«أن تلمسَ الكُتب» خيسوس مارتشامالو غارثيا .. مقاربة الحبر والورق
تاريخ النشر: 30th, July 2025 GMT
طلعت قديح -
يتناول الكثيرون الحاجة لاقتناء الكتب على أن الفعل هو فعل تجاري، أي أنها مجرد سلعة للترفيه أو للاستفادة الحياتية بالمعنى العلمي والمعنى التجاري، فمن يملك ثمن كتاب يحاول أن يستفيد منه بأكبر قدر ممكن؛ لأنه يدفع فيه مالًا، قد يكون القدر منه يساهم في إعانة احتياجات البيت والعائلة.
وبنمط آخر قد يخرج عن هذا النوع؛ نوعٌ يجرب التفقه في مجال ما؛ ليبرز أنه مثقف بين ناس لا يدركون معنى الثقافة أصلا.
لكن ماذا لو كان هناك من يعتبر الكتب ركنًا أساسيًا في حياته، يحاول اقتناء الكتب ليس لمجرد ورق يُقرأ، بل لأن الكتب عبارة عن تجارب مختلفة تقدم له غذاء روحيا وجسديا بالفكر والإعانة على تحمل ضغوطات الحياة ومواجهتها في ظل تكالب الحياة علينا كبشر
رغم أن عنوان الكتاب «أن تلمس الكتب» واضح، إلا أنني لم أتوقع أن يكون المحتوى عرضا لعلاقة الكتّاب بالكتب، ومدى شغفهم بها.
افترضت في غالب الظن أن البحث سيكون عن اقتراب من عناوين جاذبة بالقدر الذي يحوي النَّقد أو الإضاءة أو عرضًا لنخبةٍ من الكتب.
بيدَ أن الأمر بدا بعيدًا عن هذا الاعتقاد، فالعرض الذي اتبعه الكاتب، لامس شيئًا دافئًا لكل من يمتلك مكتبة أو عددًا كبيرًا من الكتب، هي ليست علاقة العين بجمادٍ يتحرك أمامنا عبر اتجاه مرئي أو مجرد حاسة لمس عند تقليب الورق، هي أقرب لتشكيل مسار اقتران حقيقي بين القراءة والكاتب، فالأمر الذي نراه ممنوعًا، يكون مُحببًا في التَّشاكل الفريد «تعدد الزيجات» بل وكثرتها، فكلما كثر زاد نهم الكاتب أو القارئ لممارسة ذلك دون ارتواء أو شبع.
يذكر الكاتب وقائع متعددة بين الكتب وكتّابها، بدءًا من مقاسات المكتبة برفوفها من السنتيمترات حتى التَّذاكي بحركات المشاهدة لزوايا الكتب للاستفادة منها بالقدر المتاح بل والمُصرِّ على الإحاطة بما يساهم بإيجاد عالم أوسع للكتب.
وهذا لا يخلو من طرائف تصل إلى انتخاب حيلٍ تُفعِّل ترتيبها حسب توجُّه الكاتب أو القارئ؛ فيمكن أن تُقدم كتب عن قريناتها لكاتب ما؛ مُخفيةً خلفها عناوين أخرى للكاتب ذاته! هي محاولة لإخفاء الثمين منها بعيدًا عن أعين وأنوف طالبي الإعارة، وهي تمنح للشَّغوف حق الاستفادة من أكبر مساحة ممكنة، وإن أدَّى ذلك لعراك افتراضيٍّ بين كتب وأخرى لأحقية التَّخفَّي!
يذكر «خيسوس غارثيا» أن هناك من الكتّاب من يقعون أُسارى بعض الاهتمامات المعرفية، فالكاتبة الأمريكية «آن فاديمان» لا تقدر على الصمود أمام كتب الاستكشافات في القارة القطبية الجنوبية أو الشمالية!
