى دور الحكومة أحيانا في "اللعب على التناقضات القبلية وتفضيل مكونات على أخرى"، مما أدى إلى تطاحن كبير.

واختتم الدكتور جبريل إبراهيم حديثه بالتأكيد على أن وقف الحرب هو الأولوية، وأن الشعب السوداني بعد ذلك "سيحكم نفسه بنفسه"، معربا عن تفاؤله بمستقبل السودان رغم التحديات الجسيمة.

30/5/2025

مقالات مشابهة

  • رسالة سعودية لإيران.. إما قبول الاتفاق النووي أو الحرب مع إسرائيل
  • ترامب يتهم الصين بخرق اتفاق الرسوم الجمركية مع الولايات المتحدة
  • ترامب: الصين انتهكت تماما الاتفاق التجاري مع الولايات المتحدة
  • وزير المالية السوداني: وقف الحرب أولا وشعبنا سيحكم نفسه بنفسه
  • نعم الوضع في السودان ليس ذلك الوضع الذي يصل حد الرفاهية
  • "سوا" تنشر بنود مقترح ويتكوف الجديد الذي سُلّم لحماس واسرائيل
  • ماذا نعرف عن مشروع التهويد الأخضر الذي تنفذه إسرائيل؟
  • ترامب يحذر نتنياهو من تعطيله ويلفت لاقتراب أمريكا من اتفاق مع إيران
  • اتفاق القاهرة 1969.. دستور الوجود الفلسطيني في لبنان
  • حماس تتوصل إلى اتفاق مع ويتكوف وتنتظر الرد النهائي عليه