وهناك نقطة جديرة بالاهتمام؛ قول «بمكتباتهم يُعرف الناس» وهذا قول رزين يدل على رؤية متفحصة، فعلى سبيل المثال لن تجد مكتبة لها هندستها التكوينية ونوعية المحتوى الثَّري لكاتب غير منظم مثلا، أو لمجرد أنه يمارس هواية محببة لنفسه فقط. سيكون ذلك عنوانا للكتابة المؤسسة على تأصيل معرفي حتى في شكل وتأسيس المكتبة.
إنني على يقين أن الشخص الذي يقتني الكتب ويقرأ؛ يُوجب هذا الاهتمام أن يُشذب خُلقه بالطريقة التي لا تُشابه العوام، ليس استعلاءً بل إقرار بأن العقل يَمتصُّ رحيق التَّجارب الإنسانية ويُبرمجها لتكون ضمن كينونته، ويعمل على ممارستها في الحياة حتى تترسخ وتصبح نهج حياة.
تقول الفرنسية مارجريت يورسنار: إن «إعادة بناء المكتبة من أنسب الطرائق لمعرفة صاحبها». ليس هذا فحسب، بل إن الكتب تكشف عن ماهية تفكيرنا واهتماماتنا الفكرية وتطبيق ذلك عبر الانطباع الأولي والعميق عن الشخصية التي تقتني تلك الكتب.
يستعرض الكتاب حالات من غريب عادات الكتّاب واقتنائها في مكتباتهم، فيذكر بروز حالة من النسيان اللاإرادي لقراءة كتاب ما عدة مرات دون التذكر من أن الكتاب مرّ على الكاتب، وهذا ما عمد كثير من الكتاب إلى توثيق ما قرأوه أمثال الكاتب «سرخيو بيتول» حيث دوّن 8000 عنوان!
يتحدث المؤلف عن زيادة حجم المكتبة في حالات كثير من الكتّاب حتى احتاج الأمر إلى إنشاء مكان إضافي للكتب كمكتبة «خوليان مارياس» التي تشبه بعثرة الورق في جميع أنحاء البيت.
في كتابه «تاريخ القراءة» يتحدث ألبرتو مانغويل عن حالات أشبه بالخيال، بهوس الكتب، فيذكر أن الصَّاحب بن عبَّاد اعتذر عن المثول أمام الملك نوح بن منصور لتسليمه الوزارة، فإذا بحجَّته أنه يحتاج لـ400 ناقة محمّلةً بالكتب بترتيب أحرف الأبجدية! ويذكر أيضًا بلوغ كتب الصَّاحب بن عبَّاد 117000 كتاب، أي ما يزيد عمَّا كانت تزخر به مكتبات أوروبا مجتمعة! كما ذكر المستشرق جاك ريسلر.
يقول الشاعر الأرجنتيني بورخيس: «إننا لسنا ما نكتب، بل ما نقرأ». وفي هذا يجب علينا أن نكون منطقيين بالقول إن فعل القراءة يكون أوسع بكثير من فعل الكتابة؛ لأننا قد نجد وقتا للقراءة، ولترتيب عقولنا في إنتاج حقيقي للأفكار والتواؤم العقلي أثناء القراءة، لكننا لن نجد هذه المتعة بالقدر نفسه حينما نريد أن نكتب.
ليس علينا أن ندقّق في كل ما كتبه المؤلف في متابعة تنظيم الكتب بمساحتها أو شكلها، فثمة اختلاف بين هذا وذاك، فمن الفوضوية الذميمة وأخرى محبذة، وبين تنظيم متكلف لآخر يقترب من البساطة، حتى يصل الأمر إلى ترتيب الكتب حسب المكان أغربي هو أم شرقي، أحي الكاتب أم ميت!
يطرق المؤلف سؤالا عن تراتبية الأهمية في المكتبة: كيف تتخلص من خمسمئة كتاب؟ وفي هذا دلالة على رؤية دقيقة لشد انتباه القارئ؛ هل تحتاج الكتاب؟ أتشعر بشديد الأسف لفقدانه؟ ستكون هذه المحددات هي المكوِّن الحقيقي للمكتبة، لكن هيرمان هسه يباغتنا بسؤال أكثر دقة: ألديك متسع للكتاب؟ وهذا سؤال يجعلنا نتأنى في معالجة مشكلة غياب المكان. قد يتفاجأ القارئ العادي عن ماهية هذه الأطروحات، والتي تدخلنا في طور العلاقة الحقيقية ما بين الكتاب من جهة، وتقاسم الأدوار في العلاقة بين الكاتب الحقيقي والقارئ العادي من جهة أخرى، ولنا أن نعلم أن هناك طرائق غريبة للتخلص من الكتب إحداها إغراقها في المسبح كما فعل الكاتب الإسباني أومبرال!
ويُطرح سؤال متوقع عند رؤية كمية كبيرة من الكتب في مكتبة؛ هل قرأت كل هذه الكتب؟ والقول بنعم يستغرق أعواما، وغالب الإجابة: لا.
إن هذه الإجابة توثق علاقة جديدة بين الكتب والكاتب القارئ، فوجود الكتب بعدد كبير هو إثارة للشجن في كونها ليست كتبا فقط بل هي تجارب عاشها أصحابها، وخبرات لا نعرف حجم الإنجاز أو الإخفاق فيها، كما أن كونها تصطَّف في مكتبة؛ يعني ازدياد عدد الأصدقاء في مكان ما، والأكثر شهية أن تكون تلك الكتب في نوعيتها هي كتب مهداة من مؤلفيها، فالأمر لا يعني فقط الإهداء بشكلانيته بل بتكوينه التلاحمي والتقاربي مع المؤلف.
أستذكر تلك الحادثة الافتراضي على صفحة الفيسبوك والتي كانت نتاج مجرد تصفُّح، ففي يوم ما قرأت أن هناك كتابا سيصدر للشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصرالله اسمه «كتاب الكتابة»، استفزني هذا العنوان، وعلمت أنه من الصعب دخوله لغزة - لنوعيته غير الروائية - فكتبت مقالا رآه الكاتب - كان يومها معرض عمّان الدولي مقاما - فما كان منه إلا أن حادثني عبر شات الصفحة، متسائلا عن الطريقة المناسبة لوصوله إليّ وأنا مقيم في غزَّة، وبطريقة ما حدث ما أردته، وبشكل عجيب وغريب، قبل القدر بذلك، وذيَّل الإهداء بجميل العبارة، وأرفق ذلك بصفحة أخرى كتب فيها قصيدة ماتعة، هذا التمازج بين الإهداء والكتاب والقارئ يكوِّن معادلة كيميائية، وليس مجرد مشهد حدث ومضى.
في باب أخير للكتاب، يضع المؤلف إصبعه على علاقة طردية بين الكاتب القارئ والورق، فهذا الشاعر الإسباني لويس ثيرنودا يثمل من رائحة الحبر!
أذكر ذات يوم في نقاش في جلسة خفيفة الظِّل حول الكتابة والكتب، قال أحد الحاضرين وهو قريب من الـ 60 عامًا: لا أعلم بعد موتي أين ستذهب كتبي- التي تقدَّر بالآلاف - أو أين سيكون مصيرها؟ فطرحنا عليه اقتراحات ببيعها أو إيداعها لمكتباتٍ عامَّةٍ أو مؤسَّسات علميةٍ مثلًا، لكنه رفض هذه الاقتراحات، وقال بجدِّيةٍ: أتمنى أن توضع معي في قبري!
ومن جنون وهوى الكتب أن عددا من الكتّاب يَعد إعارة كتاب ما من الكبائر؛ خوفا عليها من الضياع أو الاهتراء أو نسيان مُستعيرها، وما أكثر ذلك، فشخصيًّا لا أحبذ إعارة كتاب، وكثيرة تلك التي ذهبت دون عودة، وبها إهداءات مميزة، لكني في الوقت نفسه أحب أن أهدي كُتبا وبكثرة، أذكر أنني أهديت في سنة واحدة 100كتاب، دون أن أصاب بخيبة أمل أو قلق من فقدانها لو أعارتها، فبالطبع لن تكون من نفائس الكتب!
يمكن أن نعي ذلك في البلاد التي وضعها مستقر وهناك حركة تجارية متوفرة كعروض مؤسسات دور النشر ومعارض الكتاب، لكن ماذا لو كانت المعادلة أكثر صعوبة في مكان يسمى «غزة»!
لكن ماذا لو أهديت كتابا لأحدهم ثم وجدته مبيعًا! يبدو الأمر مدعاة لخيبة أمل في عدم تبادل التقدير بالتقدير.
ثم ماذا عن فقدان المكتبة أو حدوث مصيبة لها، وهنا أتحدث عن تجربتي الشخصية، فلم تكن مكتبتي الخاصة سوى حلم متجدِّد منذ الصِّبا، أُتمَّ بعد عدد من السِّنين قارب الـ20 عامًا ، شكلًا ومضمونًا، كان حدثًا مبهجًا، تكمن بهجته في إيجاد مكان مستقل، وبطابع يتيح القراءة والكتابة بشكل حقيقي، بعيدا عن مؤثرات حياتية تسرق شعور القارئ الكاتب عما يريد إنجازه.
لكن الأمر لم يكن يستقر، وأتت الحرب الحمقاء في غزة؛ إذ تسببت قذيفة آثمة لتدمير غرفة المكتبة الأرضية وتشويهها لهيكل المكتبة وتناثر الكتب ليغطيها البارود، وكذلك تحطيم مقتنيات المكتبة من مكتب ونافذة وباب، وتشكيلات الأرفف المعلَّقة، وأخرى تتشكَّل في إطار فنيٍّ، لكني حمدت الله على أن غالبية الكتب لم يصبها أذى كبير في غالب أجزائها، إلا أنني الآن بدأت أشك في بقائها على قيد الحياة.
في هذه الحرب فقدت عادة الاحتفاظ بالكتاب كما هو، كنت أعدُّ كتابة شيء داخل الكتاب فعلًا محرَّمًا، لكن مع عدم توفر الورق، بت أكتب داخل الكتب التي أستخرجها من المكتبة بين الفينة والأخرى، لأكتب ملاحظات أو مقالا تكون ثمرة مطالعة الكتاب، وفي داخلي شعورٌ بالأسف، وما نفع هذا الأسف وغزَّة دُمِّرت بكاملها.
لقد أثار هذا الكتاب شجونا كثيرة، وحرّك ذاكرةً دامعةً لعالم الكتب، ذلك العالم الذي منحني الكثير ولا زال، فأن تكون قارئًا وكاتبًا في الوقت نفسه؛ فهذا يمنحك كثيرًا من الهِبات والهبَّات التي لا يراها الآخرون، هِبات تُنازعك ما بين الحياة وتطبيقاتها، وما بين مبادئك واعتقاداتك الراسخة، هو صراع التَّعامل بين الخير المعروف والشَّر اللَّازم، وكيف اجتياز ذلك دون أن يتسلَّل لِذاتكَ أنكَ سقطتَ أو على وشكِ السِّقوط، وهبَّات تستنفر روحك العالية حتى لا تقع كالآخرين!
ما زلت أحاول الإبحار عكس التيار حتى أحفظ ذاتي من التَّلوث من منغصات الحال في حرب لا ترحم، أهرب إلى الكتاب الذي أحرقه الكثير من القرَّاء كي يكون مادةً لإشعال الفرن الطيني في ظل عدم توفُّر الحطب وغلائه، هناك الكثير من الكتب والمجلدات التي تباع على البسطات، ليس كمادة علمية بل كمادة إشعال!
ويترتب على ذلك مسؤولية إنتاج ما تقرأه في صورة كتابية، وليس الأمر مجرد إفراغ لمخزون، وإلا فإننا سنكون مُجرَّدين من أنفسنا، حين نمارس فعل «نَغرف لنسكُب» لمجرد التَّحريك فقط، دون النظر إلى أننا نغرف لنعرف كيف نسكب الفائدة ونتحرَّى مقاييسها المناسبة، فالقراءة هي دينامو الكتابة، وهي عالم كبير ومتَّسع، ولا بدَّ أن تتم العلاقة وفق معايير ضابطة ومنضبطة، والكتب مخزون ثري لا يقلَّ عن أي منتج عالمي وثروة قومية؛ وأجمل ما في هذا المخزون أن تلمس الكتب.
طلعت قديح كاتب فلسطيني من غزة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من الکتب من الکت
إقرأ أيضاً:
قراءة في كتاب "القواسم في عُمان" للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي
د. صالح بن ناصر القاسمي
منذ القدم، أولى العرب عناية خاصة بعلم الأنساب وتوثيقها، لما لها من أهمية في حفظ الروابط الاجتماعية ومعرفة الأصول والانتماءات. وقد أتى الإسلام مؤكدًا هذه الأهمية، كما في قوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ) (الأحزاب: 5). وقال عليه الصلاة والسلام: (من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام)، صحيح البخاري ومسلم.
وقد ارتبط علم الأنساب بتاريخ القبائل العربية، مما يجعل من الضروري لمن يتولى مهمة كتابة هذا التاريخ أن يتحلى بالموضوعية والحيادية، وأن يُعنى بالتدقيق والتمحيص، حتى يتمكن من الوصول إلى حقائق تاريخية تستند إلى دلائل راسخة ومعطيات موثوقة.
ومن القبائل التي حظيت باهتمام واسع في الدراسات التاريخية الحديثة، قبيلة القواسم، لما لها من علاقة وطيدة بأرض عُمان، ولما شكّله حضورها من تأثير على السواحل العُمانية.
وقد تناولت العديد من المصادر العربية والأجنبية نسب هذه القبيلة، ومواضع استقرارها، ودورها في تاريخ عُمان.
وفي هذا الصدد صدر في عام 2014م عن الدار العربية للموسوعات كتاب بعنوان (الفيصل القاسم في أصل القواسم) لمؤلفه الفاضل خلفان بن علي بن خلفان القاسمي، تناول فيه -بأسلوب علمي موثق- مختلف الآراء التي تناولت أصل قواسم عُمان ونسبهم، بالإضافة إلى تاريخ هجرتهم إلى عُمان ومواطن استقرارهم. ويُعد هذا الكتاب مرجعًا مهمًا في بابه، لما تضمنه من عرض شامل وموضوعي لكافة الآراء المتداولة حول قواسم عُمان. ولمن يرغب في التوسع والاطلاع على التفاصيل، يُنصح بالرجوع إليه.
وقد أُهديت نسخة من الكتاب إلى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حاكم إمارة الشارقة، باعتباره باحثًا تاريخيا، وقد تفضل سموه بالإشادة بالكتاب، موجّهًا رسالة شخصية إلى مؤلفه عبّر فيها عن شكره وتقديره لمؤلفه، وهي رسالة أطلعنا عليها المؤلف قبل عدة سنوات، ما يُعدّ ضمنيًا بمثابة إقرار بمحتوى الكتاب ومضمونه.
وفي الآونة الأخيرة، طالعتنا الساحة الثقافية مؤلَّفًا جديدًا لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بعنوان "القواسم في عُمان"، ويقع في نحو ثلاثين صفحة، ونرغب هنا في تقديم قراءة أو تعليق موجز على هذا الإصدار.
بدايةً، لا يمكن حصر تاريخ القواسم في عُمان في هذه السطور القليلة، فهو تاريخ عريق وممتد، يزخر بالوقائع والشواهد التي تؤكد عمقه وأثره. وقد انتشر القواسم في معظم ولايات سلطنة عمان، ولا سيما في الولايات الساحلية، من ولاية شناص شمالًا حتى ولاية صور جنوبًا، فضلًا عن وجودهم الملحوظ في عدد من ولايات المنطقة الشرقية والداخلية، مثل بدبد وسمائل.
وقد تناول الشيخ الدكتور سلطان- حفظه الله- في حديثه جوانب من تاريخ القواسم، إلا أن تركيزه اقتصر على وجود القواسم في الجصة وسمائل دون التطرق إلى وجودهم في الولايات الأخرى، وهو ما يستدعي منا وقفة سريعة للتعليق والتوضيح.
ففيما يتعلق بوجود القواسم في الجصة، فإنه أقدم بكثير مما ورد في حديث الشيخ الدكتور سلطان، الذي أشار فيه إلى عام 1811م، بينما تثبت عدد من الأدلة والقرائن أن وجودهم في هذه المنطقة سابق لهذا التاريخ بكثير، وسنذكر فيما يلي بعض الدلائل التي تؤكد ذلك:
من بين ما يُستدل به على متانة العلاقة بين القواسم في عُمان -وأعني هنا القواسم القاطنين أرض عُمان الأم- والأسرة الحاكمة، أنهم ظلوا على الدوام تحت راية السادة البوسعيديين، بل وحتى من قبلهم في عهد اليعاربة. فلم يُعرف عنهم الدخول في أي صراع مع الحكام، بل كانوا في صفهم وشاركوا في معاركهم جنبًا إلى جنب. وقد أورد المؤرخ ابن رزيق في كتابه الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين (ص:416) موقفًا مشرفًا للقواسم خلال وقوفهم إلى جانب السيد سعيد بن سلطان في حربه ضد عمه قيس، حيث قال:
(وكان يومئذ القابض للسد سالم بن سلطان، ومعه رجال من جعلان من بني راسب والقواسم، وبعض رجال من بني جابر أهل طيوي، وبعض رجال من نخل من أصحاب مالك بن سيف اليعربي. أما سعيد بن سلطان فكان حينها في حصن بركاء. فلما اقترب قيس وقومه من السد، بادره بني راسب والقواسم بالهجوم، فاندلعت المعركة بينهم في وادي العدي، وقد قُتل فيها محمد بن ماجد، أمير بني راسب، وأمير القواسم، ولم يبق من قومهم إلا القليل، بعد أن أبلوا بلاءً حسنًا في القتال وأعطوا السيوف حقها. وبعد استشهاد القواسم وبني راسب، رجع سالم بن سلطان إلى مسقط).
هذا النص يؤكد بجلاء أن القواسم لم يكونوا خصوما أو خصما للسلطة في عُمان، بل كانوا من أوفى مناصريها، وخاضوا المعارك دفاعا عن شرعيتها وولاءً لحكامها.
الشاهد أن القواسم كان وجودهم في الجصة سابقا لذلك التاريخ، بل تشير المصادر إلى أن قواسم الجصة كانوا يشكلون إمارة يُوصَف شيخها بصفة "الأمير"، وقد أورد الشيخ سالم بن حمود السيابي في كتابه إسعاف الأعيان في أنساب أهل عمان (ص ٧٦) ما نصه: (ناهيك بقواسم الجصة، فقد كادوا يكونون حكومة مستقلة، وتقع الجصة شرقي مسقط، ولهم فيها آثار مهمة شاهدة على مجدهم).
والشاهد أيضا أن القواسم الذين سكنوا الجصة قد دوّنوا تاريخهم فيها، وهو تاريخ يسبق عهد السلطان سعيد بن سلطان -رحمه الله- الذي بدأ حكمه في عام ١٨٠٦م واستمر حتى عام ١٨٥٦م، إذ نجد أن أحد علماء الشافعية من قبيلة القواسم، الذي سكن هو وأجداده الجصة، قد وُلد في مطلع القرن الثالث عشر الهجري، أي في حدود عام 1790م، مما يؤكد أن أجداده استوطنوا الجصة قبل التاريخ الذي أورده الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، وهو عام ١٨١١م.
ومن جانب آخر فإن المؤرخ ابن رزيق والذي دون سيرة السادة البوسعيديين لم يذكر أن السلطان سعيد بن سلطان -رحمه الله- حارب القواسم في مدينة صور، والثابت أن القواسم في صور دارت بينهم وبين قبيلة الجنبة حرب وصادف أن عاد الشيخ سلطان بن صقر القاسمي من الدرعية بعد أن احتجزه أمير الدرعية عن طريق ميناء صور، حيث ذكر عبدالله بن صالح المطوع، في كتابه الجواهر واللآلي في تاريخ عُمان الشمالي صفحة 76-78 في معرض الكلام عن خروج الشيخ سلطان بن صقر القاسمي وفراره من الدرعية عن آل سعود قال: (وقد تعرف أثناء قضاء مناسك الحج على رجال من قبيلة الجنبة من بلدة صور وكانت بينهم وبين القواسم عداوة وحروب ودماء فأحبوا أن تكون لهم عند القواسم يد إحسان فعرضوا على الشيخ سلطان أن يسافر معهم وضمنوا له الوصول)، إلى أن قال: (وعندما وصل الشيخ سلطان إلى صور التف حوله من بقي فيها من القواسم والجنبة وبالغوا في إكرامه ورجوه جميعا أن يتوسط بينهما ويعقد بينهما معاهدة صلح ويزيل الأحقاد فتعهد بذلك ووفى بما تعهد به).
ومما لا شك فيه أن التاريخ حينما يذكر قبيلة، فإنه يذكرها بمجموعها الكبير، لا بأسرة واحدة فقط. وعليه، فإن ما أورده الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي من أن جميع سكان الجصة هم من نسل صالح بن محمد بن صالح بن علي المالودي القاسمي، بعيد عن الواقع. فالثابت أن قبيلة القواسم التي سكنت الجصة تضم أسرًا عديدة معروفة ببيوتها وأفخاذها، وهم أدرى بأنسابهم.
وقد أشار الشيخ الدكتور سلطان كذلك إلى الشيخ مبارك بن عبدالله، وذكر أنه أعقب ولده محمد الذي انتقل إلى الشارقة، دون أن يتطرق إلى ابنيه الآخرين: علي بن مبارك، الذي لا يزال على قيد الحياة في سلطنة عُمان، وأحمد بن مبارك، الذي توفي دون أن يُعقب.
أما نسب الشيخ مبارك بن عبدالله، فهو: مبارك بن عبدالله بن علي بن راشد بن حميد بن سلطان بن خالد بن صقر بن عبد الله بن غانم بن غازي القاسمي.
وهو آخر شيخ في الجصة، وينتمي إلى فخذ أولاد غازي، ولا تربطه صلة نسب بصالح بن محمد بن صالح بن علي المالودي القاسمي الذي أشار إليه الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي.
أما فيما يخص القواسم في سمائل، فقد ذكر الشيخ الدكتور سلطان القاسمي أنهم من نسل ناصر بن سلطان بن صقر القاسمي من ابنه هلال. غير أن ناصرًا، وبحسب المصادر، لم يكن له من الذكور سوى ثلاثة أبناء فقط، وهم: إبراهيم، ومحمد، وماجد، وهم الذين وردت أسماؤهم في المشجرة القاسمية في دولة الإمارات، كما ذكرهم الشيخ سلطان القاسمي في كتابه التذكرة بالأرحام في الصفحة ٧١. وقد أشار إليهم أيضًا لوريمر في كتابه دليل الخليج، حيث ذكر أن ناصر بن سلطان بن صقر القاسمي توفي في رأس الخيمة. وبناءً على ذلك، لا يوجد ما يثبت وجود نسل لهلال بن ناصر بن سلطان القاسمي بين قواسم سمائل.
وبناءً على ما سبق، يتبيّن جليًّا أن قبيلة القواسم في عُمان تُعدّ من القبائل العريقة والمنتشرة في مختلف ولايات السلطنة، وليس من المنطقي حصر وجودها في الجصة وسمائل أو نسبتها إلى شخص واحد فقط، فذلك لا يطابق الواقع ولا ينسجم مع حقائق التاريخ ولا يُقبله العقل.